صورة لجواد سليم أمام جداريته الشهيرة- من موقع ويكيبيديا
صورة لجواد سليم أمام جداريته الشهيرة- من موقع ويكيبيديا

يحضر جواد سليم في وعي معظم العراقيين، وإن كان غير معروف بالضرورة لكثيرين منهم. فما من عراقي على الغالب، في زماننا هذا، وطأت قدماه ساحة التحرير في بغداد، إلا ووقع نظره، ولو بشكل عابر، على نصب الحرية الماثل هناك.

والنصب عبارة عن جدارية ضخمة تحكي بالرموز المنحوتة تاريخ العراق ونضال أبنائه.

وهذه الجدارية، المؤلفة من 14 منحوتة بارتفاع ثمانية أمتار، تمثّل خلاصة أعمال جواد سليم، الفنان العراقي الذي قضى نحبه "بعد أن تسلّق السلالم المفضية إلى قمة جداريته، فأصيب بذبحة قلبية قاصمة تسببت في وفاته قبل وقت قصير من الاحتفال بإزاحة الستار عن أحد أبرز معالم العراق الفنية عام 1961"، على ما يقول شوقي بزيع في كتابه "زواج المبدعين"، في جزء خصصه للحديث عن زواج سليم من الفنانة البريطانية المعاصرة لورنا هيلز.  

افتتحت أمانة بغداد قبل أيام ساحة التحرير وحديقة الأمة بعد تأهيلهما، لتظهرا بحلة جديدة تضمنت إنشاء نافورة كبيرة راقصة،...

Posted by ‎Irfaa Sawtak - ارفع صوتك‎ on Monday, October 24, 2022

 

ولد جواد سليم في العام 1919 لأسرة بغدادية صغيرة قاطنة في أنقرة في تركيا، بحكم وظيفة الأب العسكرية هناك.

وفي بيت صغير، "بشناشيل تطل على زقاق ملتو يمتد بين البيوت البغدادية المتعانقة"، نشأ جواد بعد عودة الأسرة إلى العراق، و"قطع فترة طفولته في أحضان أب كان يعشق الرسم ويعتبره هوايته المفضلة، وأم ذكية ذات حس فطري كانت تجبل من الطين تماثيل صغيرة لقرويات الجنوب وتقدمها لطفلها جواد"، كما جاء في كتيّب تعريفي بسليم، من إعداد نوري الراوي، نشرته جمعية الفنانين العراقيين، ويتضمن سيرة ذاتية مختصرة للفنان العراقي استناداً إلى مقابلة مع شقيقته، بالإضافة إلى مجموعة من الصور الخاصة والأعمال الفنية التي أنجزها في حياته.

ويبدو أن طفولة سليم شكّلت تأسيساً مهمّاً لذوقه الفني وحسماً مبكراً لما أراد أن يكونه حينما يكبر، "فقد كان الأخوة يعيشون في كنف والد رحب الأفق منفتح الذهن، وهذا ما أودع في نفوسهم حب الفن منذ الصغر"، بحسب الكتيّب. وفي تلك الفترة التي عاشها سليم في هذا البيت البغدادي الأول، "أولع بفنّ النحت حينما كان يصنع من الطين لعباً صغيرة يحاكي بها لعب أمه".

وحينما أتمّ الشاب دراسته الثانوية، أُرسل في بعثة دراسية إلى باريس لدراسة فن النحت، وتتلمذ على يد الفنان الكلاسيكي كاومونت. و"هناك تفتحت مواهبه الفنية، قبل أن يرجع مجدداً إلى بغداد، ليشدّ الرحال مرة أخرى إلى إيطاليا، وبقي فيها حتى نشوب الحرب العالمية الثانية، فعاد إلى وطنه من جديد فيما الحرب تنهش أوروبا. وبعد انتهاء الحرب، تهيّأت لسليم فرصة الذهاب إلى بريطانيا، وفي كلية "سليد" للفنون في لندن، حيث تعرف إلى زوجته لورنا، وتلقّى آخر دروسه الفنية قبل أن يعود إلى بغداد، ليدرّس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، ثم ليكون، آخر الأمر، رئيساً لهذا الفرع في المعهد المذكور حتى نهاية حياته"، على ما جاء في الكتيّب.

وبحسب جبرا إبراهيم جبرا في كتابه "جواد سليم ونصب الحرية"، فإن اهتمام سليم لم يكن يقتصر على الرسم والنحت فقط، بل كانت له اهتمامات بالخزف ورسم الكاريكاتير وتصميم أغلفة الكتب. ويكشف الكتاب أن سليم في عمر الحادية عشرة من عمره حصل على الجائزة الفضية في النحت خلال أول معرض للفنون أقيم في بغداد سنة 1931.

وكان جواد سليم، بحسب جبرا أيضا، كان يحب الموسيقى الكلاسيكية والمقام العراقي والشعر ويجيد عدداً من اللغات، إضافة إلى العربية.

ويبدو أن هذه السيرة الحافلة بالفن، بالإضافة إلى العلاقات الوطيدة التي ربطته بالمهندسين العراقيين العائدين من دراستهم في الخارج، من أمثال رفعت الجادرجي ومحمد مكية ومدحت مظلوم، فضلاً عن "الحماس الشديد الذي أظهره إزاء الثورة (التي أطاحت بالملكية)، رغم وجهها الدموي، ولزعيمها عبد الكريم قاسم"، قادت في العام 1958 إلى أن يقترح الجادرجي على الرئيس تكليف سليم بإقامة نصب شاهق في وسط العاصمة بغداد.

يكون هذا النصب، كما يشير بزيع في كتابه، "ترجمة رمزية وجمالية لروح الثورة ولتوق الشعب العراقي إلى الحرية".

وما لبث أن وجد سليم نفسه، بعد القبول بالمهمة، وسفره إلى إيطاليا لهذه الغاية، في مواجهة "سلسلة لا تنتهي من المتاعب والمطبات التي لم يكن الشأن التقني سوى جانبها الأقل وطأة". ويتابع بزيع أن "ما آلم جواد في تلك الفترة لم يكن الضغط الهائل الذي مورس عليه لإنهاء جداريته الموعودة في أقصر وقت ممكن، بل التهم المتعلقة بهدر الأموال وتبديدها، تلك التي كان يقف خلفها الغيورون من نجاح الفنان وشهرته وسطوع نجمه".

وقد أثّرت تلك الحالة من الضغط النفسي والجسدي على الوضع الصحي لسليم الذي كان يعاني في شبابه من فقر الدم، وكان يقع تحت وطأة التخيلات حسبما تروي زوجته في السيرة التي كتبتها الروائية العراقية إنعام كجه جي بعنوان "لورنا: سنواتها مع جواد سليم"، إذ "كان يتخيل أن هناك من يراقبه ويتآمر عليه لمنعه من إنجاز النصب، بل إن هناك من يدبّر اغتياله. ثم أخذ يمنع زوجته وابنتيه من مغادرة البيت، ويرفض الردّ على المكالمات التي تصله خشية أن يكون هناك من يتجسس عليه".

ويتحدث كنعان مكية في كتابه "قوس النصر: الفنّ الشمولي في عراق صدام" عن شخصية جواد سليم ذات الطابع "الرومانسي"، وقد كان صديقاً لوالده المعماري محمد مكية. وفي تلك الفترة تحديداً (الخمسينات)، يقول كنعان "لم يبرز حسب ظني فنان عربي واحد يضاهي موهبة جواد سليم". وكان العراق كما تخيله جواد سليم "رومانسي الطبع، والرومانسية حسب ظني تظلّ إلى اليوم ماثلة في المزاج المهيمن على الأوساط الفنية العراقية"، بحسب مكية.

قبل عمله على نصب الحرية، الذي مات قبل وقت قصير من إزاحة الستار عنه، كان لسليم اهتمامات جمّة بتراث العراق وآثاره، وقد قام ساطع الحصري، الذي أسس متحف بغداد للآثار ومعهد الفنون الجميلة في الثلاثينات، بإحضار الشاب جواد سليم وغيره من الفنانين الناشئين للعمل في المتحف، كما يكشف مكية في كتابه، و"كلّفوا بمهمة ترميم النقوش الأثرية القديمة ثم تدريس الرسم والنحت في معهد الفنون الجديد".

لقد شكّل نصب الحرية "ذروة أعمال سليم النحتية" بحسب بزيع. أما جبرا فيشير إلى أن سليم "وهو يهمّ بإنجاز نصب الحرية، كان يحاول أن يتخطى المحلّية ذات الحلول الفجة التي كانت تظهر في نتاجات جماعة بغداد للفن الحديث، وتصرّف بوصفه فناناً معنيا بدرجة كبيرة بالجانب البصري، رغم كل الأهداف الأيديولوجية".

ويرى بزيع أن موت سليم المأسوي وهو يعمل على إنجاز هذا العمل، "لا تجعل منه الشهيد الذي قضى على مذبح الوطن والحرية فحسب، بل شهيد العلاقة الصعبة والملتبسة بين المبدع ونتاجه الإبداعي وبين الفن والموت في الوقت ذاته".

ويتابع بزيع: "كأن قلب النحّات العبقري المعطوب شاء أن يمهله الفترة الكافية لإنجاز ذروة أعماله النحتيه، حتى إذا أطلّ من هذه الذروة على العالم، توقّف عن الخفقان، تاركاً للجسد المهيض أن يفنى، وللنصب المتفرّد الذي صنعه بنفسه، أن ينوب عنه في رحلة البحث عن الخلود".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".