معروف الرصافي في صورة غير مؤرخة، بالأبيض والأسود
معروف الرصافي في صورة غير مؤرخة، بالأبيض والأسود

في الكتاب الذي نُشر بعد وفاته عام 1945، وحمل عنوان "الرسالة العراقية"، كتب الشاعر العراقي معروف الرصافي "لو كانت الحكومة العراقية حرّة في جميع أمورها لاعتبرت من في العراق من الناس كلهم عراقيين فحسب، فحينئذ تكون هي حكومة عراقية محضة كما جرت به تسميتها بالحكومة العراقية".

وصف الباحث والكاتب رشيد الخيّون، ما جاء فيها قائلاً "كأنه (الرصافي) يعني حوادث الساعة"، وذلك لشدّة تجاوز المواضيع التي تناولها، الزمن الذي كتبت فيه وانطباقها على العراق في مراحله الراهنة.

والرصافي المعروف بشكل أساسي في مجال الشعر، يعتبر أحد أركان النهضة الأدبية الحديثة في العراق، وأحد وجوهها الشعرية البارزة. وصفه زكي مبارك بأنه "أحد فحول" الشعراء العرب في العصر الحديث، ووضعه البعض في منزلة أحمد شوقي "أمير الشعراء".

مارس الصحافة والترجمة عن اللغة التركية، وكتب في الدين والسياسة، وكان إشكالياً في كتاباته ومباشراً وقاسياً في نقده، ولطالما أثار بآرائه وكتاباته ضجة في الأوساط السياسية والدينية، واعتبرت بعض كتاباته التي نشرت بعد وفاته "طائفية"؛ نظراً لانتقاده القاسي للطائفة الشيعية في العراق واعتباره التشيّع "داء العراق العضال" بحسب ما جاء في "الرسالة العراقية".

كما أعلن الرصافي في أكثر من مرة عدم إعجابه بشخصية الإمام علي بن أبي طالب، التي تنال إعجاب ومحبة غالبية المسلمين من السنّة والشيعة.

عن ذلك، يقول الباحث والروائي العراقي سلام عبود في مراجعة بعنوان "هل كان الرصافي طائفياً؟": "عداء الرصافي للشيعة لم يكن ميلا طارئاً، ولا مزاجا عابراً، بل هو موقف مستحكم، ثابت وشامل، ولشدة شموله يمكن لنا أن نعدّه نهجاً".

واعتبر أن الرصافي قد "تطرف في استخدام هذا النهج حتى كاد أن يجعل منه معياراً، وأداة قيمية، يزن بها الحياة بكل أبعادها. أي كاد أن يجعله منهجاً للتفكير والمقايسةً. وهذا حد موغل في الشطط، أوقعه في مزالق فكرية وبحثية لا تغتفر، كوّنت بعض جوانب شخصيته الفكرية المتناقضة".

غلاف كتاب "الرسالة العراقية"

عبود كتب أيضاً، أن "شدة مغالاته (الرصافي) بالوطنية العراقية تحت شعار (العراق للعراقيين)، هي التي جعلته يجمع بين الطائفي والعرقي في وحدة خالية من المنطق. ومواقفه مدفوعة بميل سياسي".

"لم يكن طائفيا أو متدينا. وفي حياته السياسية أمثلة تدل على أنه وقف مع زعماء شيعة وطنيين وقفات شجاعة، لكن مواقفه السياسية جلبت عليه تهمة الطائفية وتهمة أخرى بأنه كان عنصرياً، نظراً لنزعته العرقية المعادية للفرس، واعتباره أن الفرس يمكرون ويكيدون للعرب، وعدم فصله بين الشيعة والفرس، وتحميلهما معاً"، تابع عبود في مراجعته.

لكن الرصافي كان يدافع دائماً عن حقه في التعبير وقول ما يعتبره هو "الحقيقة"، حتى لو كان قاسياً، فيقول "لئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها لقد أسخطت الناس عليّ، ولكن لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها".

بحسب الخيّون فإن الرصافي عبّر في كتاباته عن "ارتياباته الفكرية"، إذ أن كتابه الشهير "الشخصية المحمّدية" فضلاً عن كتاب "الرسالة العراقية" وغيرهما،  "مسطورة بالارتيابات من طقوس الدين السائدة، التي يعتقدها (الرصافي) منافية للإسلام وعودة إلى الجاهلية، بالإضافة إلى ارتياباته من "السلوك السياسي وما جرى من تشجيع للحمأة القومية والطائفية في بناء الدولة العراقية الحديثة".

ووصف كتاب "الشخصية المحمدية"، بأنه عبارة عن "نقد وتهذيب للرواية التاريخية وما لحقها من خرافات جعلت السيرة النبوية خارج المعقول"، وبأن ما فعله الرصافي في هذا المجال كان "وضع الدعوة الإسلامية في حدودها الدينية والاجتماعية"، وفق تعبيره.

وقال الرصافي في هذا السياق: "الغاية من الدعوة إلى الله أو من النبوة ليست بدينية محضة بل هو يريد أن يحدث نهضة كبرى، أو موجة عربية كبرى تكون دينية اجتماعية سياسية، يقوم بها العرب في بدء الأمر على أن تكون لهم السيادة فيها على غيرهم من الناس، ثم يكون نفعها عاماً شاملاً للناس أجمعين".

والمفارقة أن الرصافي لم ينشر كتاب "الشخصية المحمدية" في حياته، بل سلم المخطوطة لأحد أصدقائه وأوصى بنشره بعد وفاته، وذلك "خشية تحريض العوام ضده من قبل فقهاء الدين"، كما ذكر الخيّون.

أما كتاب "الرسالة العراقية" الذي أنجزه في الفلوجة عام 1940، أي قبل خمس سنوات من وفاته، فقد سعى الرصافي إلى نشره وتوسّط لفعل ذلك مع أكثر من شخصية، حتى تقبل دار نشر بنشره، لكن طلبه جوبه بالرفض.

والسبب، بحسب الخيون "ما ورد في الكتاب من سخرية غير مقيدة ونقد جارح لشخصيات ذلك الزمان، ولطائفة الشيعة وما فيه من ارتيابات"، مضيفاً أن غايات الرصافي من الإلحاح على نشر الكتاب "لم تكن فكرية، بل بسبب ضائقة مالية كان يعاني منها حينها".

عاش الرصافي سبعين عاماً، ثلثها تقريباً في القرن التاسع عشر -وهو من مواليد 1875 لأب كردي وأم تركمانية- والبقية في القرن العشرين، وشهد تبدلاً تاريخياً حاسماً تمثّل في سقوط الدولة العثمانية التي كان عضواً في مجلس نوابها "المبعوثان"، كما أصبح نائباً في البرلمان العراقي بعد تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي، وعايش الانتداب البريطاني على العراق، وكان له دور فعّال في مواجهته بالكتابات والمواقف.

مواضيع ذات صلة:

صورة أرشيفية ملتقطة من فيديو مسجل لنشرة أخبار قدمها غازي فيصل أثناء عمله داخل العراق
صورة أرشيفية ملتقطة من فيديو مسجل لنشرة أخبار قدمها غازي فيصل أثناء عمله داخل العراق

في العاشر من ديسمبر الجاري، تحلّ ذكرى وفاة "شيخ المذيعين العراقيين" غازي فيصل، الذي يُعتبر من أبرز الوجوه في تاريخ الإعلام العراقي. عمل نحو ٤٠ عاماً في تقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية.

عاش فيصل سنواته الأخيرة في مصر، البلد الذي توفي فيه أيضاً إثر سكتة قلبية، وأعيدت جثمانه ليُدفن في مقبرة وادي السلام بمحافظة النجف العراقية. تعتبر هذه المقبرة أكبر مقبرة في العالم.

 

حفيد الثوار

 

غازي فيصل هو حفيد شخيّر الهيمص، أحد قادة "ثورة العشرين" (1920) ضد الاحتلال البريطاني. اعتاد جده استضافة اجتماعات الثوار في منزله. قبض عليه الإنجليز وأودعوه في سجن الحلّة العسكري برفقة عددٍ كبير من رموز الثورة، وهي واقعة خلّدها الشاعر السيد هبة الدين الشهرستاني في قصيدة ذكر فيها أسماء قادة الثورة من ضمنهم "شخير من آل البوسلطان/ ثم الفتى أمين أبو نعمان".

حُكم على الهيمص بالإعدام سنة 1922، فنعته جريدة الوقائع العراقية الرسمية، ثم بعث الملك فيصل عزاءً إلى أخيه الشيخ عبود الذي شارك بدوره في أحداث الثورة، وبعدها بـ20 عاماً قاد أبناء عشيرته لمقارعة الجيش البريطاني فور اندلاع "ثورة الكيلاني" (1941)، بحسب كتاب "ذكريات وخواطر: عن أحداث عراقية في الماضي القريب" لعبود الهيمص.

كثيراً ما عبّر غازي عن سعادته وفخره بجذوره الثورية، معتبراً أن إعدام جده "واحدة من اللحظات التي صنعت مجد أسرته"، كما قال في إحدى المقابلات. وأضاف "أفخر جداً أن جدي وإخوته شاركوا في هذه الثورة الكبرى التي كانت سبباً في أن ينال العراق حُكماً وطنياً".

 

مذيع النشرة الرسمية

 

حسبما روى في حوارٍ له، فإن موهبة فيصل الخطابية ظهرت مبكراً، حتى أن أستاذه في اللغة العربية تنبّأ له بأنه سيُصبح مذيعاً، وكان يشجّعه بِاستمرار على الانضمام إلى مهرجانات الخطابة خلال المرحلة الإعدادية، حيث حقّق المرتبة الأولى في أغلب المسابقات.

بعد اتمامه دراسته عام 1965، تقدّم فيصل بطلبٍ إلى هيئة إذاعة بغداد للعمل كمذيع، فخضع لاختبارٍ ترأسه أستاذ اللغة الشهير مصطفى جواد، الذي وافق على إلحاقه بفريق المذيعين. حينها كانت الإذاعة العراقية تعجُّ بعددٍ كبير من المذيعين الأكفاء، مثل سعاد الهرمزي ومحمد علي كريم وحافظ القباني وإبراهيم الزبيدي، وغيرهم.

في بداية رحلته الإذاعية عمل تحت إشراف المذيع الراحل سليم المعروف، ولم يُطلّ حينذاك إلا بنشراتٍ بسيطة يقول فيها عبارات موجزة، حتى وقع حدثٍاً طارئاً اعتذر بموجبه المذيع الرئيس عبداللطيف السعدون، فاضطر المعروف إلى تكليف فيصل بالأمر.

عقب نجاحه في أداء النشرة اعتمد في مهام أكثر صعوبة. عزا فيصل الفضل في رفع كفاءته إلى بيئة العمل داخل المؤسسة الإعلامية العراقية، التي لم تكتفِ فقط بإعداد "مذيعيين" بل "إذاعيين" شاملين، ليسوا قادرين فقط على قراءة الأخبار ولكن كتابتها وتحريرها وإعدادها وإخراجها إذاعياً، وفق تعبيره.

من "راديو بغداد"، انتقل فيصل إلى "تلفزيون العراق" عام 1966، وكان يترأّسه الإعلامي أنور السامرائي.

بدأ بقراءة نشرات الأخبار، ثم صار من الوجوه الإعلامية الناطقة بلسان نظام صدام حسين، خاصةً مع إطلالاته الشهيرة على التلفزيون الرسمي ليُلقي آخر أنباء العمليات القتالية مع إيران ثم مع الكويت لاحقاً.

في كتابه "شاي وخبز"، علّق الروائي العراقي خضير الزيدي على طريقة اختيار مذيعي التلفزيون العراقي خلال حقبة صدام حسين، قائلاً: "نشرة الأخبار الرئيسية تمرُّ عبر آلية معقدة للموافقة السياسية لتقديم ما يُوجب تقديمه من الزيارات (الميمونة)".

"ومذيع الأخبار تم اختياره وفق التوجه (الثوري المرعب) بشاربه الكث وصوته الجهوري وقسمات وجهه القاسية، إنه فصل من الرعب العراقي. من رشدي عبد الصاحب إلى غازي فيصل"، أضاف الزيدي.

لم يقتصر دور فيصل على إلقاء النشرات الإخبارية، فكثيراً ما كان يقوم بالسفر إلى الدول العربية لتغطية مؤتمرات القمة ونقل مراسم الحج وإجراء مقابلات مع بعض القادة مثلما فعل مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

كما شغل عدة مناصب إدارية رفيعة في هيئة التلفزيون وترأّس أقسامٍ شتى داخل التلفزيون والإذاعة، فعُيّن مديراً لإذاعة بغداد وإذاعة "صوت الجماهير" ثم مديراً للإذاعات الدولية.

 

مغادرة العراق

 

فور سقوط نظام صدام حسين، اقتحم عدد من المحتجين مبنى الإذاعة وأحرقوا بعضاً من أرشيفها بما حوته من تاريخ شخصي لغازي فيصل، لذا اعتبرها واحدةً من اللحظات المؤلمة في حياته.

في عام 2006 قرّر فيصل الرحيل عن العراق بسبب تردّي الأوضاع الأمنية (بداية الحرب الطائفية) مغادراً صوب مصر. 

ورغم الغياب، استمر تواجده على الساحة الإعلامية العراقية. يقول إحسان السامرائي في كتابه "الفضائيات الإخبارية: دورها في توجيه الرأي العام سياسياً"، إنه التقى بفيصل عام 2013 حين كان يعمل مديراً لبرامج قناة "البغدادية"، التي بدأ بثّها في سبتمبر 2005 بتمويلٍ من رجل الأعمال العراقي عون حسين الخشلوك.

وكشف فيصل للسامرائي، أن القناة يعمل بها قرابة 450 فرداً، يتوزعون في مكاتب "البغدادية" المنتشرة داخل بريطانيا ومصر والأردن وسوريا والعراق وعددٍ من الدول الإسكندنافية.

بعد انتهاء تجربته في هذه القناة لم يلتحق بمؤسسة إعلامية أخرى، لكنه لم يبتعد كثيراً عن العراق وأخباره بعدما ظهر عدة مرات كمُحللٍ في محطات تلفزيونية مصرية للتعليق على أحداث خاصة بالشأن العراقي، أو في محطات عراقية يعبّر فيها عن مدى اشتياقه إلى أرض الوطن.

قال  فيصل في إحدى هذه اللقاءات "أنا بغداد، فهي تسري في دمي وشراييني ولا يمكن إلا أن تعيش معي".

في 10 ديسمبر 2021، تعرّض فيصل لسكتة قلبية، نقل على إثرها  لإحدى مستشفيات القاهرة، وتوفي هناك، عن عُمر 76 عاماً.

نُقل جثمان فيصل إلى بغداد ليُدفن في ترابها حسب وصيته، ليحظى في بلده بجنازة مؤثرة شهدت حضوراً بارزاً رُفعت فيه لافتات قالت "وداعاً أبا علي.. شيخ المذيعين".