صورة (تم تلوينها) لأبطال فيلم "ابن الشرق" الذي مثل نجاحاً كبيراً للسينما العراقية المصرية المشتركة في البدايات
صورة (تم تلوينها) لأبطال فيلم "ابن الشرق" الذي مثل نجاحاً كبيراً للسينما العراقية المصرية المشتركة في البدايات

عُرض أول فيلم سينمائي في العراق في بدايات القرن العشرين. وفي الفترة المبكرة من هذا القرن عُرضت بعض الأفلام الأجنبية الصامتة في قاعات السينما المحدودة التي كانت موجودة في بغداد في ذلك الوقت.

تدريجياً، زاد عدد قاعات السينما، وتم عرض بعض الأفلام الأجنبية الناطقة، وفي الوقت ذاته عُرضت بعض الأفلام المصرية التي حققت شهرة كبيرة في العديد من البلاد العربية.

تسبب إقبال الجمهور العراقي على مشاهدة الأفلام المصرية في دفع بعض المنتجين العراقيين للتفكير في عقد شراكة سينمائية مع الفنانين المصريين، لتشهد أربعينيات القرن الماضي عرض بعض الأفلام المصرية- العراقية المشتركة.

بدأت تلك الأفلام عام 1946 بفيلم "ابن الشرق" من إنتاج شركة "أفلام الرشيد" العراقية-المصرية، وكان من إخراج المصري إبراهيم حلمي، وطولة بشارة واكيم ومديحة يسري ونورهان، والعراقيين عادل عبد الوهاب وعزيز علي وحضيري أبو عزيز.

دارت أحداث الفيلم حول شاب عراقي يدرس الطب في القاهرة وينفصل عن حبيبته ليقع في شباك فتاة لعوب، قبل أن يكتشف حقيقتها ويعود مرة أخرى إلى حبيبته في نهاية الفيلم.

بعد عام واحد عُرض فيلم "القاهرة بغداد"، وهو إنتاج عراقي مصري مشترك من كتابة يوسف جوهر، وإخراج المصري أحمد بدرخان. شارك في بطولته مجموعة من الممثلين العراقيين والمصريين، مثل سلمان الجوهر، وإبراهيم جلال، وبشارة واكيم، ومديحة يسري، وحقي الشبلي.

تدور أحداث الفيلم حول شاب عراقي يُتهم بقتل عمه، فيسافر إلى مصر هارباً، وهناك يقع في حب فتاة مصرية جميلة، ثم يعرف أن الشرطة العراقية ألقت القبض على القاتل الحقيقي فيقرر عندها العودة مع حبيبته إلى العراق.

في عام 1949، قامت شركة "ستوديو بغداد" باستثمار نجاح الفيلمين السابقين عندما أنتجت فيلم "ليلى في العراق" من إخراج المصري أحمد كامل مرسي، وبطولة جعفر السعدي، وإبراهيم جلال، وعفيفة إسكندر، ونورهان.

حكى الفيلم قصة الفتاة الجميلة ليلى التي تعيش في لبنان ويضغط عليها أبوها للزواج من شخص ثري لا تحبه. تهرب ليلى في ليلة الزفاف وتسافر إلى العراق لتعيش مع عمها، وهناك تتعرف على شاب وسيم وتقع في غرامه.

على النقيض من "ابن الشرق" و"القاهرة بغداد"، لم يحقق فيلم "ليلى في العراق" أي نجاح ماديّ، حتى أن خسائره تسببت في توقف "ستوديو بغداد" عن الإنتاج السينمائي.

ملصق فيلم "عليا وعصام" الذي يعتبر أول فيلم من انتاج عراقي
السينما العراقية بين "حرية" أفلام "الأسود والأبيض" وقمع "ألوان" البعث
الملصق بالأبيض والأسود، يظهر فيه اسم الفيلم "عليا وعصام"، وأسماء ثلاثة ممثلين، هم إبراهيم جلال وسليمة مراد وعزيمة توفيق، كما يظهر عصام محتضناً عليا. وفي أعلاه عبارة "ستوديو بغداد للأفلام يقدّم"، وفي الأسفل شعار "ستوديو بغداد للأفلام والسينما"، وهي الشركة التي أنتجت الفيلم.

 

السينما العراقية المستقلة

في منتصف خمسينيات القرن الماضي ظهرت السينما العراقية المستقلة، وانفصل السينمائيون العراقيون للمرة الأولى عن شركائهم المصريين، وتمكنوا من إنتاج عدد من الأفلام المهمة.

كان فيلم "فُتنة وحسن" الذي أُنتج في 1955 أول فيلم سينمائي عراقي خالص، أخرجه حيدر العمر، وهو من تأليفوسيناريو وحوار عبد الهادي مبارك. دارت أحداثه في إحدى القرى العراقية الهادئة حول علاقة الحب التي جمعت بين الفتاة "فُتنة" وابن عمها "حسن"، وما مرت به هذه العلاقة من تهديد بسبب زوجة والد حسن.

من الأفلام المهمة التي صدرت في تلك المرحلة، الفيلم التاريخي "نبوخذ نصر" الذي أنتج في عام 1962، ويُعدّ أول فيلم عراقي ملون على الإطلاق. قام كامل العزاوي بإخراج وتأليف الفيلم، وشارك في بطولته عبد المنعم الدروبي ويعقوب القرة غول وفوزي محسن الأمين وسامي عبد الحميد وسهيلة فوزي.

دارت أحداث الفيلم حول شخصية الملك البابلي الكلداني نبوخذ نصر الثاني الذي حكم بابل في القرن السادس قبل الميلاد، ولعب دوراً مهماً في نهضة بلاد الرافدين.

 

النضج والازدهار

عرفت العراق مرحلة جديدة من مراحل تطور صناعة السينما بدءاً من سبعينيات القرن الماضي. في تلك المرحلة، قامت الحكومة العراقية ممثلة في "المؤسسة العامة للسينما والمسرح" بإنتاج العديد من الأفلام المهمة.

يشرح السيناريست العراقي ولاء المانع التطور الذي حدث في تلك الفترة: "حتى بداية الحرب العراقية الإيرانية في 1980، كانت السينما العراقية تخطو خُطى ناجحة نحو السينما الواقعية. في هذا السياق أنتج عدد لا بأس به من الأفلام المهمة مثل فيلم (الجابي) من إخراج جعفر علي عام 1966، وفيلم (المنعطف) عام 1975 للمخرج نفسه".

يُعدّ فيلم :الظامئون" من الأفلام المهمة التي عُرضت في تلك المرحلة، حيث عرض عام 1972. وهو من إخراج العراقي محمد شكري جميل، وقصة وسيناريو وحوار عبد الرزاق المطلبي. ومن بطولة غازي الكناني وغازي التكريتي وخليل شوقي وناهدة الرماح.

تدور أحداثه في إحدى القرى العراقية الفقيرة، التي تُصاب أرضها بالجفاف. في بادئ الأمر، يفكر أهل القرية في الهجرة إلى مكان آخر، لكنهم يتفقون في نهاية المطاف على الالتفاف حول أحد شيوخ القرية لحفر بئر.

لاقى الفيلم ترحيباً كبيراً في الأوساط السينمائية الدولية، كما فاز بجائزة مهرجان "طشقند" السينمائي الدولي في 1973، ووصفه الناقد السينمائي مهدي عباس بأنه "شكّل علامة فارقة في مسار التجربة السينمائية في العراق"، كما أعلن التأسيس الرسمي للواقعية التسجيلية في السينما العراقية.

مع دخول الثمانينيات، وبالتزامن مع وصول صدام حسين إلى السلطة، ظهرت بعض الأفلام التي عملت على تمجيد النظام القائم. مثل فيلم "الأيام الطويلة" عام 1980، من إخراج المصري توفيق صالح.

دارت أحداث الفيلم حول قصة رئيس النظام البعثي اعتماداً على رواية كتبها الشاعر عبد الأمير معلّة من جزئين بالعنوان نفسه، وتتحدث عن محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق عبد الكريم قاسم، التي شارك فيها صدام حسين مع شبان آخرين، وهربوا إلى سوريا بعد فشل العملية.

تذكر هاديا سعيد في كتابها "سنوات مع الخوف العراقي"، أن "ثقة النظام بنفسه جعلته يعتقد أن بإمكانه توظيف كتّاب وفنانين من أي مكان... تعال إذاً يا توفيق صالح وأخرج لنا فيلماً عن جزء مهم وخطير من تاريخ العراق"، بحسب تعبيرها.

ظهرت ملامح التدخل السياسي في صناعة السينما مرة أخرى سنة 1981، بالتزامن مع إنتاج الفيلم التاريخي الضخم "القادسية"، إذ اضطلعت وزارة الثقافة العراقية بإنتاج هذا الفيلم، وأخرجه المصري صلاح أبو سيف، وكتب له السيناريو والحوار الكاتب المصري محفوظ عبد الرحمن، فيما لعب دور البطولة ثلّة من النجوم العرب، من مصر مثلاً سعاد حسني وعزت العلايلي، ومحمد المنصور من الكويت، والعراقية سعدية الزيدي.

قُدرت تكاليف إنتاج الفيلم بحوالي أربعة ملايين دينار عراقي (نحو 15 مليون دولار آنذاك)، وكانت ميزانية الفيلم هي الأعلى في تاريخ السينما العربية حتى توقيت عرضه. كان الهدف الأهم من الفيلم الاستحواذ على تعاطف الشارع العربي في الحرب ضد الجانب الإيراني.

لكن مع كل هذا الصرف، لم يحقق الفيلم الهدف المنشود، حيث عُرض على نطاق محدود في بعض قاعات السينما داخل عدد من الدول العربية، ومُنع عرضه في الدول التي ساندت إيران في حربها، مثل سوريا وليبيا.  

كما فشل الفيلم في الحصول على الموافقة اللازمة من جانب الأزهر الشريف بمصر، بعدما أصدرت لجنة الدراسات والأبحاث الإسلامية بياناً رفضت فيه عرض الفيلم بسبب تجسيده لشخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وهو واحد من "العشرة المبشرين بالجنة" الذين ترفض المؤسسة الأزهرية تجسيدهم في أي عمل فني.

في عام 1983، قامت الحكومة العراقية بتأكيد النزعة الوطنية في صناعتها السينمائية مرة أخرى، من خلال إنتاج فيلم "المسألة الكبرى" الذي عُرف أيضاً باسم "صدام الولاءات". كان من إخراج محمد شكري جميل، وبطولة العراقيين غازي التكريتي ويوسف العاني وسامي الملاك، إضافة لممثلين أجانب هم أوليفر ريد وهيلين ريان.

تحدث الفيلم عن "ثورة العشرين" وأهم أحداثها وأظهر البطولات الكبيرة التي قام بها العراقيون أثناء تصديهم للاحتلال الإنجليزي. بلغت ميزانية الفيلم 24 مليون دولار، ورُشح للجائزة الذهبية في مهرجان موسكو السينمائي الدولي عام 1983.

 

التدهور

تأثرت السينما العراقية بشكل كبير بالأحداث السياسية التي وقعت في تسعينيات القرن الماضي، بالتزامن مع اندلاع حرب الخليج الثانية وفرض الحصار الاقتصادي على العراق.

من بين الأفلام القليلة التي أنتجها العراق في تلك المرحلة، فيلم "الملك غازي" عام 1993، من تأليف وسيناريو معاذ يوسف، وإخراج محمد شكري جميل. وتناول الفيلم سيرة الملك غازي الذي حكم العراق في ثلاثينيات القرن العشرين. كما سلط الضوء على الجهود التي بذلها لتحرير العراق من النفوذ البريطاني.

تدهورت أوضاع الصناعة السينمائية العراقية بعد سقوط نظام البعث في 2003، وعانى الفنانون العراقيون من الإهمال ورحل الكثير من المبدعين إلى الخارج لضعف الإمكانيات المادية المُتاحة.

يبين المانع لـ"رفع صوتك" أهم المعوقات التي تعرضت لها صناعة السينما في العراق في تلك المرحلة: "أعتقد أن السينما العراقية ما زالت تبحث عن هويتها، خصوصاً أن العراق بعد سنة 2003 لا يشبه عراق ما قبله، وقد تغير كل شي. في الحقيقة، لا توجد سينما عراقية تشبه السينما في أي مكان بالعالم، فنحن نصنع سينما من أجل المهرجانات والمشاركات الخارجية، إذ لا توجد لدينا صالات سينما كافية بل هناك عدد كبير من المدن العراقية تخلو من أي دار سينما. أيضاً".

"كما لا توجد شركات إنتاج سينمائي ولا منتجين أصلاً، وليس هناك أي رؤوس أموال مخصصة للإنتاج السينمائي. باختصار، كل ما يُنتج في العراق من أفلام هو مجرد محاولات فردية تتم في ظل حصول بعض المخرجين على منح من هنا وهناك"، يتابع المانع.

يُعدّ الفيلم الوثائقي "ابن بابل" الذي أُنتج عام 2009 من أبرز المحاولات الفردية التي أشار لها المانع، حيث أُنتج من خلال جهود عراقية- فرنسية مشتركة، وأخرجه العراقي محمد الدراجي.

تدور أحداث الفيلم في شمال العراق عام 2003 عقب سقوط نظام صدام حسين. يتتبع الفيلم قصة طفل كردي يعيش مع جدته. وعندما يعرفان أن هناك بعض أسرى الحرب الذين عُثر عليهم أحياء في جنوب العراق، فإنهما يخوضان رحلة طويلة أملاً في العثور على والد الطفل الذي فُقد في سنة 1991 أثناء حرب الخليج الثانية.

أما فيلم "جنائن مُعلقة" للمخرج العراقي أحمد ياسين، فهو من أواخر المحاولات السينمائية التي شهدها العراق مؤخراً، تدور أحداثه حول أسعد البالغ من العمر 12 عاماً، الذي يتبنى دميةٍ جنسية أميركية عُثر عليها في أماكن النفايات ببغداد.

لاقي الفيلم استحسان العديد من النقاد والسينمائيين، وفي سبتمبر 2022 تمكن من المشاركة في مهرجان البندقية السينمائي الدولي.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

جدارية تصور الشاعر العراقي مظفر النواب بريشة الفنانة العراقية وجدان الماجد على جدار خرساني في العاصمة بغداد.
من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".