لميعة عباس عمارة، المولودة في بغداد عام 1929، عرفت بجرأتها في كتابة الشعر | Source: social media
لميعة عباس عمارة، المولودة في بغداد عام 1929، عرفت بجرأتها في كتابة الشعر | Source: social media

في مثل هذه الأيام، قبل عامين، رحلت عن عالمنا الشاعر العراقية الفذة لميعة عباس عمارة، والتي تمتّعت بموهبة كبيرة وضعتها ضمن مصاف شعراء العراق المعاصرين مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة.

 

الشاعرة لميعة

 

يقول حميد المطبعي في كتابه "موسوعة العراق في القرن العشرين"، إن لميعة وُلدت في بغداد عام 1929، وتلقت تعليمها فيها حتى المرحلة الثانوية قبل أن تنتقل إلى مدينة العمارة في محافظة ميسان بعد انتقال أسرتها إليها، حيث عمل والدها في تجارة الذهب والفضة.

من هذا الانتقال اكتسبت لميعة لقب "عمارة"، الذي ظلَّ ملاصقاً لها حتى وفاتها.

نشأة لميعة في العمارة أصقلت موهبتها الأدبية لأن في لغة أهلها "الكثير من الفصحى والعواطف الحقيقية"، على حد تعبيرها.

ورغم أنها مندائية فإن مؤثرا شيعيا تسلّل إلى نفسها منذ الصغر، وهو مجالس العزاء. تحكي قائلة: "كنت أذهب من مجلس إلى آخر، وكنت أكثر الناس بكاء، تعلمت على هذا الوزن وهذه اللمسة الإنسانية، إن الرثاء الحسيني يعلّم رقة القلب".

في 1950 أنهت دراستها في دار المعلمين العالية، وفيها رافقت عددا من أبرز شعراء جيلها مثل نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب. كل هؤلاء أسعفهم الحظ للتتلمذ على يديْ عددٍ من رموز اللغة والأدب في العراق، مثل: الدكتور علي الوردي، الشاعر محمد مهدي البصير، والمؤرّخ الموسوعي مصطفى جواد.

عقب تخرج لميعة من دار المعلمين عُينت مُعلِّمة في مدرسة ابتدائية.

 

منجزاتها الشعرية

 

اشتهرت لميعة بشعرها المميز ذي اللغة القوية والمفردات المحكمة، الأمر الذي صنّفها كواحدةٍ من أبرز الشاعرات اللاتي ظهرن في العراق.

اتّسمت قصائدها كذلك بالجرأة في مفرداتها وفي تعبيرها عن مشاعرها الأنثوية، وهو ما دفع الشاعر السوري شوقي بغدادي للتصريح بأنه إذا كان نزار قباني نال لقب "شاعر النساء" فإن لميعة تستحقُّ لقب "شاعرة الرجال".

في 1979 أجرى معها الناقد اللبناني جوزيف كيروز حواراً سألها فيه عن قصائدها عن الرجال، فأجابت: "قصائدي الغزلية في الرجل هي ردٌّ لجميل، وربما قدرتُ أن أردَّ التحية بأحسن منها".

امتلكت لميعة عباس تجربة شعرية عريضة قدّمت خلالها عدداً من الدواوين المميزة، مثل "الزاوية الخالية" 1959، و"عودة العربية" 1962، و"أغاني عشتار" 1969، و"عراقية" 1971، و"يُسمونه الحب" 1972، و"لو أنبأني العراف" 1980، و"البُعد الأخير" 1988، و"عراقية" الذي يُعدُّ آخر دواوينها وصدر عام 1990.

في 2010 نالت لقباً تكريمياً من جائزة الشاعر الكويتي عبد العزيز سعود البابطين، وصفتها الجائزة في حيثيات اختيارها بأنها شاعرة تنتمي "إلى جيل الشعراء المبدعين الذين نفحتهم نيران المعاناة، وأرّقت اجفانهم أزمات أمتهم المتلاحقة، هي امرأة يسكنها الشعر، لم تنطفئ جذوته داخلها".

خلال هذه التجربة العريضة، أظهرت عمارة جوانب كثيرة من شخصيتها، فساندت الجزائر خلال نضالها ضد المستعمر الفرنسي فكتبت: (ويصرخ شعب فرنسا سئمنا الذنوب\ وشعب فرنسا ككل الشعوب\ يُساق إلى الظلم تحت الرصاص\ حثالاته شغفت بالحروب).

وعبّرت عن نفسها بقصائدٍ رومانسية عِدة، منها ما أتى في ديوان "أغاني عشتار". جاء في إحدى القصائد: (أدري أني حلوة\ نطقت عيناك بها ألفي مرة\ وأنا أدري ما لا تدري\ أدري أن جمالي بحرٌ\ يعليه المد ويدنيه الجزيرة).

 

مع السياب وإيليا أبو ماضي

 

بحُكم زمالتهما الدراسية، ربطت لميعة علاقة صداقة ببدر شاكر السياب، وكثيراً ما كان كل واحدٍ يقرأ قصيدة الآخر. لاحقاً تطوّرت علاقتهما إلى علاقة حب، فكتب فيها السياب قصيدة "أحبيني لأن جميع مَن أحببت قبلك ما أحبوني"، فردّت عليه لميعة في قصيدة "شهر زاد" قائلة: (ستبقى شفاهي ظماء\ ويبقى بعيني هذا النداء\ ولن يبرح الصدر هذا الحنين\ ولن يخرس اليأس كل الرجاء).

وخلال احتدام المعركة حول زعامة مدرسة الشعر الحر، انحازت الشاعرة العراقية مبكراً للسياب معتبرة أنه أكثر من طوّر في الشعر الحر قبل غيره.

في حوارٍ صحفي سُئلت عن السياب فقالت "بالطبع كنت أحبّه، لكنه كان شكوكاً لا يثق في النساء ولم يصدّق أنني أبادله مشاعره".

يقول يوسف عز الدين في كتابه "التجديد في الشعر الحديث"، إن لميعة أخبرته أن السياب تقدّم لخطبتها رسمياً لكن أسرتها لم توافق لاختلاف عقيدتيهما، وهو رفضٌ أيّدته لميعة بسبب تخوفها من أن يقضي اقترانها ببدر السياب على تجربتها الشعرية، فآثرت أن تنجو بنفسها وبشِعرها ورفضت الاقتران ببدر!

رغم ذلك، ظلّت لميعة حاضرة في ذهن السياب حتى آخر لحظات حياته، فتحدّث عنها في قصيدة "سفر أيوب"، التي كتبها وهو على فراش المرض قائلاً: (ذكرتك يا لميعة\ والدجى ثلج وأمطار\ ولندن مات فيها الليل\ مات تنفس النور).

رجلٌ آخر لعب دوراً مؤثراً في حياة لميعة هو الشاعر إيليا أبو ماضي، الذي كان صديقاً لوالدها، وتبادلا الكثير من الرسائل الأدبية اطّلع فيها على منتجاتها الشعرية التي بدأت تقرضها منذ أن كانت في الـ12 من عُمرها، حتى أن أولى قصائدها نُشرت في جريدة "السمير" عام 1944، والتي كان يترأّس أبو ماضي هيئة تحريرها، حينها كانت لميعة في الـ14 من عُمرها.

تزامناً مع نشره للقصيدة، كتب عنها إيليا قائلاً: "إن في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق".

وبحسب سلمان هادي في كتابه "شاعرات العراق المعاصرات"، فإن لميعة تأثرت كثيراً بإيليا في شعرها، فمنه تعلّمت الجرأة والتحرر من القيود.

 

بعيداً عن العراق حتى النهاية

 

شهد عام 1973 تقلد لميعة عمارة منصباً دولياً خارج العراق، بعدما عُيِّنت نائبة لممثل العراق الدائم في اليونسكو، وهو المنصب الذي شغلته لعامين.

بعدها، عُيّنت مديرة للثقافة والفنون في الجامعة التكنولوجية ببغداد حتى 1978، قبل أن تقرّر الرحيل عن العراق فسافرت إلى لبنان حيث أقامت فيه سبع سنوات.

انتقلت إلى الولايات المتحدة وقضت فيها ما تبقى من حياتها. في هذه الفترة قلَّ عطاؤها الشعري وعكفت على دراسة جذور الصابئة المندائية ولغتهم فأصدرت مجلة "المندائي".

رغم الغربة، فإنها لم تنسَ أبداً بغداد ولا الشعر. يقول عبد الواحد لؤلؤة في كتابه "مدائن الوهم: شعر الحداثة والشتات"، إن لميعة بقيت في مغتربها تحنُ إلى الوطن وتعبّر عن ذلك بشعرها فكتبت -من مقر إقامتها في كاليفورنيا- قائلة: كأني ببغداد جاءت تعانقني مثل أيامي الماضية\ أبغداد جاءت إلى هذه البقعة النائية؟.

تُوفيت لميعة عام 2021 عن عُمرٍ ناهز الـ92 عاماً.

وعقب وفاتها نعاها الرئيس العراقي برهم صالحاً واصفاً إياها بأنها "علامة فارقة في الثقافة العربية".

 

 

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".