يحضر جواد سليم في وعي معظم العراقيين، وإن كان غير معروف بالضرورة لكثيرين منهم. فما من عراقي على الغالب، في زماننا هذا، وطأت قدماه ساحة التحرير في بغداد، إلا ووقع نظره، ولو بشكل عابر، على نصب الحرية الماثل هناك.
والنصب عبارة عن جدارية ضخمة تحكي بالرموز المنحوتة تاريخ العراق ونضال أبنائه.
وهذه الجدارية، المؤلفة من 14 منحوتة بارتفاع ثمانية أمتار، تمثّل خلاصة أعمال جواد سليم، الفنان العراقي الذي قضى نحبه "بعد أن تسلّق السلالم المفضية إلى قمة جداريته، فأصيب بذبحة قلبية قاصمة تسببت في وفاته قبل وقت قصير من الاحتفال بإزاحة الستار عن أحد أبرز معالم العراق الفنية عام 1961"، على ما يقول شوقي بزيع في كتابه "زواج المبدعين"، في جزء خصصه للحديث عن زواج سليم من الفنانة البريطانية المعاصرة لورنا هيلز.
ولد جواد سليم في العام 1919 لأسرة بغدادية صغيرة قاطنة في أنقرة في تركيا، بحكم وظيفة الأب العسكرية هناك.
وفي بيت صغير، "بشناشيل تطل على زقاق ملتو يمتد بين البيوت البغدادية المتعانقة"، نشأ جواد بعد عودة الأسرة إلى العراق، و"قطع فترة طفولته في أحضان أب كان يعشق الرسم ويعتبره هوايته المفضلة، وأم ذكية ذات حس فطري كانت تجبل من الطين تماثيل صغيرة لقرويات الجنوب وتقدمها لطفلها جواد"، كما جاء في كتيّب تعريفي بسليم، من إعداد نوري الراوي، نشرته جمعية الفنانين العراقيين، ويتضمن سيرة ذاتية مختصرة للفنان العراقي استناداً إلى مقابلة مع شقيقته، بالإضافة إلى مجموعة من الصور الخاصة والأعمال الفنية التي أنجزها في حياته.
ويبدو أن طفولة سليم شكّلت تأسيساً مهمّاً لذوقه الفني وحسماً مبكراً لما أراد أن يكونه حينما يكبر، "فقد كان الأخوة يعيشون في كنف والد رحب الأفق منفتح الذهن، وهذا ما أودع في نفوسهم حب الفن منذ الصغر"، بحسب الكتيّب. وفي تلك الفترة التي عاشها سليم في هذا البيت البغدادي الأول، "أولع بفنّ النحت حينما كان يصنع من الطين لعباً صغيرة يحاكي بها لعب أمه".
وحينما أتمّ الشاب دراسته الثانوية، أُرسل في بعثة دراسية إلى باريس لدراسة فن النحت، وتتلمذ على يد الفنان الكلاسيكي كاومونت. و"هناك تفتحت مواهبه الفنية، قبل أن يرجع مجدداً إلى بغداد، ليشدّ الرحال مرة أخرى إلى إيطاليا، وبقي فيها حتى نشوب الحرب العالمية الثانية، فعاد إلى وطنه من جديد فيما الحرب تنهش أوروبا. وبعد انتهاء الحرب، تهيّأت لسليم فرصة الذهاب إلى بريطانيا، وفي كلية "سليد" للفنون في لندن، حيث تعرف إلى زوجته لورنا، وتلقّى آخر دروسه الفنية قبل أن يعود إلى بغداد، ليدرّس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، ثم ليكون، آخر الأمر، رئيساً لهذا الفرع في المعهد المذكور حتى نهاية حياته"، على ما جاء في الكتيّب.
وبحسب جبرا إبراهيم جبرا في كتابه "جواد سليم ونصب الحرية"، فإن اهتمام سليم لم يكن يقتصر على الرسم والنحت فقط، بل كانت له اهتمامات بالخزف ورسم الكاريكاتير وتصميم أغلفة الكتب. ويكشف الكتاب أن سليم في عمر الحادية عشرة من عمره حصل على الجائزة الفضية في النحت خلال أول معرض للفنون أقيم في بغداد سنة 1931.
وكان جواد سليم، بحسب جبرا أيضا، كان يحب الموسيقى الكلاسيكية والمقام العراقي والشعر ويجيد عدداً من اللغات، إضافة إلى العربية.
ويبدو أن هذه السيرة الحافلة بالفن، بالإضافة إلى العلاقات الوطيدة التي ربطته بالمهندسين العراقيين العائدين من دراستهم في الخارج، من أمثال رفعت الجادرجي ومحمد مكية ومدحت مظلوم، فضلاً عن "الحماس الشديد الذي أظهره إزاء الثورة (التي أطاحت بالملكية)، رغم وجهها الدموي، ولزعيمها عبد الكريم قاسم"، قادت في العام 1958 إلى أن يقترح الجادرجي على الرئيس تكليف سليم بإقامة نصب شاهق في وسط العاصمة بغداد.
يكون هذا النصب، كما يشير بزيع في كتابه، "ترجمة رمزية وجمالية لروح الثورة ولتوق الشعب العراقي إلى الحرية".
وما لبث أن وجد سليم نفسه، بعد القبول بالمهمة، وسفره إلى إيطاليا لهذه الغاية، في مواجهة "سلسلة لا تنتهي من المتاعب والمطبات التي لم يكن الشأن التقني سوى جانبها الأقل وطأة". ويتابع بزيع أن "ما آلم جواد في تلك الفترة لم يكن الضغط الهائل الذي مورس عليه لإنهاء جداريته الموعودة في أقصر وقت ممكن، بل التهم المتعلقة بهدر الأموال وتبديدها، تلك التي كان يقف خلفها الغيورون من نجاح الفنان وشهرته وسطوع نجمه".
وقد أثّرت تلك الحالة من الضغط النفسي والجسدي على الوضع الصحي لسليم الذي كان يعاني في شبابه من فقر الدم، وكان يقع تحت وطأة التخيلات حسبما تروي زوجته في السيرة التي كتبتها الروائية العراقية إنعام كجه جي بعنوان "لورنا: سنواتها مع جواد سليم"، إذ "كان يتخيل أن هناك من يراقبه ويتآمر عليه لمنعه من إنجاز النصب، بل إن هناك من يدبّر اغتياله. ثم أخذ يمنع زوجته وابنتيه من مغادرة البيت، ويرفض الردّ على المكالمات التي تصله خشية أن يكون هناك من يتجسس عليه".
ويتحدث كنعان مكية في كتابه "قوس النصر: الفنّ الشمولي في عراق صدام" عن شخصية جواد سليم ذات الطابع "الرومانسي"، وقد كان صديقاً لوالده المعماري محمد مكية. وفي تلك الفترة تحديداً (الخمسينات)، يقول كنعان "لم يبرز حسب ظني فنان عربي واحد يضاهي موهبة جواد سليم". وكان العراق كما تخيله جواد سليم "رومانسي الطبع، والرومانسية حسب ظني تظلّ إلى اليوم ماثلة في المزاج المهيمن على الأوساط الفنية العراقية"، بحسب مكية.
قبل عمله على نصب الحرية، الذي مات قبل وقت قصير من إزاحة الستار عنه، كان لسليم اهتمامات جمّة بتراث العراق وآثاره، وقد قام ساطع الحصري، الذي أسس متحف بغداد للآثار ومعهد الفنون الجميلة في الثلاثينات، بإحضار الشاب جواد سليم وغيره من الفنانين الناشئين للعمل في المتحف، كما يكشف مكية في كتابه، و"كلّفوا بمهمة ترميم النقوش الأثرية القديمة ثم تدريس الرسم والنحت في معهد الفنون الجديد".
لقد شكّل نصب الحرية "ذروة أعمال سليم النحتية" بحسب بزيع. أما جبرا فيشير إلى أن سليم "وهو يهمّ بإنجاز نصب الحرية، كان يحاول أن يتخطى المحلّية ذات الحلول الفجة التي كانت تظهر في نتاجات جماعة بغداد للفن الحديث، وتصرّف بوصفه فناناً معنيا بدرجة كبيرة بالجانب البصري، رغم كل الأهداف الأيديولوجية".
ويرى بزيع أن موت سليم المأسوي وهو يعمل على إنجاز هذا العمل، "لا تجعل منه الشهيد الذي قضى على مذبح الوطن والحرية فحسب، بل شهيد العلاقة الصعبة والملتبسة بين المبدع ونتاجه الإبداعي وبين الفن والموت في الوقت ذاته".
ويتابع بزيع: "كأن قلب النحّات العبقري المعطوب شاء أن يمهله الفترة الكافية لإنجاز ذروة أعماله النحتيه، حتى إذا أطلّ من هذه الذروة على العالم، توقّف عن الخفقان، تاركاً للجسد المهيض أن يفنى، وللنصب المتفرّد الذي صنعه بنفسه، أن ينوب عنه في رحلة البحث عن الخلود".