على امتداد أكثر من قرن منذ انطلاق أول العروض السينمائية والمسرحية والتلفزيونية في العراق، أصدرت السلطات العراقية قرارات بمنع العديد من تلك الأعمال الفنية بضغط من أحداث سياسية وأخرى دينية أو اجتماعية.
حالات إيقاف الأعمال الفنية في أغلبها جاءت استناداً إلى قناعات السلطات الرسمية. ففي العهد الملكي مُنعت أعمال لأنها "تضر بالمصلحة العامة"، وفي حقبة النظام البعثي فُرضت رقابة صارمة على الأعمال الفنية بهدف ضبط إيقاعها لتتناسب مع توجهاته الفكرية في تمجيد هرم السلطة.
ووصولاً إلى حقبة ما بعد عام 2003 التي أعطت الحرية في تناول أغلب المواضيع، باستثناء ما يتم اعتباره مساساً بالمقدسات أو يمكن أن يسيء إلى رموز دينية أو يُخلّ بالتوازن الاجتماعي، ووفق ما تتطلبه المرحلة السياسية أو الحالة الأمنية التي يمر بها البلد.
بالنتيجة، جرى منع عرض العديد من الأعمال الفنية في المسرح والسينما والتلفزيون. أحدثها خلال موسم رمضان الحالي، مسلسل "عالم الست وهيبة" الذي انتُقد بدايةً بسبب "الإساءة لرموز وشخصيات دينية" ثم تم إيقافه بناءً على دعوى رفعها مؤلفه، لأنه "لم يحصل على مستحقاته المالية".
وتعليقاً على ذلك، أصدرت نقابة الفنانين العراقيين بياناً، تعلن فيه "رفضها القاطع" للمساس بالأعمال الفنية العراقية خصوصاً الدرامية "تحت أية ذريعة كانت".
وقالت إنها "تحيط الجمهور علماً بأن جميع النصوص الدرامية المنتجة يتم فحصها وإجازتها من قبل لجنة فنية متخصصة في هذه النقابة"، مؤكدةً أن هناك "تنسيقاً تاماً بين هذه النقابة وهيئة الإعلام والاتصالات كجهة حكومية متخصصة في رصد النشاطات المتنوعة على شاشات الفضائيات".
على خشبة المسرح
مع الاضطرابات السياسية التي شهدها العراق خلال خمسينات القرن الماضي، ضاعفت الحكومة العراقية رقابتها على المسرح، فتقرر منع وإيقاف العديد من المسرحيات، أبرزها اثنتان ليوسف العاني وهما "مو خوش عيشة" و"رأس الشليلة"، كما صرّح الفنان الراحل سامي عبد الحميد.
وفي عام 1957، ألغيت إجازة فرقة المسرح الحديث بعد رفض الرقابة نصاً مسرحياً حمل عنوان "هذا المجنون الفني". والسبب كما جاء في نص الأمر الحكومي أن الفرقة "تعرض الادعاءات التي تستهدف النيل من أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، ولعدم مراعاتها مقررات فحص النصوص التمثيلية".
وأضاف الأمر الحكومي أن "تصرفات هذه الفرقة مضرّة بالمصلحة العامة، لأنها تقدم في مسرحياتها كثيراً من المشاكل وتنبّه الناس عليها، وكثيراً ما تضع اللوم على الحكومة بأنها المتسببة في إفقار الشعب وحالته السيئة التي وصل إليها".
خلال الستينيات، أصدرت السلطات التي أزاحت حكم عبد الكريم قاسم أمراً بإلغاء إجازات الفرق المسرحية جميعها، كما اعتقلت يوسف العاني الذي كان مديراً عاماً لمؤسسة السينما والمسرح آنذاك.
وفي عام 1995، أوقفت السلطات البعثية عرض مسرحية "الليالي السومرية"؛ بسبب النص الذي قالت عنه مؤلفته لطفية الدليمي في مقال لها إنه كان "نصاً جندرياً لملحمة جلجامش يجسد الأنوثة في مواجهة غطرسة السلطة ودور المرأة في صنع الحضارة والبحث عن لغز الحياة والموت".
والسبب الرئيس في إيقاف عرضها "تضرّع النساء الآلهة أن تخلق نداً ليقارع جلجامش المتجبر ويهزمه بسبب أفعاله بمدينة أوروك وأهلها".
في السينما
في عام 1995 منعت السلطات العراقية عرض فيلم "الأيام الطويلة" الذي كان يحكي أحداثاً مستوحاة من قصة حياة رئيس النظام العراقي الأسبق صدام حسين. ويتحدث الفيلم عن محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق عبد الكريم قاسم التي شارك فيها صدام نفسه مع شبان بعثيين آخرين، وهروبه إلى سوريا بعد إصابته بطلق ناري في قدمه.
اختير لأداء دور البطولة (أي دور صدام حسين) في الفيلم، صدام كامل، الذي تزوج وأخوه حسين كامل من ابنتي صدام حسين لاحقاً، وقتلا على يدي القوات الأمنية بعد عودتهما من فترة لجوء قصيرة في الأردن، ليتم منع الفيلم بعد أن كان يُعرض بشكل دوري على شاشة التلفزيون العراقي.
الأسباب السياسية أدت أيضاً إلى منع عرض العديد من الأفلام في العراق، وهو ما تحدث عنه المخرجان فيصل الياسري ومحمد شكري جميل في جلسة حوارية خلال استضافتهما في معرض العراق الدولي للكتاب.
جاء الحديث بعد سؤال من الجمهور يتعلق بالأفلام الممنوعة من العرض في العراق، ليشير محمد شكري جميل إلى إيقاف فيلمه "السلاح الأسود" في السبعينات حيث أشار الاسم حينها إلى المقوار، وهو أداة مصنوعة يدوياً من عصا غليظة يتم تشكيل دائرة من القير الأسود في طرفها العلوي لاستعمالها كسلاح خلال المعارك من قبل أبناء العشائر قديماً.
وقال جميل خلال الجلسة إلى أن منع الفيلم تم بأمر من رئيس النظام آنذاك، لأنه "يكشف أن أدوات الثورة أدت لفشلها (...)" مضيفاً "أعتقد أن منع الفيلم هو أشبه بعملية اغتيال للحقيقة".
وأشار الياسري أيضا أنه في عام 2013 جرى منع فيلم آخر لجميل وهو "المسرّات والأحزان" الذي تم إنتاجه لصالح مهرجان "بغداد عاصمة الثقافة العربية"، وجاء المنع بعد شكوى قدمتها شركة إيرانية تتعلق بعدم تسديد حقوقها المالية.
وتعرض أحد أفلام الياسري إلى المنع وهو "بغداد حلم وردي" الذي أنتج هو الآخر لصالح المهرجان "بحجة أنه يثني على صدام حسين، رغم أن سيناريو الفيلم قُرئ من لجنة ضمت سبعة أعضاء من وزارة الثقافة دون أن يشيروا لوجود مثل هذه الفكرة".
على شاشة التلفزيون
منذ افتتاح تلفزيون العراق عام 1956 حتى العام الحالي، مُنعت العديد من الأعمال التلفزيونية من العرض لأسباب سياسية واجتماعية مختلفة. وكان يتم منع أعمال دول بعينها عن العرض إذا ما حصل خلاف سياسي أو حرب بين تلك الدولة والحكومة العراقية، كمنع عرض الأعمال الفنية الإيرانية بعد حرب الخليج الأولى والأعمال الكويتية بعد حرب الخليج الثانية.
في 2011، صادق البرلمان العراقي على قرار منع عرض المسلسل السوري "الحسن والحسين" على قناة عراقية لتطرّقه لما يُعرف في التاريخ الإسلامي بـ"الفتنة الكبرى" وهي واحدة من أهم الأحداث التي أدت لانقسام المسلمين بين سنة وشيعة وخوارج.
وتطرق المسلسل إلى حياة حفيدي الرسول محمد، الحسن والحسين، ودورهما في الدفاع عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان ومساندتهما والدهما عليا بن أبي طالب، حتى مقتل الإمام الحسين في عهد يزيد بن معاوية، وهي فترة تاريخية حافلة بالأحداث والصراعات والخلافات المذهبية.
في العام الماضي، أثارت عدة مسلسلات الجدل في العراق بعد الإعلان عن تنفيذها أو عرضها على القنوات الفضائية أولها الجدل حول عرض مسلسل "معاوية" الذي أثار الكثير من ردود الفعل حتى قبل عرضه، ليصل إلى التهديد بإنتاج عمل يحمل اسم "شجاعة أبي لؤلؤة" وهو قاتل الخليفة عمر بن الخطاب.
حصل ذلك قبل أن تُنهي هيئة الإعلام والاتصالات العراقية الجدل بقرارها منع بث العملين، وذكرت وكالة الأنباء العراقية حينذاك أن "التوجيه يأتي في إطار الرغبة في عدم بث أي أعمال فنية تتناول موضوعات تاريخية جدلية ومنها العملان الفنيان المذكوران".
الخلافات حول الدراما في العراق لم تكن لأسباب دينية فحسب. ففي الموسم الرمضاني الماضي أيضاً احتدم النقاش بعد عرض المسلسل العراقي "الكاسر" لأسباب اجتماعية. وهو يروي قصة "شيخ عشيرة" محب للنساء وذي سلوك إجرامي، الأمر الذي اعتبرته العديد من الجهات إساءة إلى أعراف وتقاليد العشائر العراقية جنوب العراق.
تم إيقاف العمل من قبل هيئة الإعلام والاتصالات، رغم تصريح بطله غالب جواد بأنه "لا يمثل أي جهة لا جنوبية ولا شمالية ولا غربية، بل هو عمل ريفي غير واقعي".