محمد شياع السوداني
محمد شياع السوداني

انتهى قبل أيّام الماراثون السياسي الأطول في مسيرة الاستحقاقات الدستورية المترتبة على الانتخابات التي أجريت في العراق منذ 2003، إذ بعد عام كامل على الشلل السياسي وتجاذبات الصراع بين الفرقاء السياسيين على منصبَي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، صوّت مجلس النواب على انتخاب السيّد عبد اللطيف رشيد رئيساً لِلجمهورية، ليكلّف السيّد محمد شياع السوداني مرشح قوى الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة. وبذلك تُطوى صفحة هي الأطول في مسيرة تشكيل الحكومات في تجربة نظام الحكم العراقي المعاصر. 

تجربتنا طوال الدورات البرلمانية الماضية مع تغيير الحكومات، تجعلنا نتعاطى مع الحكومة القادمة بحذر شديد، فأزمة الحكومات لا تتغيّر بتغيير الأشخاص، وإنّما في منتظم سياسي يرفض مغادرة منطق التعاطي مع السلطة باعتبارها غنيمة. وهذه المرّة دخلنا في دوامة جديدة من الصراعات السياسية تقوم على مخاوف التهميش والإقصاء بين قوى سياسية تنتمي إلى نفس المكوّن الطائفي أو القومي، والتي ربما تدخلنا في دوامة العنف وعدم الاستقرار السياسي في قادم الأيام. 

إنَّ تشكيل الحكومة الجديدة كان نقطة التقاطع ومحور الصراع الشيعي-الشيعي، وهو الموضوع الأهم الذي يحظى باهتمام العراقيين، إذ يتأمل العراقيون مع تشكيل كلّ حكومة أن تكون همومهم ومعاناتهم من أولوياتها. فلو سُئل العراقيون باختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وطبقاتهم عن أهدافهم وأمانيهم، وطلب منهم أن يصنفوها وفق الأولويات، لأجمعوا على أهداف العيش في ظلّ الدولة، لا دولة تحكمها خفافيش الظلام، فهي المفتاح لاستعادة هيبة الدولة. ومن ثم، تحسين الوضع الاقتصادي والخدمي. 

حكومتا عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي كانتا عبارة عن الحلقات الأخيرة في تراكمات الفوضى والفشل وضياع هيبة الدولة، وتأسيس نمط جديد لإدارة الحكومة يعتمد على ترضية قوى السلطة والنفوذ والزعامات السياسية، وتشكيل حاشية من المقرّبين تبسط نفوذَها على القرار السياسي وتتحكّم بإدارة صفقات وتقاسم موارد الدولة ومؤسساتها.  

هذه التركة الثقيلة والمتراكمة، جعلت القوى السلطوية تتغوّل على الحكومة والدولة معاً، بعد أن ابتدعت أكذوبةً اسمها (رئيس وزراء مستقل) و(حكومة التكنوقراط)، فالغاية الرئيسة من تشكيل تلك الحكومة هو أن تبقى تحت هيمنة إرادة أحزاب السلطة، والمعيار الأساس في اختيار شخصياتها أن تكون ضعيفةً خاضعة لقرار زعامات الطبقة السياسية. وتكون غايتها الرئيسة نيل رضاها وقبولها طمعًا في تجديد بقائها في الحكومة.  

ربما تكون الفائدة الوحيدة من الصراع السياسي بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، (رغم تعطيله تشكيل الحكومة طويلاً)، هو الانتهاء من لعبة الكل في السلطة والكل في المعارضة، ولا نعرف من هي الكتلة السياسية التي تشكّل الحكومة وتتحمّل مسؤولية إخفاقاتها، وتكون مساءلة عن فسادها وضعفها أمام المواطن العراقي. لذلك، تُعد الحكومة القادمة هي حكومة الإطار التنسيقي، والإطار هو المسؤول الأول عنها، لاسيما بعد إصراره على عدم تجاوز العرف السياسي القائم على التوافق في تشكيل الحكومات.  

تكليف محمد شياع السوداني بمهام تشكيل الحكومة القادمة، قد يكون بداية جديدة لتغيير آلية اختيار شخصية رئيس الوزراء. لأنّ التاريخ السياسي للسوداني يجعله أول شخصية سياسية يتم تكليفها لهذا المنصب، وهو لم يكن ضمن الفريق السياسي الذي عمل خارج العراق في بلاد المهجَر، بعنوان معارضة نظام الحكم السابق قبل 2003. وهو يُعد أول سياسي يتدرج في المناصب والوظائف العليا في الدولة، من محافظ ميسان لسنتَين، إلى وزير حقوق الإنسان في حكومة المالكي، وإلى وزير العمل والشؤون الاجتماعية في حكومة العبادي، وثمَّ عضو مجلس النواب في الدورة الماضية.  

لكنّ السوداني أمام تحدٍ سياسي يختلف عن تحديات تشكيل الحكومات السابقة، فهو مرشَّح لِتكتل سياسي متعدد الرؤوس، وأهم مشاكله التناحر غير المعلَن بين زعامته، وستكون أولى تحديات المضي بتشكيل حكومته مواجهتهم بضرورة تغيير نمط تفكيرهم القائم على أنَّ مهمة رئيس الحكومة ترضيتهم وتمرير صفقاتهم، وأنهم شركاء في الفشل قبل أن يكونوا شركاء في النجاح.  

على السودانيّ أن يعمل بخطوات عمليّة وليس شعارات خطابية على ثلاثة مستويات، الأول إقناع الشارع أن يمتلك رؤية سياسية تعمل على إعادة تجسير العلاقة بين الجمهور والحكومة؛ من خلال الاهتمام بأولويات حياتهم اليومية وتحسين أوضاعهم المعاشية. الثاني العمل على توثيق علاقة العراق مع محيطه الإقليمي وعلاقاته الدولية، وفق مبدأ مصلحة العراق، وأن يؤسس لسلوك سياسي خارجي بعيدًا عن التفكير المأزوم لزعامات القوى السياسية التي ترفض أن تغادر نظرية المؤامرة وتعمل على علوية الانتماء العقائدي والإيديولوجي على حساب المصلحة الوطنية. وثالثاً، إعادة الاعتبار لِلدولة وهيبتها في كلّ مفاصل الحياة العامة للمواطن العراقي. 

منطقياً، البداية الصحيحة تكون نتائجها صحيحة، لذلك سيكون التغيير في نمط إدارة الحكومة هو معيار الاختبار الأهم الذي يمكن أن نحاكم عليه السيّد السوداني في الأداء الحكومي. إذ عليه أولاً أن يتعامل برؤية سياسية قويّة وحازمة لإدارة "الخلافات التي صدّعت مؤسسات الدولة، وضيّعت الكثير من الفرص على العراقيين في التنمية والإعمار" كما أشار إلى ذلك في خطاب التكليف. و"حكومة الخدمة" التي يرفعها السوداني شعارًا لحكومته القادمة، ستكون أمام تحدي الاستحقاقات الضاغطة لِلشارع العراقي من أمن وأمان وتقديم الخدمات والارتفاع بالمستوى المعيشي للمواطن.  

استعادة هيبة الدولة التي ضحّت بها الحكومات السابقة من أجل ديمومة بقائها في الحكم، وخسرت هذا الرهان بالنهاية، وهو أساس علل العراق وأسقامه. وعودة هذه الهيبة مفتاح حلّها، فبدون أن يحافظ ويرمّم رأس هرمها رئيس الوزراء صورته، بوصفها شخصية قويّة وموحدة لأطياف الشعب العراقي وأن يجعل الدولةَ التي يقول فقهاؤها إنها المحتكرة لِلقوة الشرعية ولِسلطة الإكراه، فلا إيقاف يُرتجى لمسلسل انحدارها. والسوداني سيكون أمام اختبارات صعبة عليه أن يحسمها بقوّة القرار والموقف السياسي، وأن يتكئ على شرعية المنجَز الذي تقدّمه حكومته. فهو مفتاح القوّة الذي يمكن أن يراهن فيه على الاصطفاف مع الشعب ويستقوي به على الكتل والفرقاء السياسيين، ولا يظلّ في دوامة المساومات والترضيات ولا الرهان على مقبولية دول الخارج. 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.