صورة من المسلسل السوري "الحسن والحسين" الذي مُنع من العرض في العراق بقرار برلماني عام 2011
صورة من المسلسل السوري "الحسن والحسين" الذي مُنع من العرض في العراق بقرار برلماني عام 2011

على امتداد أكثر من قرن منذ انطلاق أول العروض السينمائية والمسرحية والتلفزيونية في العراق، أصدرت السلطات العراقية قرارات بمنع العديد من تلك الأعمال الفنية بضغط من أحداث سياسية وأخرى دينية أو اجتماعية.

حالات إيقاف الأعمال الفنية في أغلبها جاءت استناداً إلى قناعات السلطات الرسمية. ففي العهد الملكي مُنعت أعمال لأنها "تضر بالمصلحة العامة"، وفي حقبة النظام البعثي فُرضت  رقابة صارمة على الأعمال الفنية بهدف ضبط إيقاعها لتتناسب مع توجهاته الفكرية في تمجيد هرم السلطة.

ووصولاً إلى حقبة ما بعد عام 2003 التي أعطت الحرية في تناول أغلب المواضيع، باستثناء ما يتم اعتباره مساساً بالمقدسات أو يمكن أن يسيء إلى رموز دينية أو يُخلّ بالتوازن الاجتماعي، ووفق ما تتطلبه المرحلة السياسية أو الحالة الأمنية التي يمر بها البلد.

بالنتيجة، جرى منع عرض العديد من الأعمال الفنية في المسرح والسينما والتلفزيون. أحدثها خلال موسم رمضان الحالي، مسلسل "عالم الست وهيبة" الذي انتُقد بدايةً بسبب "الإساءة لرموز وشخصيات دينية" ثم تم إيقافه بناءً على دعوى رفعها مؤلفه، لأنه "لم يحصل على مستحقاته المالية".

وتعليقاً على ذلك، أصدرت نقابة الفنانين العراقيين بياناً، تعلن فيه "رفضها القاطع" للمساس بالأعمال الفنية العراقية خصوصاً الدرامية "تحت أية ذريعة كانت".

وقالت إنها "تحيط الجمهور علماً بأن جميع النصوص الدرامية المنتجة يتم فحصها وإجازتها من قبل لجنة فنية متخصصة في هذه النقابة"، مؤكدةً أن هناك "تنسيقاً تاماً بين هذه النقابة وهيئة الإعلام والاتصالات كجهة حكومية متخصصة في رصد النشاطات المتنوعة على شاشات الفضائيات".

الملصق الدعائي للجزء الثاني من مسلسل عالم الست وهيبة.
"عالم الست وهيبة".. اتهامات بـ"الإساءة للمقدسات" وإيقاف بحجة "مستحقات مالية"
بعد جدل واسع رافق عرض الجزء الثاني من مسلسل "عالم الست وهيبة"، وتضمن مطالبات برلمانية ودينية بإيقافه بتهمة "الإساءة لشخصيات رموز دينية"، أصدر القضاء العراقي، اليوم الأثنين، أمراً ولائياً بإيقاف عرض المسلسل.

 

على خشبة المسرح

مع الاضطرابات السياسية التي شهدها العراق خلال خمسينات القرن الماضي، ضاعفت الحكومة العراقية رقابتها على المسرح، فتقرر منع وإيقاف العديد من المسرحيات، أبرزها اثنتان ليوسف العاني وهما "مو خوش عيشة" و"رأس الشليلة"، كما صرّح الفنان الراحل سامي عبد الحميد.

وفي عام 1957، ألغيت إجازة فرقة المسرح الحديث بعد رفض الرقابة نصاً مسرحياً حمل عنوان "هذا المجنون الفني". والسبب كما جاء في نص الأمر الحكومي أن الفرقة "تعرض الادعاءات التي تستهدف النيل من أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، ولعدم مراعاتها مقررات فحص النصوص التمثيلية".

وأضاف الأمر الحكومي أن "تصرفات هذه الفرقة مضرّة بالمصلحة العامة، لأنها تقدم في مسرحياتها كثيراً من المشاكل وتنبّه الناس عليها، وكثيراً ما تضع اللوم على الحكومة بأنها المتسببة في إفقار الشعب وحالته السيئة التي وصل إليها".

خلال الستينيات، أصدرت السلطات التي أزاحت حكم عبد الكريم قاسم أمراً بإلغاء إجازات الفرق المسرحية جميعها، كما اعتقلت يوسف العاني الذي كان مديراً عاماً لمؤسسة السينما والمسرح آنذاك.

وفي عام 1995، أوقفت السلطات البعثية عرض مسرحية "الليالي السومرية"؛ بسبب النص الذي قالت عنه مؤلفته لطفية الدليمي في مقال لها إنه كان "نصاً جندرياً لملحمة جلجامش يجسد الأنوثة في مواجهة غطرسة السلطة ودور المرأة في صنع الحضارة والبحث عن لغز الحياة والموت".

والسبب الرئيس في إيقاف عرضها "تضرّع النساء الآلهة أن تخلق نداً ليقارع جلجامش المتجبر ويهزمه بسبب أفعاله بمدينة أوروك وأهلها".

 

في السينما

 

في عام 1995 منعت السلطات العراقية عرض فيلم "الأيام الطويلة" الذي كان يحكي أحداثاً مستوحاة من قصة حياة رئيس النظام العراقي الأسبق صدام حسين. ويتحدث الفيلم عن محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق عبد الكريم قاسم التي شارك فيها صدام نفسه مع شبان بعثيين آخرين، وهروبه إلى سوريا بعد إصابته بطلق ناري في قدمه.

اختير لأداء دور البطولة (أي دور صدام حسين) في الفيلم، صدام كامل، الذي تزوج وأخوه حسين كامل من ابنتي صدام حسين لاحقاً، وقتلا على يدي القوات الأمنية بعد عودتهما من فترة لجوء قصيرة في الأردن، ليتم منع الفيلم بعد أن كان يُعرض بشكل دوري على شاشة التلفزيون العراقي.

الأسباب السياسية أدت أيضاً إلى منع عرض العديد من الأفلام في العراق، وهو ما تحدث عنه المخرجان فيصل الياسري ومحمد شكري جميل في جلسة حوارية خلال استضافتهما في معرض العراق الدولي للكتاب.

جاء الحديث بعد سؤال من الجمهور يتعلق بالأفلام الممنوعة من العرض في العراق، ليشير محمد شكري جميل إلى إيقاف فيلمه "السلاح الأسود" في السبعينات حيث أشار الاسم حينها إلى المقوار، وهو أداة مصنوعة يدوياً من عصا غليظة يتم تشكيل دائرة من القير الأسود في طرفها العلوي لاستعمالها كسلاح خلال المعارك من قبل أبناء العشائر قديماً.

وقال جميل خلال الجلسة إلى أن منع الفيلم تم بأمر من رئيس النظام آنذاك، لأنه "يكشف أن أدوات الثورة أدت لفشلها (...)" مضيفاً "أعتقد أن منع الفيلم هو أشبه بعملية اغتيال للحقيقة".

وأشار الياسري أيضا أنه في عام 2013 جرى منع فيلم آخر لجميل وهو "المسرّات والأحزان" الذي تم إنتاجه لصالح مهرجان "بغداد عاصمة الثقافة العربية"، وجاء المنع بعد شكوى قدمتها شركة إيرانية تتعلق بعدم تسديد حقوقها المالية.

وتعرض أحد أفلام الياسري إلى المنع وهو "بغداد حلم وردي" الذي أنتج هو الآخر لصالح المهرجان "بحجة أنه يثني على صدام حسين، رغم أن سيناريو الفيلم قُرئ من لجنة ضمت سبعة أعضاء من وزارة الثقافة دون أن يشيروا لوجود مثل هذه الفكرة".

 

على شاشة التلفزيون

منذ افتتاح تلفزيون العراق عام 1956 حتى العام الحالي، مُنعت العديد من الأعمال التلفزيونية من العرض لأسباب سياسية واجتماعية مختلفة. وكان يتم منع أعمال دول بعينها عن العرض إذا ما حصل خلاف سياسي أو حرب بين تلك الدولة والحكومة العراقية، كمنع عرض الأعمال الفنية الإيرانية بعد حرب الخليج الأولى والأعمال الكويتية بعد حرب الخليج الثانية.

في 2011، صادق البرلمان العراقي على قرار منع عرض المسلسل السوري "الحسن والحسين" على قناة عراقية لتطرّقه لما يُعرف في التاريخ الإسلامي بـ"الفتنة الكبرى" وهي واحدة من أهم الأحداث التي أدت لانقسام المسلمين بين سنة وشيعة وخوارج.

وتطرق المسلسل إلى حياة حفيدي الرسول محمد، الحسن والحسين، ودورهما في الدفاع عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان ومساندتهما والدهما عليا بن أبي طالب، حتى مقتل الإمام الحسين في عهد يزيد بن معاوية، وهي فترة تاريخية حافلة بالأحداث والصراعات والخلافات المذهبية.

في العام الماضي، أثارت عدة مسلسلات الجدل في العراق بعد الإعلان عن تنفيذها أو عرضها على القنوات الفضائية أولها الجدل حول عرض مسلسل "معاوية" الذي أثار الكثير من ردود الفعل حتى قبل عرضه، ليصل إلى التهديد بإنتاج عمل يحمل اسم "شجاعة أبي لؤلؤة" وهو قاتل الخليفة عمر بن الخطاب.

حصل ذلك قبل أن تُنهي هيئة الإعلام والاتصالات العراقية الجدل بقرارها منع بث العملين، وذكرت وكالة الأنباء العراقية حينذاك أن "التوجيه يأتي في إطار الرغبة في عدم بث أي أعمال فنية تتناول موضوعات تاريخية جدلية ومنها العملان الفنيان المذكوران".

الخلافات حول الدراما في العراق لم تكن لأسباب دينية فحسب. ففي الموسم الرمضاني الماضي أيضاً احتدم النقاش بعد عرض المسلسل العراقي "الكاسر" لأسباب اجتماعية. وهو يروي قصة "شيخ عشيرة" محب للنساء وذي سلوك إجرامي، الأمر الذي اعتبرته العديد من الجهات إساءة إلى أعراف وتقاليد العشائر العراقية جنوب العراق.

تم إيقاف العمل من قبل هيئة الإعلام والاتصالات، رغم تصريح بطله غالب جواد بأنه "لا يمثل أي جهة لا جنوبية ولا شمالية ولا غربية، بل هو عمل ريفي غير واقعي".

انتقدت "منظمة المرأة العراقية" المسلسل العراقي "انفصال" الذي يعرض حالياً في رمضان، وطالبت بإيقاف عرضه، لأنه "يصور المرأة...

Posted by ‎Irfaa Sawtak - ارفع صوتك‎ on Wednesday, March 20, 2024

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".