فيلم "غزل البنات" كان آخر أعمال نجيب الريحاني.

في الظهور الأخير بكى الفنان الذي أفنى حياته في إضحاك الجمهور بكاءً حقيقياً على الشاشة، وهو يسترجع المآسِي التي اختبرها خلال حياته، لتختلط ملامح "أستاذ حمام" في فيلم "غزل البنات" مع شخصية "كشكش" المسرحية، بشكل أهّل الفنان، نجيب الريحاني، للّقب "الضاحك الباكي" إلى جانب العديد من الألقاب التي حملها خلال مسيرته، منها: "زعيم المسرح الفُكاهي" و"شارلي شابلن العرب".

في 8 يونيو 1949، رحل نجيب الريحاني، مخلفاً وراءه إرثاً فنياً كبيراً، وسيرة حافلة بالنجاحات، والإخفاقات وأيضا، وخلافا حول أصول الفنان الذي عاش ومات مصرياً، رغم جذوره العراقية.

 

غموض وروايات متعدّدة

 

يُثار خلاف حول تاريخ ومكان ولادة الريحاني، ويذهب عراقيون في مقدمتهم الأديب والصحفي، مشكور الأسدي، والمؤرخ عبد المنعم الغلامي، للتأكيد على أن مولده كان في مدينة الموصل، ويرجحان أنه حدث في الفترة بين 1890 و1892، قبل أن يهاجر أبواه به وبأخيه الأكبر إلى مصر وهما صغيران.

لكن المتفق عليه بشكل عام أن الريحاني وُلد في مدينة القاهرة في 21 يناير 1889، من أب عراقي كلداني تعود أصوله إلى مدينة الموصل يُدعى إلياس ريحانة، وأمّ مصرية قبطية تُدعى لطيفة بُحلُق.

عاش الريحاني طفولته في حي باب الشعريّة في القاهرة، حيث امتلك والده مصنعاً للجبس (الجبص) وفر للأسرة حياة ميسورة، حيث التحق الأبناء بمدرسة "الفرير" الفرنسية ليحصلوا على تعليم "نخبوي"، وهو ما ظهر أثره لاحقاً في مسيرة نجيب الفنية عندما وظف معرفته الواسعة باللغة الفرنسية لنقل العديد من الأعمال الأدبية والفنية إلى العربية.

الخلاف الذي أحاط تاريخ ومكان ميلاد الفنان الراحل، توسع ليطال أسباب هجرة والده من الموصل إلى مصر، وهنا تتعدّد الروايات أيضاً. ومنها أن إلياس ريحانة، الذي كان يعمل في تجارة الخيول في الموصل، زار القاهرة لأغراض التجارة وهناك تعرف إلى زوجته المصرية حيث تزوجا وقرّر البقاء في مصر، وهي رواية تسردها ابنته الوحيدة، جينا الريحاني، من زوجته الفرنسية، لوسي دي فرناي.

لكن رواية ثانية تشير إلى أن إلياس ريحانة تزوج وعاد إلى الموصل قبل أن يقرّر الهجرة إلى القاهرة حتى لا تشعر زوجته المصرية بالغربة، وهناك غيّر مهنته من تجارة الخيول إلى تأسيس مصنع للجبس.

ذلك الجدل كان يمكن للفنان الراحل أن يحسمه عندما كتب مذكراته قبل عام على وفاته، وهي المذكرات التي صدرت عام 1959، وقدم لها صديقه المؤلف المسرحي، بديع خيري.

لكن المذكرات لم تتضمن أية إشارة إلى مكان وتاريخ ولادة الريحاني، كما لا تأتي على ذكر العراق وأسباب انتقال العائلة المفترض من الموصل إلى القاهرة، وأكثر من ذلك تخلو تماماً من أي ذكر لوالده.

وتتمحور المذكرات حول المسيرة الفنية بكل ما تضمنته من إخفاقات ونجاحات، وتأتي في سرد يحمل جانباً كبيراً من الجِديّة، لتكشف عن جانب مخفي في سيرة الفنان الهزليّ.

ملصق فيلم "عليا وعصام" الذي يعتبر أول فيلم من انتاج عراقي
السينما العراقية بين "حرية" أفلام "الأسود والأبيض" وقمع "ألوان" البعث
الملصق بالأبيض والأسود، يظهر فيه اسم الفيلم "عليا وعصام"، وأسماء ثلاثة ممثلين، هم إبراهيم جلال وسليمة مراد وعزيمة توفيق، كما يظهر عصام محتضناً عليا. وفي أعلاه عبارة "ستوديو بغداد للأفلام يقدّم"، وفي الأسفل شعار "ستوديو بغداد للأفلام والسينما"، وهي الشركة التي أنتجت الفيلم.

البحث في أصول الريحاني كان عملاً عراقياَ خالصاً، إذ لم يشهد الجانب المصري جدلاً حول أصول الفنان الذي يرد في التاريخ الفني مصرياً خالصاً، باستثناء إشارات معزولة في معرض تحليل شخصيته، على غرار ما يذهب الكاتب والروائي، يحيى حقي، في المقال الذي كتبه عام 1954، حول مسرح الريحاني.

 يقول: "لا أريد أن أتحدث عن منشأ الريحاني وعشيرته التي ينتمي إليها أصله، وقدرتها على الاندماج في مصر أو قدرة ثرى مصر على استيعابها، فقد أصدر شعب مصر السخي الكريم حكمه، فلا نقض له ولا استئناف، ارتضى أن يحتضن الريحاني وأن ينزله عنده منزلة الأبناء".

في محاولة لتحليل اضطراب حياة الفنان، يتابع حقي: "هذا لا يمنعني من أن أرى في ازدواج الريحاني بين الأصل والمصير مفتاح ألغاز حياته وتفسير شخصيته، وأجزم وليس في يدي دليل سوى شعوري بأن الريحاني عاش طيلة حياته يشعر بفارق مكتوم بينه وبين المصريين، وهذا سر وحدته الملحوظة في حياته العامة والخاصة".

 

الضحك والبكاء

 

برزت موهبة الريحاني خلال سنوات دراسته في "الفرير" حيث جرى اختياره ليكون رئيساً لفريق التمثيل، ومع أن حياته المهنية بدأت بعيداً عن الفن، وتحديداً في البنك الزراعي، فقد كان يحرص على التردد على المسارح للقيام بأدوار "كومبارس"، وهو عمل لم يؤمن له دخلاً يمكنه من التفرغ للفن.

عام 1910، وبحثاً عن الاستقرار المالي، عمل الريحاني في شركة السكر في صعيد مصر. وبعد سبعة شهور فصل من عمله، فحاول التفرغ للمسرح دون أن ينجح في ذلك، ليعود مجدداً للعمل في شركة السكر حتى العام 1914، عندما قرر التفرغ للمسرح ملتحقاً بفرقة جورج أبيض، حيث أسندت إليه أدوار بسيطة، لكنه سرعان ما فصل من الفرقة بسبب التعديل الفردي الذي كان يجريه على الشخصيات.

تنقل الريحاني للعمل في العديد من الفرق المسرحية، وفي كل مرّة كانت تبرز شخصيته الهزليّة القادرة على إضحاك الجمهور، ليأتي العام 1916، علامة فارقة في حياته الفنية عندما ابتكر شخصية "كشكش بيك" التي تتناول شخصية عمُدة ريفي ساذج يقع فريسة لمواقف مضحكة، ليقدم منها سلسلة من المسرحيات لاقت نجاحاً باهراً، ليؤسس بعدها فرقة خاصة، ويشغل مسرحاً لحسابه.

النجاح لم يكن حليفاً دائماً للريحاني، إذ شهدت مسيرته العديد من محطات الإخفاق، والفشل، وفي كل مرّة كان يعود إلى موقع النجاح عبر بوابة الإضحاك والمسرحيات الاستعراضية التي كانت تلاقي رواجاً في ذلك الوقت، إضافة إلى نقل العديد من الأعمال الأدبية الفرنسية إلى المسرح المصري مما حقق قبولاً لدى الجمهور.

وجد الريحاني في صعود الميلودراما فرصة لخوض تجربة جديدة، لكن الفنان الذي ترسخ لدى الجمهور في شخصية "كشكش" قوبل مشروعه الدرامي بالتشكيك والسخرية وخرج منه مفلساً، ليعود إلى مهنة الإضحاك بهدف تأمين المال اللازم لمشاريعه "الجادة".

بعد خسارات متتالية، ومع فترة الاضطرابات التي عاشتها مصر بعد 1930، خاض الريحاني تجارب السخرية السوداء، عبر جملة من الأعمال المسرحية أشهرها على الإطلاق "حكم قرقوش" التي تنتقد فساد الحكم، و"حسن ومرقص وكوهين" التي تتناول الفروقات الدينية دور المصالح المتبادلة في إذابتها، ليستقبل الجمهور بترحيب الريحاني في صورته الجديدة.

ورغم اأنه يفصح في مذكراته عن كراهيته الشديد للسينما، إلا انه خاض التجربة ولاقت استحسان النقاد والجمهور، فكان فيلم "سلامة في خير"، وفيلم "غزل البنات" بدور أستاذ اللغة العربية "حمام"، متنقلاً فيه بين الكوميديا والدراما، فأضحك الجمهور وأبكاهم.

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".