مكتبة جنان في ناحية القوش شمالي العراق- ارفع صوتك. (صورة تعبيرية)
مكتبة جنان في ناحية القوش- ارفع صوتك

​هل قرأت رواية تصنّف ضمن "أدب الأقليات"؟. هذا نوع مميز من الأدب الروائي، يسلط الضوء على الحياة الاجتماعية والثقافية، إلى جانب التحديات اليومية التي تعانيها الأقليات في البلدان التي تعيش فيها، سواء كانت ناتجة عن التهميش أو الصراعات أو القوانين، أو غيرها من القضايا.

 

(1986) بنت من شبرا

في سنة 1986م، نشر الأديب المصري فتحي غانم روايته "بنت من شبرا". سلط فيها الضوء على أوضاع المسيحيين الغربيين الذين عاشوا في مصر في أربعينيات القرن العشرين. دارت أحداث الرواية حول الفتاة الإيطالية الكاثوليكية الجميلة ماريا التي تعيش مع أهلها في حي شبرا الشعبي بالقاهرة.

تقع ماريا في حب الشاب المصري كريم وتتزوج منه. تمر السنوات سريعاً، ونصل إلى الثمانينيات، لنجد أن حفيد ماريا الذي يُسمى كريم أيضاً، ينضم لأحد التيارات الدينية الإسلامية المتطرفة.

تقف الرواية كثيراً عند تلك المفارقة. كيف تحول انفتاح المجتمع المصري على الآخر إلى انغلاق وعزلة؟ وكيف اُستبدل التسامح بالإرهاب؟.

سلط غانم الضوء على ملامح تلك المفارقة في بعض المواضع من الرواية. على سبيل المثال يقول المؤلف على لسان كريم الجد مبيناً الأوضاع الجيدة التي عاشت فيها الأقلية المسيحية الكاثوليكية في الأربعينيات: "كل البشر بفطرتهم مسلمون، فإذا كان لك أن تختار الكنسية بيتاً لله وأن تعبده في هذا البيت فهذا أمر بينك وبين الله يرى فيه ما يراه وأنا لا أملك سوى أن احترم عقيدتك، وأن أحترم كنيستك وأن أحترم المسيحية في المرأة التي سأتزوجها، إنها في حاجة إلي وهي لم تدرك هذه الحاجة إلا بعد أن مرت بتجارب قاسية، وأني أيضاً في حاجة إليها وإرادة الله هي التي جمعتنا".

في المقابل، يحكي المؤلف في الجزء الثاني من الرواية عن تعصب كريم الحفيد المتأثر بالفكر الأصولي المتشدد فيقول: "أما كريم الحفيد فقد بلغ من تأثره بالتعصب أنه يريد أن يحتفظ بعزلته وغربته عن وطنه ويريد الهلاك للآخرين، لأنه في قرارة نفسه يجتر رغبة جامحة في الانتقام".

هكذا نجحت الرواية في إظهار طبيعة التحولات التي طرأت على المجتمع المصري، وتمكنت في الوقت ذاته من تبيين أوضاع الأقليات التي عاشت في هذا المجتمع. لاقت الرواية إشادة كبيرة من النقاد والجمهور. وفي سنة 2004م حوِلت لمسلسل تلفزيوني شهير بذات الاسم.

 

(1993) الخروج من سوسروقة

في سنة 1993م، نشرت الكاتبة الأردنية من أصل شركسي زهرة عمر روايتها الشهيرة "الخروج من سوسروقة: رواية الشتات الشركسي".

تُعدّ الرواية أحد أهم الروايات الأردنية التي كُتبت في حقل أدب الأقليات. سلطت الضوء على المهاجرين الشركسيين الذين نزحوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي من موطنهم الأصلي في بلاد القوقاز إلى الأردن. 

هرب هؤلاء من القوات الروسية التي غزت بلادهم، ولجأوا إلى العيش لاجئين في مواضع متفرقة من بلاد الشام التي حكمها العثمانيون في تلك الفترة.

اقتبست الرواية اسمها من شخصية "سوسروقة"، وهو أحد الأبطال الأسطوريين في الفلكلور الشركسي القديم، واعتمدت حبكة الرواية على سرد قصصي لحكاية عائلة شركسية بسيطة تتكون من الأب أبشاتسه والأم ستناي والابن ساوسروقة، ونجحت في تصوير وقائع حياتهم اليومية وعلاقاتهم مع العرب والأتراك والروس.

في معرض إظهار الظلم الذي تعرض له الشركس على يد الروس، تقول عمر على لسان أحد أبطالها: "أولاد سفاح يقضمون أرضنا شبراً شبراً ويفنون جنسنا. إنهم يزحفون كالسَّلاحف ببطء، وشيئاً فشيئاً بصمت ودون ضجيج. يحرقون قرانا، يقتلون رجالنا، ويسبون نساءنا. أما أطفالنا، فلا يعلم إلا الله ماذا يكون مصيرهم".

تعود المؤلفة بعدها لتؤكد مظلومية الشركس والحال المتردية التي أصيبوا بها بعد هزيمتهم في الحرب، فتقول في مرارة: "إننا ضعفاء، مهيضو الجناح، لا نستطيع أن ندافع عن كرامتنا ولا أن نرفع رؤوسنا في وجوههم. إنهم الأقوى، وما نحن بعد أن تخلينا عن وطننا إلا ظلال رجال لن تقوى على فعل شيء حيالهم مهما فعلوا بنا، ولن نستطيع أن نحمي كرامتنا بالتصدي لرغباتهم".

عرجت الرواية كذلك على الظروف الصعبة التي مر بها الشركس عقب وصولهم لموطنهم الجديد في بلاد الشام. لم يُرحب العرب كثيراً بالوافدين عليهم، بل دخلوا معهم في صراع هدفه إثبات التفوق والسيطرة على الأرض.

في هذا السياق قالت عمر على لسان أحد البدو المناوئين للشركس: "لقد أقمتم منازلكم حول منابع مياهنا، وها إنكم تستولون على مراعينا وتزرعونها. سنتصيدكم واحداً إثر آخر حتى لا يبقى لكم إلا العودة إلى الجحيم الّذي لفظكم".

بتلك الطريقة، نسجت الكاتبة خيوط حبكتها الروائية المتفردة، لنرى كيف عانى الشركس المُهجّرون من المتاعب في أوطانهم الأصلية، وفي الأراضي الجديدة التي استوطنوها.

أشاد الكثير من النقاد بالرواية. على سبيل المثال وصفها الكاتب الأردني نزيه أبو نضال بأنها "أطلت عن كثب على هذه المرحلة التأسيسية في بناء مدينة عمّان، وذلك من خلال مرافقتها التفصيلية لملحمة الشتات الشركسي من بلاد القفقاس إلى أن استقر بهم المقام في عمّان. ومع رسم ملامح الحياة المادية راحت ترسم ملامح الحياة الاجتماعية الداخلية للمهاجرين الشركس، كما تنقل وقائع العلاقات المعقدة والمتشابكة والدموية أحياناً مع المحيط العربي، خصوصا البدوي".

 

(2011) دروز بلغراد: حكاية حنا يعقوب

في سنة 2011م، نشر الروائي اللبناني ربيع جابر روايته الأشهر "دروز بلغراد: حكاية حنا يعقوب" عن المركز الثقافي العربي.

تناولت الرواية أحداث الاقتتال الطائفي التي وقعت في لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي. في تلك الفترة، اندلعت الخصومات بين الدروز والمسيحيين في منطقة جبل لبنان، وفصلت السلطات العثمانية بين الفريقين ووقف القتال الدائر بينهما. ثم أصدرت حكمها بنفي 550 درزياً إلى بلغراد وطرابلس الغرب بسبب مخالفة أوامرها.

في تلك الظروف العصيبة، قبض على حنا يعقوب، بائع البيض المسيحي ونُفي إلى قلعة بلغراد عند تخوم الإمبراطورية العثمانية، بدلاً من شخص درزي آخر أُطلق سراحه بعدما دفع والده رشوة للسلطات العثمانية. في تلك الأجواء التاريخية، دارت أحداث الرواية حول معاناة حنا وبقية السجناء الدروز في منفاهم على امتداد 12 سنة كاملة. كما بينّت الظروف الصعبة التي عاش فيها أهل المنفيين في لبنان.

تكتظ الرواية بالعديد من المشاهد المؤثرة التي توضح المظالم الجسيمة التي تعرضت لها الأقليات الدينية في العصر العثماني. على سبيل المثال، في إحدى المواضع يقول جابر لحنا يعقوب على لسان الضابط العثماني الذي قبض عليه: "حين يأتي القنصل الفرنساوي بعد قليل لا تفتح فمك وافعل مثل الباقين كي يظنك منهم. لا تتكلم إلا إذا سألك عن اسمك. احفظْ الاسم: سليمان غفار عز الدين. انظرْ هناك: هؤلاء الأربعة الذين ينظرون إلى هنا إخوتك. تصرفْ كأنهم إخوتك. تركع جنبهم الآن وتتوكل على ربّك وتزور عكا وترجع إلينا ونعطيك ثلاث عثمليات وأجرة الطريق. فهمت؟ احفظْ اسمك: سليمان غفار عز الدين".

هكذا يجد حنا المسيحي نفسه مجبراً على التبرؤ من هويته ودينه، وأن يُحمل غصباً إلى سفينة تنقله للمجهول.

في مشهد آخر، يجد حنا يعقوب نفسه على متن السفينة، يحاول أن ينقذ نفسه فيطلق صرخة ليسمعه القنصل الفرنسي: "أنا حنا يعقوب المسيحي"، فينتبه ويطلب ترجمة ما قاله حنا، فينقل المترجم التركي الصرخة كالآتي: "أنا الذي قتلت حنا يعقوب المسيحي".

تمكنت الرواية من تجاوز حدود الزمان، وأحالتنا بطريق خفي لأحداث ووقائع الحرب الأهلية اللبنانية، وما وقع فيها من أحداث مؤسفة تبادلت فيها الأطراف المتحاربة القتل على الهوية.

حصدت "دروز بلغراد" العديد من الجوائز المهمة، منها الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الخامسة. ذكرت لجنة تحكيم الجائزة في حيثيات الإعلان عن فوز الرواية إنها: "العمل الأكثر تميزاً ولمعاناً واجتهاداً، لتصويرها القوي هشاشة الوضع الإنساني من خلال إعادة خلق قراءة تاريخية ماضية في لغة عالية الحساسية".

 

(2016) عذراء سنجار

في سنة 2016م، نشر الكاتب العراقي وارد بدر السالم روايته "عذراء سنجار" الصادرة عن دار منشورات الضفاف ببيروت. تناولت الأحداث الدامية التي عايشتها الأقلية الإيزيدية في منطقة سنجار في شمالي غرب العراق في سنة 2014م.

في تلك السنة، تعرض الإيزيديون لعدد من المذابح المروعة على يد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وذلك عقب انسحاب قوات البيشمركة التابعة للحزب الكردستاني الديموقراطي.

فرضت عناصر "داعش" سيطرتها على الموصل ومنطقة سنجار وسهول نينوى، واستهدفت الإيزيديين في باعتبارهم "كفار يستحقون القتل".

بحسب المصادر قُتل ما يزيد عن 1200 إيزيديا، واُختطف أكثر من 6 آلاف آخرين، وسُبيت المئات من الفتيات وأخذن جواري، وبيعن في أسواق الموصل والرقة. بقي نفوذ "داعش" قائماً في تلك المنطقة حتى استعاد الجيش العراقي والحشد الشعبي السيطرة عليها في سنة 2017م.

دارت أحداث الرواية في إحدى قرى سنجار، وتنوع أبطالها ما بين المهندس الزراعي سربست، وابنته الجميلة نشتمان التي وقعت في الأسر، وعيدو الذي شارك في الحرب العراقية الإيرانية وخرج منها فاقداً بعض عقله، ودلشاد دارس التاريخ الذي اضطر إلى تغيير دينه واعتناق الإسلام حتى يحافظ على أسرته من دموية عناصر "داعش".

حملت الرواية العديد من العبارات الحادة التي عبّرت عن قسوة ما جرى في تلك المنطقة المسالمة. على سبيل المثال قال السالم على لسان أحد أبطاله من الإيزيديين: "نحن غنائم التاريخ السهلة، وقنطرة العبور إلى اللذة الجنسية الإسلامية، كما يبدو".

كذلك حفلت الرواية بمشاهد الجلد والأسر والاختطاف والقتل، الأمر الذي يتسق بشكل كبير مع المحن العظيمة التي مرت بها الأقلية الإيزيدية في شمالي العراق. من جهة أخرى، اختار السالم أن يغلف حبكته الروائية بالنكهة الميثولوجية المُستمدة من الفلكلور الإيزيدي. ظهر ذلك في بعض الأفعال الإعجازية التي حاولت أن تثبت عطف السماء على أولئك المستضعفين. من ذلك، تأخر وضع المرأة الحامل لطفلها رغم مرور 13 شهراً على الحمل، والأفعى التي لدغت الداعشي عندما أراد التحرش بالمرأة، ودماء الزوج الذي ظلت موجودة في البيت دون أن تغسلها المياه.

 

(2018) آتيلا آخر العشاق

في سنة 2018م، نشر الكاتب العراقي الكردي سردار عبد الله روايته "آتيلا آخر العشاق" عن دار هاشيت أنطوان/نوفل في بيروت. كتب المؤلف روايته باللغة العربية، ودارت أحداثها عن نضال وسيرة الثورة الكردية ضد الأنظمة الديكتاتورية المستبدة التي حكمت العراق.

سلط عبد الله وهو برلماني سابق، الضوء على العديد من الصراعات الاجتماعية والطائفية والقومية التي عانى منها العراقيون في السنوات السابقة، وأوضح أبرز المشكلات التي عانى منها الأكراد العراقيون من خلال قصة "آتيلا"، وهو مقاتل عربي يختار أن يقاتل في صفوف الثورة الكردية، قبل أن يستشهد في نهاية المطاف.

أختار عبد الله أن يمزج روايته بطابع صوفي روحاني من خلال دمج بعض المقاطع من منظومة "رحلة الطير" للصوفي الشهير فريد الدين العطار. من خلال هذا المزيج عبّر المؤلف عن أوجاع الأكراد الذين تعرضوا للظلم لسنوات طويلة.

بطل الرواية "آتيلا" كان ثمرة زواج أب تركماني شيعي وأم كردية سنية. كأنما أراد المؤلف أن يحكي من خلاله سيرة وطن مزقته الطائفية والمذهبية. حكى عبد الله في روايته عن الثورة الكردية، وعن هزيمتها الموجعة بعد خيانة حلفائها لها فقال مشيراً إلى اتفاق الجزائر الذي عُقد سنة 1975م بين العراق وإيران: "انقلب ّ كل شيء وفي لمح البصر. لم يُعطنا المجال لنفهم ما يحدث. فقد حدث كل ذلك أسرعّ وأشد من البرق. انقلب علينا شاهنشاه ملك الملوك وطالب بإنهاء المعارك البطولية ضد النظام، وخيّرنا بين إلقاء السلاح ومغادرة الأراضي الإيرانية فوراً، كما انقلبت علينا أميركا، وخذلتنا بقسوة منقطعة النظير. لكن الذي كان يحز فينا أكثر من أي شيء آخر، من بين كل تلك ُالخيانات، أننا أصبحنا ضحايا الصفقة التي أُنجزت بين رجل النظام القوي وبين ملك ملوك إيران، فكان مؤلماً أن ترعى الجزائر هذا الاتفاق.

"جزائر الثورة، تحولت في غمضة عين إلى مجرد سمسارّ ملطخ اليدين بالنفط والدم. فكانت رائحة النفط والصفقة المريبة هي التي وأدت كل أحلامنا وآمالنا"، بحسب الكاتب.

في موضع أخر من روايته، وصف عبد الله حالة الاغتراب التي شعر بها "آتيلا" بعد أن أصدر النظام العراقي قراراً بمنع الأكراد من أداء الخدمة العسكرية على الجبهات. وصف الصراع النفسي الذي دار في نفس البطل حول هويته، فقال على لسانه: "أحسستّ للمرة الأولى بحالة من الدوار، وكأنّني أدور حول نفسي في الفراغ، وقدماي لا تطالان الأرض، فباتت المسألة أكبر من النجاة من الموت عبثاً في الحرب، بل إثبات هويتي التي يرفضون الاعتراف بها. أصبح الأمر فجأةً مسألة وجود. للمرة الأولى في حياتي، أحسست بأني كردي حقاً".

لاقت الرواية استحسان الكثير من المتابعين، ووُصفت بأنها "رواية وجع الكردي، وحملات إبادته وثوراته. سفر العشق الذي يختلط فيه عشق الأنثى، بعشق الكأس، بعشق الثورة، بعشق الله الذي يغرس حب البشر وحب جميع كائناته. تختلط فيها الأسطورة بالواقع، من خلال حضور أنبياء وأولياء يلتقيهم في عروجه الأخير نحو السماء".

 

(2019) حمام الذهب

نشر الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب روايته "حمام الذهب" في سنة 2019م، عن دار مسعى للنشر والتوزيع في البحرين. تعرضت الرواية لأحوال الأقلية اليهودية التي عاشت في تونس لفترة طويلة قبل أن تضطرها الظروف الهجرة إلى أوروبا.

قامت حبكة الرواية حول هروب يهود تونس من الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية. أخفى الهاربون مجموعة من الوثائق الخاصة بتاريخ الأرض الذي بُني عليها "حمام الذهب". ظل هذا السر دفيناً حتى عزمت بطلة الرواية، هيلين، اليهودية التونسية على كشفه. تعود هيلين إلى تونس وتلتقي بشاب مسلم وتقع في حبه. وهكذا تدور أحداث القصة بين السعي لفهم الماضي، والعيش في الحاضر.

تحدث المؤلف عن العلاقات الودية التي جمعت بين الأقلية اليهودية والمسلمين في تونس في النصف الأول من القرن العشرين. قال على لسان البطلة اليهودية: "لم تكن لنا عداوات مع جيراننا من المسلمين، لم تحصل بيننا قط مشاحنات أو خصومات، وكنا نتبادل الزيارات في المآتم والأفراح. أذكر أن إليف -زوجها- كان يخصص مبالغ مالية لبعض العائلات الفقيرة التي تسكن بجوار حينا. كان يشغّل شابين معه في الدكان خلال الفترة المسائية من كل يوم. في الصباح يتردد الشابان على جامع الزيتونة ثم يغادرانه إلى دكان الذهب".

بعدها شرح المؤدب كيفية تأثير حرب عام 1967م في تغيير شكل العلاقة. تقول البطلة موضحة ظهور العداوة واستهداف الأقلية اليهودية في أعقاب الحرب: "كانت هزيمة العرب هي الشرارة التي أوشكت على إحراقنا بالكامل، ولولا جيراننا من المسلمين لهلكت عائلات حينا. كانوا يحموننا من هجمات الملثمين ليل نهار. بعد ذلك تسارعت الأحداث وكثر العنف والتشفي، ولم يعدّ من يقوى على التصدي للملثمين والغاضبين، ويئس الجميع من حمايتنا. كنا نتابع الأحداث بكثير من الخوف ونسمع الأصوات الحادة من خلف نوافذنا المغلقة: اليهود على بره، الكفار على بره".

لم يكتف المؤدب بإظهار التبدل في معاملة المجتمع التونسي مع اليهود، بل طرح حلولاً لإصلاح تلك العلاقة. كان الحب هو الحل الأمثل من وجهة نظره. ظهر ذلك في زواج اليهودية الشابة هيلين من الشاب المسلم.

تقول هيلين: "لا أفهم سبب إصرار الناس على وضع الحدود في ما بينهم وقد خلقهم الله ليتحابوا، ولا سر تباغضهم وتناحرهم باسم الدين، والأديان كلها تقود إلى طرق واحدة، لماذا نتقاتل على الطريق وننسى المآل الذي تقود إليه تلك الطريق؟".

تستشهد هيلين في كلامها بأمثلة كثيرة من تجارب التصوف الإسلامي المعروفة في المغرب العربي على وجه الخصوص، لا سيما بسيرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

في 2020م، تمكنت الرواية من الوصول للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، جاء في تقرير لجنة الجائزة عن الرواية أنها "تطرح أسئلة مركبة تتعلق بقضايا الراهن، مثل سؤال الهوية والتطرف والانتماء إلى أرض واحدة هي تونس، وإن اختلفت داخلها الأعراق والديانات".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".