في بداية مايو الحالي، فجّر فيديو لا يتعدّى عشر ثوانٍ غضب الآلاف من مناصري القضية الفلسطينية في العالم الغربي والدّاعين إلى وقف الحرب في قطاع غزة، الذين أطلقوا تلوه حملة لمقاطعة نجوم الفن والغناء وحظرهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لعدم استخدام منصاتهم في إلقاء الضوء على ما يجري في الأراضي الفلسطينية.
تطوّر الأمر بسرعة، لينتقل إلى منصات التواصل العربية، فتتالت عشرات مقاطع الفيديو التي تُسمّي صفحات مؤثرين ونجوم ومشاهير عرب، وتُرفق روابط صفحاتهم، محفّزين المتابعين على حظرهم.
الفيديو كان لعارضة الأزياء الأميركية هايلي كاليل بيلي، تقوم به بمشافهة لمقطع صوتي مأخوذ من فيلم "ماري أنطوانيت" (2006) تقول فيه "دعم يأكلون الكعك Let them eat cake"، وهي عبارة تُنسب للملكة زوجة لويس السادس عشر -علماً بأن مصادر تاريخية نفت ذلك- إبّان الثورة الفرنسية، في وقت كان الشعب يعاني الجوع والفقر.
حديقة الزمن و"هانغر غيمز"
العبارة المسجلة استُخدمت من قبل العشرات في تطبيق "تك توك" الشهير بفيديوهات المشافهة (ليبسينغ)، إلا أن التوقيت والمكان جعلا بيلي في عيون الغاضبين أيقونة الطبقية والانفصال عن الواقع الذي يعيشه المشاهير والنجوم الذين شاركوا في حفل الأزياء السنوي "ميت غالا" في مدينة نيويورك الأميركية، على بعد ربع ساعة فقط من جامعة كولومبيا، التي كانت تشهد في نفس الوقت (6-8) مايو، احتجاجات طلابية تطالب بسحب الجامعة استثماراتها في إسرائيل، بدعوى أنها "تسهم في الإبادة الجماعية داخل قطاع غزة" كما أعلن الطلبة، الذين ووجهوا بقمع عناصر الشرطة وتعرض بعضهم للاعتقال والضرب، وآخرون تم فصلهم من الجامعة.
كانت العارضة المختصة بالترويج للملابس الرياضية، ترتدي فستاناً من الورود، تماشياً مع ثيمة الحفل لعام 2024 وهي "حديقة الزمن"، وبسبب غرابة الأزياء المرتبطة بهذا الثيم، ونتيجة تزامنه مع الحرب الدائرة في غزة بين إسرائيل وفصائل فلسطينية مسلحة على رأسها "كتائب القسام" التابعة لحركة حماس، أسفرت عن مقتل أكثر من 40 ألفاً وتجويع مئات الآلاف، كان الاستحضار الأول في منشورات مكتوبة ومرئية انتشرت بشكل واسع في مواقع التواصل، سلسلة أفلام "هانغر غيمز (ألعاب الجوع)" وتصدّر مفهوم "الديستوبيا" حديث مناصري غزة المشاركين في حملة "حظر المشاهير"، مسقطين إياه على الواقع المُعاش اليوم.
هانغر غيمز: سلسلة أفلام أميركية تدور أحداثها الرئيسية بين عالمين أحدهما يحكم الآخر ويستولي على ثرواته ويجوّع سكانه ويُشغلهم بألعاب يقتل فيها الشباب من أبناء (العالم الفقير- المقاطعات) بينما يتمتع بالمشاهدة أبناء العالم الغني (العاصمة)، قبل أن تندلع الثورة.
المفارقة في هذه المسألة، أن ثيمة الأزياء لحفل "ميت غالا" مستلهمة أساساً من قصة قصيرة حملت نفي العنوان "حديقة الزمن" كتبها عام 1962 الروائي البريطاني جيه جي بالارد، وتحكي، بحسب ما نُشر في مجلة "فوغ"، عن الكونت أكسل وزوجته الكونتيسة، اللذين يعيشان في يوتوبيا الترفيه والفن والجمال؛ داخل فيلا ذات شرفة تطل على حديقة من الزهور البلورية ذات الأوراق الشفافة والسيقان اللامعة الشبيهة بالزجاج، والبلورات في قلب كل زهرة.
وجاء في مقال مجلة الأزياء الأشهر عالمياً، أنه على الرغم من كل ذلك الجمال في حياتهما، وكما هو الحال في جميع أعمال بالارد (أصبح بالارديان وفقًا للقواميس المعاصرة، يمثل الحداثة البائسة، والمناظر الطبيعية الاصطناعية القاتمة، والآثار النفسية للتطورات التكنولوجية أو الاجتماعية أو البيئية)، هناك عنصر بائس في جنتهما؛ حيث أن التمسك بها يشبه محاولة الحفاظ على كل حبة من حفنة الرمل سليمة في راحة يدك.
أضاف "خلف أسوار فيلا الكونت أكسل، يقترب حشد من الغوغاء الفوضويين كل ساعة. ولاستعادة الهدوء يجب على الكونت أن يقطف زهرة تعكس الزمن من حديقته حتى لا يتبقى منها شيء. تنتهي القصة بنزول الغوغاء غير المفكرين إلى الفيلا، التي أصبحت الآن ملكية مهجورة بها حديقة مهملة، يقف فيها تمثال الكونت والكونتيسة متشابكين في نباتات البلادونا الشائكة".
ما الـ"ديستوبيا"؟
تعود أصول مصطلح ديستوبيا لِلّغة اليونانية القديمة، ومعناه الحرفي "مكان كريه". وبات هذا المصطلح شائعاً بعدما استعمله الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل في خطاب برلماني عام 1868، بعدها تردّد هذا المصطلح في كتابات الفيلسوف الألماني فريديرك نيتشه والأمريكي ريتشارد رورتي والفرنسي جان بودريار.
نشأ مصطلح الديستوبيا مفهوما فلسفيا مُضادا لمصطلح "يوتوبيا" المصوغ للتعبير عن الحلم الإنساني القديم بالمدينة الفاضلة التي يسود فيها العدل والمساواة ويعيش فيها الجميع بسعادة ورخاء.
على النقيض تماماً ظهرت الديستوبيا للتعبير عن عالم وهمي بالغ السوء والكآبة يجتمع به الفقر والظلم والمرض ويعيش فيه الناس أسوأ أوضاعهم.
لاحقاً تبلور هذا المصطلح وظهر باعتباره تصنيفا أدبيا في أواسط النصف الثاني من القرن العشرين، حسبما ذكرت دكتورة نعيمة عبدالجواد في بحثها "ديستوبيا الواقع واليوتوبيا المأمولة".
بعدما اعتُمدت الديستوبيا بوصفها أحد التصنيفات الأدبية للروايات. وقد اعتُبرت رواية "موندس آلتر وآخرون Mundes alter et idem" التي كتبها الأسقف الإنجليزي جوزيف هول أول عمل أدبي كُتب بتكنيك "الديستوبيا"، أما العملان الأدبيان الأكثر شهرة في هذا المضمار هما روايتا "1984" و"مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، حسبما ورد في بحث "الرواية في أدب المدينة الفاسدة".
في بحثها "الديستوبيا في الرواية العربية المعاصرة (المدينة الفاسدة)" أوضحت مجدولين المساعفة أن المعاناة هي كلمة السر في خلق عالم الديستوبيا، وهو ما عزّز من انتشارها بالأدب العربي بسبب معاناة الإنسان العربي من القمع والاستبداد وغياب الحقوق والحريات وتركز السُلطة في يد نُخب أو أسر حاكمة.
تقول مجدولين: "مثّلت الدستوبيا طريقاً للحالمين بالتغيير، وهذه الأعمال هي بمثابة إنذار شديد الإلحاح للبشر بضرورة السير في طريق مختلف".
وهذه أبرز الأعمال الأدبية العربية التي تخيّل كتّابها دستوبيا مظلمة تنتظر بلادهم في المستقبل.
"يوتوبيا"، أحمد خالد توفيق
في هذا العمل قدّم الأديب المصري رؤيتين متمازجتين، متوقعاً أن يقتصر التمتّع باليوتوبيا المستقبلية على الأغنياء فقط الذين يعيشون في مجتمعٍ خاص مزود بـ"بوابات عملاقة وسلك مكهرب تحرسهم شركات أغلب العاملين فيها من المارينز المتقاعدين"، هذه المدينة اليوتيوبية الجميلة صغيرة الحجم لا يعيش فيها إلا مجموعة قليلة من الأغنياء.
أما باقي وأغلب سكان مصر فهم يعيشون الديستوبيا الحقيقية وراء أسوار اليوتوبيا؛ انقطعت عنهم الخدمات الحكومية، وباتوا يعيشون بالحد الأدنى من السكن والعلاج والطعام، حتى إن الناس اضطروا لاصطياد الحيوانات والكلاب لتناولها، وهؤلاء البشر وصفهم توفيق في روايته بأنهم "يتظاهرون بأنهم أحياء".
وفي روايته حكى توفيق أن سكان "يوتوبيا" الأثرياء باتوا يعتبرون ما حولهم من السكان بشراً دون المستوى، أقرب إلى الحيوانات، لذا فإنه عندما استبدَّ الملل بأحد سكانهم لم يعد يجد مُتعة في حياته المرفهة إلا في التسلل ليلاً إلى الأحياء الفقيرة من حوله و"اصطياد" أحد سكانها الفقراء وقتله.
في إحدى مهام هذا الشاب الصيّاد يعجز عن العودة فيساعده "جابر" أحد الفقراء الذين يعيشون بالقرب منه، رغم هذه المساعدة فإن الشاب الغني يقتله في نهاية المطاف، ويغتصب أخته.
بسبب هذا الحادث ينفجر الغضب المتراكم في صدور الناس فيثور الديتسوبيون، ويحاصرون المدينة الحصينة، ويبدو التغيير قريباً على لسان أحد الأغنياء المُحاصَرين قائلاً "هناك شيء يتحرّك في أرض الأغيار ضدّنا، هذه المرّة هي أعنف وأكثر تصميماً".
"فرانكشتاين في بغداد"، أحمد سعداوي
في عمله تخيّل سعداوي المستقبل القاتم الذي ينتظر العراق الغارق في دوامة العنف والدم منذ سقوط نظام صدام حسين في 2003.
يتناص سعداوي مع رواية "فرانكشتاين" للكاتبة الإنجليزية ماري شيلي في محاولة مقصودة منه لتصوير الواقع العراقي الأليم والتأكيد على مسؤولية الغرب عن كل ما جرى فيه.
بدأ سعداوي روايته بحادث تفجير أسفر عن عشرات القتلى والجرحى، هنا ظهر البطل الأول للرواية هادي العتّاك الذي راح يجمع أشلاء ضحايا هذا الحادث وغيره، ركّبها معاً حتى صنع جسداً واحداً، بعدها استقرت في هذا الجسد روح الشاب حسيب الذي مات هو الآخر في تفجير انتحاري، وهكذا تحول الجسد المجمّع من أعضاء الضحايا الممزقة إلى إنسانٍ متكامل الأعضاء له روح تتوق إلى الانتقام من قاتليها، هكذا ظهر في بغداد "فرانكشتاين العرب".
قرر "فرانكشتاين البغدادي" الانتقام من قاتليه تباعاً؛ ضابط فنزولي مرتزق عمل في شركة أمنية بالعراق، قيادي بتنظيم القاعدة، متطرفون منخرطون في تنظيمات إرهابية، مسؤولون حكوميون فاسدون وهكذا.. يمرُّ الوقت ببطل الرواية دون أن ينتهي من قائمة المطلوبين لديه حتى قال لنفسه "انتبهتً ذات ليلة أنني وفق هذه الخطة أمام قائمة مفتوحة لا تكاد تنتهي".
يقع البطل في معضلة كبرى حينما تبدأ أعضاؤه في التآكل ويحتاج إلى استبدالها بأخرى، هنا يضطر لقتل رجلٍ بريء ليسرق منه عينيه، وهو ما وضعه في إشكالية عويصة "مِمَّن سأقتصُّ الآن للثأر لهذه الضحية؟!".
في النهاية يكتشف البطل أن الانتقام لا يُمكن أن يكون حلاً مناسباً وأن دوامة العنف لن ولم تجلب إلا المزيد من العنف وهي الواقع الديستوبي الكئيب الذي فُرض على العراق منذ تدخل الغرب في شؤونه وفرض عليه الدمار والخراب ليس بالحاضر فقط ، ولكن في المستقبل أيضاً.
"عطارد"، محمد ربيع
في روايته تخيّل ربيع أن مصر عانت ضعفاً كبيراً نتيجة لثورتي 2011 و2013 اللتين صنعتا فراغاً في السُلطة، وهو أمر استغلّه فرسان مالطة الباحثون عن دولة يحكمونها للنزول إلى القاهرة واحتلالها.
حرص الكاتب على تأكيد الرابطة التاريخية بين فرسان مالطة والحملات الصليبية التي هاجمت مصر بالعصور الوسطى لتأكيد أن هذا الاحتلال الحديث ما هو إلا حملة صليبية جديدة استولى فيها الأوروبيون على أرض مصر وخيراتها.
الرواية الصادرة لأول مرة في 2014 تخيلت أن عام 2023 أتى محملاً بالدمار على القاهرة بعدما تعرضت لقصفٍ عنيف دمّر البنوك والفنادق ودار الأوبرا ومباني الوزارات، أما تمثال إبراهيم باشا الضخم المنصوب وسط القاهرة فقد قُطعت رأسه وأجزاء من حصانه.
في روايته أظهر ربيع أن المصريين أصابهم الوهن، حتى إنهم تقبّلوا الاحتلال بسهولة، وسمحوا له بإقامة "دولة استعمار فاسدة" بينهم. في هذا المجتمع المصري "المُستعمَر" جرى إخراس رجال الأزهر والمثقفين، وأقرَّ مجلس الشعب قانوناً لترخيص الدعارة، وأباح للعاهرات عمل نقابة لهن، كما سمحت الحكومة أيضا للمخدرات بالانتشار على نطاقٍ واسع كوسيلة لإلهاء الناس، يقول أحد الأبطال "الجميع يكربن (يشرب المخدرات) يا باشا، البلد كلها مكربنة ولا يُمكنك منع ذلك".
لم تتوقف المتاعب عند هذا الحد، وإنما تتعرّض العاصمة المصرية لوباءٍ غامض يصيب الأطفال ويُفقدهم حواسهم الواحدة تلو الأخرى، بهذا يرغب الكاتب في تأكيد أن الوضع الفاسد الحالي سيؤثر في المستقبل، وقد يقضي عليه نهائياً بعدما أفرز مرضاً يحصد أرواح الأطفال.
"الانحناء على جثة عمّان"، أحمد الزعتري
في روايته الأولى تخيّل الزعتري مستقبلاً كابوسياً للعاصمة الأردنية عاشت فيه حرباً أهلية طويلة دمّرت المدينة.
نقطة تفجر الأحداث في الرواية هي المظاهرات التي عرفتها المملكة الهاشمية في 2011، وعُرفت بِاسم "الحراك الأردني"، ورغم أنها في الواقع شهدت احتواءً ذكياً من قِبَل السُلطات الأردنية إلا أن الزعتري تخيّل العكس.
افترض الزعتري أن هذه التظاهرات قادت البلاد إلى طريق أقرب للنموذج السوري؛ حرب أهلية، دمار في كل مكان، تحوّلت العاصمة عمّان إلى مدينة مدمّرة.
بعد أشهر قليلة من عرضها بالمكتبات مُنعت هذه الرواية من قِبَل الرقابة الأردنية بدعوى إساءتها للمجتمع.
"العربي الأخير"، واسيني الأعرج
اختار الأديب الجزائري أن تدور أحداث روايته في عام 2084 في تأثر واضح برواية جورج أورويل 1984. دارت أحداث الرواية في الذكرى المئوية لميلاد الأخ الأكبر في رواية أورويل.
في هذا الزمن انقرضت جميع الجماعات الدينية، ولم يبقَ إلا تنظيم متطرف واحد لا يكفُّ عن تدبير الجرائم الإرهابية ضد الناس، ألمانيا تحوّلت إلى كيان عملاق احتوى كل البلدان المحيطة به، أما أوروبا فلقد سيطرت عليها قبائل الفايكنج، بينما عادت روسيا إلى عهد القياصرة، واستولت على أوكرانيا والمناطق المتاخمة لبحر قزوين.
وبالنسبة للعرب فقد كادوا أن يهلكوا، ولم يبقَ منهم ذو حيثية إلا فرد واحد هو "آدم" عالم الفيزياء الذي جرى اعتقاله بأمرٍ من المارشال ليتل بروزر (الأخ الأصغر بالإنجليزية) الذي يحكم العالم من داخل قلعة أميروبيا (أمريكا + أوروبا) التي تقع في الربع الخالي، وتسيطر على البحر الأحمر ومضيق هرمز.
الماريشال بروزر فرض قبضته على العالم كله عبر مراقبة كل فردٍ به بواسطة تقنيات شديدة الدقة، في هذا العالم يتنبأ واسيني أن العرب سيصلون إلى قمة انحلالهم، فتنهار دولهم ولا يتبقى منها إلا قبائل ضعيفة يحاصرها الجوع والعطش، وتلجأ إلى قلعة الماريشال بروزر ليمنَّ عليها بالطعام والماء.
يقول الكولونيل صامويل أحد أبطال الرواية خلال حديثه عمّا بقى من العرب "هؤلاء الآرابيين القادمين من بعيد، مساكين حقيقة، تأكلهم الصحاري والبرد والمجاعات، عظامهم تكاد تنكسر وتخرج من تحت الجلد من شدة الجوع والتعب والخوف".
أبقى المارشال بروزر على حياة آدم ليستغله في صناعة قنبلة نووية محدودة التأثير ليستخدمها في سحق أعدائه -وأغلبهم من العرب- ويعمل آدم داخل قلعة تحمل شعارات معادية لقومه مثل "العربي الجيد هو العربي الميت" و"في عقر دارك يا صلاح الدين".
تمنّى المارشال بروزر الانتهاء من الاختراع مع حلول السنة الاستثنائية من حياته، يقول "العالم كله يحتفل بهذه السنة التي يُسميها سكان القلعة سنة الماريشال، جدي بيج بروزر، هو قدوتي في الحياة".
وعلى لسان المارشال بروز جاء وصف العرب بأنهم "أمم لا تملك قابلية الاستمرار في الزمن فتقضي على نفسها بنفسها".
"في ممر الفئران"، أحمد خالد توفيق
قدّم الأديب المصري رواية أخرى دارت فلك الديستوبيا وهي "في ممر الفئران" التي ابتعدت عن المستقبل المصري هذه المرة، وعمّم توفيق رؤيته المتشائمة لتشمل الكوكب بأسره.
بطل الرواية هو "الشرقاوي" الذي يتعرض لغيبوبة طويلة يعجز الأطباء عن إفاقته منها، وفي غيبوبته تنتقل روح "الشرقاوي" إلى عالم من الظلال تنقطع عنه الشمس بعد سقوط نيزك على كوكب الأرض لم يدمّرها، لكنه حجب عنها أشعة الشمس وأغرق الأرض في ظلام حالك وأسقطها في هوّة عالم فاسد "هناك رائحة الأنفاس والعرق، وأكوام القمامة والفئران، ورائحة دورة مياه لم يتم إصلاحها منذ قرون".
في ظِل هذا الظلام الذي انتشر في معيته الجهل والضعف والخرافات ظهرت شخصية "القومندان" وهو ديكتاتور فاسد اصطنع من الظلام "عقيدة دينية" فرضها على البشر، وأقنعهم بوجوب اتباعها، وأن أي محاولة لإنتاج النور -ولو عبر إشعال النار - يجب معاقبة صاحبها بالإعدام.
رفضاً لهذه "الديكتاتورية الظلامية" تنشأ مجموعات مقاومة أطلقوا على أنفسهم اسم "النورانيون" يتمردون على هذه القوانين بل وعلى سُلطة القومندان نفسه، ينضمُّ الشرقاوي إلى هذه الجماعة لبعض الوقت إلا أنه في النهاية ينقلب عليهم وينضمُّ إلى "الظلاميين".
برّر توفيق هذه النهاية بأن "النهايات السعيدة تم استهلاكها وباتت لا تمت للواقع بصِلة، وأن الشر معنا وفي داخلنا وقد ينتصر على الخير أحياناً".
لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي اعتمد فيها الأديب المصري على هذه الحبكة، فقد سبق وأن قدّمها بتفاصيل شبيهة جداً في إحدى أعداد سلسلته الشهيرة "ما وراء الطبيعة" وهو مغامرة "أسطورة أرض الظلام".