انطلقت تظاهرات "الربيع العربي" من تونس وامتدت إلى باقي دول المنطقة وتسببت في سقوط النظام الحاكم في أكثر من دولة عربية.
انطلقت تظاهرات "الربيع العربي" من تونس وامتدت إلى باقي دول المنطقة وتسببت في سقوط النظام الحاكم في أكثر من دولة عربية.

اندلعت شرارة "الربيع العربي" في يناير عام 2011 من تونس، لتنطلق بعدها إلى مصر ثم سوريا واليمن وليبيا، وحراكات مشابهة لم تستمر كثيراً في دول عربية أخرى.

تمكنت الاحتجاجات العارمة من تغيير معادلات القوى السياسية والاجتماعية التي سادت لعقود في المنطقة العربية، الأمر الذي ألقى بظلاله على الأعمال الإبداعية والفنية.

في هذا المقال، اخترنا لكم خمس روايات عربية بارزة في هذا المضمار، إما بتناولها للأحداث، أو مقاربتها لها من تاريخ بلد المؤلف والمنطقة بشكل عام.

 

"فرسان الأحلام القتيلة"

 

صدرت الرواية عن مجلة "دبي" الثقافية عام 2012، للروائي الليبي إبراهيم الكوني.

تدور أحداثها في أعقاب انتفاضة "17 فبراير" في ليبيا. الشخصية الرئيسية فيها تُدعى "غافر"، وهو مدرس ليبي ثائر، كُلف بهدم جدران البيوت في مدينة مصراته بهدف حفر نفق يوصل الثوار إلى برج عال كان قناصة النظام الليبي يتحصنون به.

وجد "غافر" نفسه محاصراً في الطابق العلوي لإحدى الشقق بعد أن استولى عليها جنود النظام، وليس معه سوى مسدس بطلقة واحدة. ينضم له وقتها المهندس "نفيس" ويساعده لبعض الوقت في الصمود قبل أن يُقتل، لينضم ثوري آخر يُدعى "سالم"، معاوناً "غافر" في عملية هدم البيوت حتى ينجحا في الوصول للبرج، من ثم تتمكن الثورة من تحرير المدينة من قوات النظام.

على لسان أبطال الرواية، عبّر المؤلف عن أفكاره بخصوص الثورة والسلطة في ليبيا. على سبيل المثال، حرص الكوني أن يوثق لحظة اشتعال الثورة بأسلوبه الأدبي، فقال واصفاً حادثة اعتقال أحد المحامين في مدينة بنغازي عقب اعتراضه على النظام الحاكم: "في حاضرة المنافي في الشرق، المغسولة بالدم، المجبولة بالألم، كانت الانطلاقة الأولى أيضاً نحو ميدان المحاكم، نحو مجمع المحاكم، للاحتجاج على اعتقال مريد العدالة محامي أهالي ضحايا المذبحة التاريخية التي تقشعر لها الأبدان".

ولم ينس الكوني أن يوجه أصابع الاتهام لقوات المرتزقة الإفريقية التي استعان بها نظام معمّر القذافي لعقود من أجل إخضاع شعبه، بذكرها في أحد المواضع: "فمن هم هؤلاء الأوباش الذين استجابوا لصنوف التنكيل بأهل المدينة منذ أول يوم دون الأجناس جميعاً؟ من هم هؤلاء الأنجاس الذين هبّوا لتنفيذ الفظائع كما لم ينفذها مخلوق في إخوتهم من أهل الجوار، وفي نساء أهل الجوار الذين أطعموهم يوماً من جوع وآووهم من خوف؟".

من جهة أخرى، اهتمت الرواية بالمزج بين الحقيقي والمُتخيّل، وظهر ذلك في تقديم شخصية "سالم جحا" كأحد الشخصيات الرئيسية في الرواية. كان واحداً من ضباط الجيش الليبي، واختار أن ينضم لمعسكر الثورة، ثم صار قائداً لثوار مصراتة أثناء الفترة الأولى من الثورة.

من خلال "سالم جحا"، نجح المؤلف في التعبير عن مشاعر الثوار وحسهم الوطني، كما تمكن من توثيق العديد من الأحداث المهمة التي ظهرت في الرواية بشكل متسارع.

 

"طبول الحب"

 

صدرت الرواية عام 2013، للكاتبة والروائية السورية الكردية مها حسن. ودارت أحداثها في  الفترة المبكرة من اندلاع الثورة السورية 2011.

اختارت حسن أن تبني حبكتها السردية اعتماداً على رؤية تمزج بين الوثائقي والمُتخيل. بدأت أحداث الرواية بقيام البطلة "ريما خوري"، وهي أستاذة جامعية من أصل سوري تعيش في فرنسا، بفتح حساب على فيسبوك باسم مستعار، تعرفت من خلاله على شاب سوري اسمه "يوسف" يعيش في مدينة كفرنبل التابعة لمنطقة معرة النعمان في محافظة إدلب.

بعد أيام من المحادثة المستمرة بينهما تبدأ قصة حب. في هذا السياق، تحن "ريما" إلى أصولها وإلى وطنها الأم ويتماهى حب الحبيب مع عشق الوطن. "ما عشته مع يوسف، ليس مجرد عاطفة قوية، وإدمان يومي، بل كان استعادة لمفهوم الوطن"، هكذا جاء على لسانها في الرواية.

تندلع الثورة في مارس 2011. وهنا يقوم "يوسف" بإخبار "ريما" أبرز الأحداث في منطقته، كما يصف لها مظاهر العنف والقمع الذي انتهجته الأجهزة الأمنية التابعة للنظام ضد المتظاهرين.

لا يقف الأمر عند ذلك، حيث يقرر "يوسف" الانضمام للثورة وبعدها يلتحق بصفوف "الجيش الحر". عندها تقرر "ريما" السفر إلى سوريا، فتأخذ إجازة طويلة من عملها. وبعد وصولها تقوم بوصف المعاناة التي يتعرض لها السوريون في بلدهم.

تتجول في أزقة وشوارع دمشق وحلب، وتحصل على عشرات الشهادات المختلفة حول الثورة. أتت بعضها متوافقة مع آراء الثوار، والبعض الآخر متماشياً مع وجهة نظر النظام.

عبر هذه السردية التوثيقة، نجحت حسن في تسليط الضوء على التناقضات الكثيرة الموجودة داخل المجتمع السوري، سواء كانت دينية طائفية، أو طبقية، أو حتى سياسية.

 

"الغربان: روائح المدينة"

 

صدرت الرواية عام 2018، وهي الجزء الثالث والمُتمم لثلاثية "روائح المدينة" للروائي التونسي حسين الواد، الذي توفي في نفس العام من صدورها.

تدور أحداثها داخل إحدى البلدات الساحلية التونسية، دون ذكر اسمها بشكل صريح. وتتمحور القصة حول شخصية "سي حميدة"، وهو إنسان بسيط بعيد كل البعد عن شؤون السياسة والحكم.

لا تنسي أنّي من مدينة يفرح أهلها فيسكرون . و يحزنون فيسكرون ... لا يثقل على أهل مدينتنا سوى الصّحو و لا يكدّرهم سوى الوعي . [ حسين الواد ، الغربان ، ط 1 ، دار الحنوب للنشر ، تونس ، 2018 ، ص 16]

Posted by Zouari Fouad on Wednesday, September 6, 2023

كان "سي حميدة" يرى لسنوات طويلة أن الثورة حدث إعجازي خارق لا سبيل لإدراكه، غير أن انتفاضة يناير غيرته بشكل كامل.

يقول الواد، على لسان بطل روايته، معبراً عن التغير الكبير الذي طرأ على المجتمع التونسي إبان الثورة: "أيُعقل على امتداد خمسين عاماً أن أعُدّ الثّورة من المستحيلات السبع في بلد كبلادنا؟ ... ما الذي غيّب عني أن لها كُموناً في الآفاق؟".

فضلاً عن "سي حميدة"، استعرض الروائي نماذج مختلفة من المجتمع التونسي في لحظة الثورة، عبر تقديمه للعديد من الشخصيات الثانوية، مثل الحلاق، وبائع العجلات المطاطية، والجزار، ورواد المقاهي، والنساء الأميّات، سارداً عن طريقهم الفترة الأولى من الثورة التونسية.

كما تناول أزمة الصراع على السلطة بين العلمانيين والإسلاميين، وما زامنها من حراك فكري ديني على الساحة التونسية. لم يُخف الواد انتماءه الأيديولوجي، فعبّر في روايته -بطرق مختلفة- عن رفضه للحكم الديني. ظهر ذلك في أوضح صوره في اختيار اسم "الغربان" عنواناً للرواية، في إشارة تعريضية بالإسلاميين وحركة النهضة التي تولت مقاليد السلطة لفترة عقب خلع نظام زين العابدين بن علي.

 

"جمهورية كأن"

صدرت الرواية عام 2018 عن دار الآداب اللبنانية للروائي المصري علاء الأسواني. تناولت أحداث ثورة "25 يناير" في مصر ونتائجها وانعكاساتها على ميادين العمل السياسي.

عبر صفحات الرواية، استعرض الأسواني العديد من الشخصيات التي شكلت فسيفساء الحدث الثوري في مصر. بعضها جسد قوى النظام الديكتاتوري، بينما ظهرت القوى الشبابية الثورية في شخصيات أخرى.

على سبيل المثال تحدث الأسواني عن شخصية "اللواء علواني" وهو ضابط كبير المقام، رفيع المستوى، كُلف بإدارة بعض الأجهزة الأمنية الخطيرة في الدولة. جمع "علواني" الكثير من التناقضات الصارخة في شخصيته، فهو -رغم تدينه الظاهر- يصدر الأوامر إلى جنوده باغتصاب زوجات المُعتقلين بغية الحصول على المعلومات التي تفيده في عمله.

أيضاً، أظهرت الرواية شخصية "الشيخ شامل"، وهو رجل دين استمد نفوذه من براعته الخطابية من جهة، ومن تحالفه مع رجال السلطة من جهة أخرى. على الجانب المقابل، تظهر شخصية "أشرف"، الثري المسيحي الذي يقع في حب خادمته المسلمة إكرام، مما يتسبب في غضب زوجته وأبنائه.

هناك أيضاً "خالد" الطبيب القادم من الطبقة الفقيرة، الذي يحب "دانية" ابنة "اللواء علواني"، ويشارك في أحداث الثورة ثم يقع كواحد من ضحاياها الكُثر.

وكذلك، ظهرت شخصية المدرسة "أسماء" التي ترفض إملاءات المجتمع وتتحدى النظام الذكوري التقليدي وتدخل في مواجهات متعددة ضد زملائها.

وسط تلك الشخصيات المتباينة، رسم الأسواني ملامح الثورة كما رآها. ثورة فتية ضد الاستبداد والديكتاتورية، غير أنها سُرعان ما تضعف أمام "القوى الرجعية" المتربصة حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة.

عبّر الروائي عن ذلك المعنى بشكل واضح عندما قال على لسان أسماء: "كانت ثورتنا العظيمة طفرة، وردة جميلة وحيدة وغريبة ظهرت في مستنقع. كانت ثورتنا تَغَيراً مفاجئاً في مسار الجينات المصرية، ثم سرعان ما عاد كل شيء إلى طبيعته، وصرنا نحن خارجين عن السياق، منبوذين لا يريدنا أحد، ولا يتعاطف معنا أحد، ويعتبرنا الجميع سبب كل المصائب".

6 روايات معاصرة عن واقع الأقليات وتاريخها في الدول العربية
هل قرأت سابقاً رواية تصنّف ضمن "أدب الأقليات"؟ إنه نوع مميز من الأدب الروائي، يسلط الضوء على الحياة الاجتماعية والثقافية، إلى جانب التحديات اليومية التي تعانيها الأقليات في أماكن إقامتها، سواء كانت ناتجة عن التهميش أو الصراعات أو القوانين، وغيرها من أمور.

 

"الخيمة"

صدرت الرواية عام 2022 عن دار "عناوين بوكس" للنشر في القاهرة للكاتبة والصحافية اليمنية رغدة جمال. حكت فيها قصة الثورة اليمنية التي اندلعت شرارتها الأولى في 11 فبراير 2011.

اعتمدت الحبكة الرئيسة للرواية على التسجيل الذاتي للأحداث التي وقعت في الشهور الأولى للثورة، وعلى مدار 13 فصلا متتابعا أخذتنا المؤلفة للتعرف على أهم وقائع تلك الانتفاضة من خلال أربعة أبطال رئيسيين، هم: "سيف، وأروى، ونشوان، وأحلام".

اهتمت رغدة جمال بتوضيح دوافع الشباب اليمني الذي شارك في الأيام الأولى للثورة، ولم يكن أي منهم ينتمي لأي فصيل سياسي وقتها، وقادهم الشعور بالظلم إلى الاحتشاد في الميادين والمطالبة بالتغيير خصوصاً بعدما رأوا رياح الربيع العربي تعصف بالأنظمة الحاكمة في كل من تونس ومصر.

على سبيل المثال، قصة "سيف"، الذي تعرض للملاحقة من قِبل السلطات الأمنية بسبب مطالبته بحق أخيه الأصغر الذي قُتل عن طريق الخطأ على يد ابن أحد الوزراء المتنفذين في الدولة. تقول الراوية على لسانه: "كان قلبي مثقلاً بالهموم، وأردت من أحدهم أن يساعدني على اتخاذ القرار، هل أخضع للضغوط التي أتعرض لها مقابل التنازل والقبول بالدية، أم أصرّ على المضي في طريق القضاء، في بلد يحكم القضاء فيه للأقوى؟".

من جهة أخرى، لجأت المؤلفة إلى البعد الرمزي في أكثر من موضع من الرواية. ظهر ذلك في اسم الرواية "الخيمة"، وهو الاسم الذي أشار إلى ساحة التغيير بصنعاء، المكان المحوري الذي تدور فيه أغلب الأحداث.

أيضاً، عملت على نقل الروح الثورية إلى صفحات روايتها من خلال افتتاح كل فصل بمقطع شعري حماسي اعتاد الثوار أن ينشدوه أثناء اعتصامهم في الميدان.

لم تكتف الرواية بالحديث عن فترة الزخم الثوري فحسب، بل ألقت الضوء كذلك على مآلات الأحداث بعد أن اُختطفت الثورة من الشباب المتحمس على يد القبائل القوية والأحزاب السياسية.

أشارت جمال أيضا إلى تلك النهاية المؤسفة  للثورة في ختام روايتها عندما ذكرت على لسان أحد أبطالها "دورنا انتهى.. بقاؤنا هنا لم يعد مُجدياً... ما حدث أنهم باعوا الثورة، تم تقسيم الكعكة، ووجودنا لم يعد له معنى".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

جدارية تصور الشاعر العراقي مظفر النواب بريشة الفنانة العراقية وجدان الماجد على جدار خرساني في العاصمة بغداد.
من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".