محمد القبانجي أشهر قارئ مقام عراقي، وأول من وثق لهذا الفن العريق بصوته الشجي على أسطوانات منذ العام 1924.
محمد القبانجي أشهر قارئ مقام عراقي، وأول من وثق لهذا الفن العريق بصوته الشجي على أسطوانات منذ العام 1924.

مرت قبل أيام الذكرى الرابعة والثلاثون لوفاة المطرب العراقي الكبير محمد القبانجي، أشهر قارئ مقام في تاريخ العراق، وأول من وثق لهذا الفن العريق بصوته الشجي على أسطوانات منذ العام 1924. ليس ثمة تاريخ مؤكد لمولد محمد عبد الرزاق الطائي الشهير بمحمد القبانجي. والتواريخ التي يتم تداولها تتراوح بين عامي 1897 و1904، ولكن هناك من يقترح العام 1901، وهو ما جرى التوافق عليه منذ سنوات.

كانت هذه الولادة في محلة سوق الغزل وسط بغداد لأسرة موصلية الأصل يمتهن ربُّها مهنة القبانة، وهي مهنة مرموقة في العصر العثماني تدر على صاحبها دخلاً كبيراً. ويقوم القبانجي بوزن المواد الغذائية في الأسواق. وكما ورث عن والده مهنته ولقبه؛ ورث أيضاً حب الغناء؛ فقد كان للوالد مجلس يرتاده عدد من قارئي المقام الذين حفرت أصواتهم وألحانهم عميقاً في وجدان الفتى.

 

مغن في المقاهي وممثل

 

أدى تعلق محمد القبانجي بالغناء صغيرا إلى تركه الدراسة والتوجه نحو العمل قبانجياً، وبالتزامن مع ذلك أخذ يتردد على مقاه أغلب روادها من المغنين والموسيقيين، من بينهم قدوري العيشة، وسيد ولي، ورشيد القندرجي، ومحمود الخياط، حيث كان يستمع لهم بشفغ وينصت لأدائهم. وقد توثقت صداقته مع قدوري العيشة المرجع في قراءة المقام البغدادي في ذلك الوقت، وعنه أخذ جميع أسرار هذا الفن. 

ينقل صديقه عقيل النساج في أحد اللقاءات الصحافية عن القبانجي قوله: "كان العيشة يدندن ويلحن ويغني وأنا اقرأ له الشعر من نظمي، وكان يستفيد مني في هذا المجال، فيما استزدت من حفظ الشعر قبل الغناء وصولاً لتحقيق حلمي في أن أكون مغنياً وقارئاً للمقام على أساس جديد".

ويضيف النساج: "بدأ القبانجي يطرح نفسه كقارىء مقام في مطلع العشرينات من القرن العشرين، وقد لاقى استحسان أستاذه العيشة ووالده وزملائه المقرئين، بالرغم من أن البعض قد اتهمه بالخروج عن قواعد المقام. ولكن طموحه وبحثه دفعا به إلى الشهرة".

توفي الشيخ عثمان الموصلي سنة 1923 عن عمر 69 عاما. [صورة  الشيخ الموصلي من موقع "الوتر السابع"]
مئوية عثمان الموصلي.. عبقري النغم الذي حطمت داعش تمثاله
تحل هذا العام الذكرى المئوية لوفاة الشيخ عثمان الموصلي الشهير باسم "ملا عثمان"، وهو واحد من الرموز الوطنية للعراق الحديث، وأحد أهم مطوري الموسيقى العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. فنان أدمن الترحال، تاركاً في كل مكان يزوره نغمات خالدة لا يزال يرددها مطربو العرب من المحيط إلى الخليج.

ويتابع: "كان محمد القبانجي يغني في المقاهي، مقهى صالح، ومقهى فرج في شارع الرشيد، ومقهى البرلمان، وحسن عجمي. وفي أغلب الأوقات كان يقرأ من الساعة التاسعة إلى العاشرة مساءاً، ويتقاضى مبلغ ربع دينار مقابل ساعة الغناء، والربع دينار في حينه كان يمثل ربع إيراد مقهى تضم مائة شخص، حيث كان سعر كأس الشاي عشرة فلوس".

في تلك المرحلة تعرف القبانجي على الشيخ كاظم الشمخاني من وجهاء البصرة وتجارها المعدودين، والذي كان من أشد المعجبين به فاصطحبه إلى هناك، وأغدق عليه العطايا كما يقول عقيل النساج. ومن الأموال التي حصلها من رحلة البصرة، بدأ مشروعاً تجارياً جعله من أثرياء بغداد فيما بعد، ولكن تجارته لم تصرفه عن المقام فقد أصبح في منتصف العشرينات أشهر قارئ مقام في العراق كله فقد سجلت له شركة بيضافون بعض الأسطوانات، وسافر إلى ألمانيا لتسجيل أسطوانات أخرى خلال الأعوام من 1926 الى 1929.

لم يكن القبانجي غائباً عن أول فرقة مسرحية احترافية في العراق عام 1927، والتي عرفت باسم الفرقة التمثيلية الوطنية، فقد شارك إلى جانب الفنان حقي الشبلي، والفنان أحمد حقي الحلي، والفنان عزيز علي في مسرحيات "وحيدة"، و"صلاح الدين الايوبي"، و"جزاء الشهامة".

 

مؤتمر الموسيقى العربية

 

مع كل ذلك، تبقى العلامة الفارقة في تاريخ القبانجي هي مشاركته في المؤتمر الأول للموسيقى العربية الذي عقد في القاهرة عام 1932، تحت رعاية الملك فؤاد الأول؛ بهدف الحفاظ على التراث الموسيقي والغنائي العربي وتوثيقه صوتياً، خصوصا بعد وفاة أعلامه الكبار أمثال يوسف المنيلاوي وسيد درويش ورثة وتلاميذ موسيقي القرن التاسع عشر. 

وقد نقلت مجلة الصباح المصرية في عددها الصادر في 18 مارس 1932 عن سكرتير مجلس الوزراء العراقي قوله إن بلاده قررت إيفاد الأستاذ محمد القبانجي قارئ المقامات وعزوري هارون عازف العود، ويوسف زعرور الصغير عازف القانون وصالح شميل عازف الكمان ويوسف بتو عازف السنطور وإبراهيم صالح عازف الإيقاع للمشاركة في المؤتمر. 

وأكد المسؤول العراقي أن اختيار هذه الأسماء تم بعد بحث وتدقيق واستشارة أرباب الفن وكلهم أجمعوا على أن هؤلاء خير من يمثل الموسيقى العراقية القديمة وسلمها الموسيقي. وأضاف أن رئيس الوفد هو الأستاذ محمد القبانجي. 

وفي العدد اللاحق، يوم 1 أبريل 1932، أجرت مجلة الصباح مقابلة مع القبانجي أكد فيها قبول لجنة المؤتمر جميع المقترحات التي تقدم بها لتسجيلها على الأسطوانات التي بلغ عددها 20 أسطوانة احتوت أهم المقامات العراقية. 

وأوضح القبانجي أنه سئل عن المقام الإبراهيمي فقال إنه نفسه المقام المعروف في مصر باسم البياتي على الحسيني، وأنه من زمن الموسيقي إبراهيم الموصلي (742م - 806م) المعاصر للخليفة هارون الرشيد، وأن المقام على اسمه. وكذلك سئل عن المقام المنصوري فقال إنه منسوب لعازف العود منصور زلزل. وقال إن اللجنة سمعت منهم البستات العراقية وهي مماثلة للطقاطيق المصرية.

وقال القبانجي إن رئيس لجنة التسجيل أبلغه أن المشاركة العراقية هي الحجر الثمين في المؤتمر، مؤكداً أن هدفه من المشاركة هو خدمة الفن لا غير.

 

في سجل الخالدين

 

يقول المؤرخ الموسيقي العراقي حسين الأعظمي إن القبانجي سجل في القاهرة مقام المنصوري "كيف يقوى على الجفا مستهام، وأنه لو لم يسجل غيره لكان كافياً أن يخلده التاريخ". ويضيف أنه "من أجمل المقامات المعبرة، وهو أيضا من أصعب المقامات، مكثف بشكل غريب في تعابيره الشجية، ويكاد يكون المقام الأكثر من غيره تعبيراً عن مأساة العراقيين على مدى التاريخ، كثف في ربع ساعة كل تاريخ العراق في تعابير أدائية.. الكثير من المقامات حقيقة أداها محمد القبانجي وتعتبر منعطفاً كبيراً، والأهم من ذلك طريقته الرومانتيكية المتفجرة دائما بثورات وإبداعات جديدة".

ويؤكد الأعظمي أن طريقة القبانجي في غناء المقامات العراقية "ستبقى على مدى الدهر، وكل ما يخرج من تجديدات أخرى فهي من صلب الطريقة القبانجية، لأنها الأصل في الحداثة التي خرجت لأول مرة عن طوق المحلية".

وحول مشاركة القبانجي في المؤتمر الموسيقي، يكتب تلميذه المطرب الشهير ناظم الغزالي (1921- 1963م) في مذكراته ما يلي: " سافر الأستاذ القبانجي إلى القدس عام 1932 وهناك أقام حفلتين. بقي الأستاذ القبانجي ثلاثة أشهر في القاهرة أثناء انعقاد المؤتمر الموسيقي هناك وكانت مصاريف الإقامة والمأكل على حساب الحكومة المصرية، سجل المؤتمر خمسا وثلاثين أسطوانة، لم يبق منها سوى خمس أو عشر أسطوانات وقسم من هذه الأسطوانات محفوظ في معهد فؤاد الأول".

ولا ينسى الغزالي الإشارة إلى بعض عادات أستاذه فيقول: "الأستاذ محمد القبانجي لا يشرب القهوة مطلقاً ولايدخن مطلقاً، ويأكل على طريقته الخاصة، يكره أن يرى نفسه في المرآة لأن المرآة في نظره تظهر عيوب البشر، لذلك فهو لا يحلق عند حلاق حتى لا يرى نفسه في المرآة، بل يرسل على الحلاق، وإذا سافر القبانجي خارج العراق يطلب من الحلاق أن يكون الكرسي معكوسا".

تحول القبانجي خلال حياته وبعد مماته إلى أحد الرموز الوطنية العراقية، وقد ذكره المطرب كاظم الساهر في مواله الشهير عن "الغربة" كأحد معالم العراق التي يشتاق إليها مثل نهر دجلة ساعة الغروب، كما حظي القبانجي بالتكريم من بلاده ومن منظمات أممية مثل اليونسيكو التي منحته عام 1980 وسامها، باعتباره واحداً من أعظم موسيقيي قارة آسيا. 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".