Aftermath of the deadly earthquake in Jandaris
وصل عدد قتلى الزلزال المدمر في تركيا وسوريا أكثر من 42 ألفا

تحولت الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة إلى ظاهرة تلازم أي حدث عالمي أو كارثة أو جائحة، وبات انتشارها في زمن الأزمات حتمية لا مفر منها، في عالم يعيش ذروة ثورة رقمية، حولت مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات إلى مصدر أول لمعلومات الجمهور، فجعلتهم بذلك عرضة لشتى أنواع التزييف والتزوير على يد ناقلي أخبار، غير مؤهلين تقنيا أو أخلاقيا لنقل المعرفة والمعلومات إلى الرأي العام.  

كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا في السادس من فبراير الجاري، كانت أحدث مثال عن تأثير تلك الأخبار الزائفة على الرأي العام، بعد حالة الهلع العالمية التي تسببت بها، وألحقت أضرارا نفسية وجسدية وصحية بفئة كبيرة من الناس، وصلت إلى حد التأثير على عمليات الإنقاذ والإغاثة، فضلا عن زعزعة ثقة الجمهور بالتفسيرات العلمية والآراء المتخصصة، ليحل مكانها التنجيم والتبصير والغيبيات، فضلا عن النظريات غير العلمية التي تقدم تفسيرات عشوائية وتروج لنظريات مؤامراتية، في مشهد يذكر بما سبق أن شهده العالم مع بداية انتشار فايروس كوفيد 19.  

في الحالتين، لعبت الحسابات التي تحظى بمتابعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، أو ما يصطلح على تسميتهم بـ "المؤثرين"، دورا رئيسيا في الترويج لتلك الأخبار والمعلومات المضللة، ومنحها مصداقية وثقة عالية لدى الجمهور.  

مصيدة متابعات وتفاعل 

ومثلما حصل في زمن الجائحة، تقمص عدد كبير من هؤلاء "المؤثرين" دور الخبراء العارفين، وانتقلوا في المحتوى الذي يقدمونه عادة، إلى تناول قضية الزلازل وما يتوافق معها من محتوى ومواد ومعلومات، فتحولت العملية إلى مواكبة "ترند" بدلا من مواكبة كارثة إنسانية مع ما تتطلبه من مسؤولية، فانطوت على إنتاج ونشر عشوائي للمحتوى، مبني على كم هائل من المعلومات المتوفرة، دون التدقيق في صحتها العلمية أو إقامة أي اعتبار لتأثيرها على الناس.  

ما حصل يتكرر عالميا بشكل يومي، ويتخذ منحى تصاعديا كلما كان الاهتمام بالحدث أو الموضوع أكثر انتشارا، ما يشكل بالنسبة لهؤلاء "المؤثرين" مصيدة تفاعل ومتابعات واهتمام، ومادة جذابة لتناولها والانخراط في الحديث حولها. وهو ما يدفع لدراسة دورهم في انتشار الأخبار الزائفة والترويج للمعلومات المضللة، عمداً أو عن غير قصد. 

هذا الدور تناوله تقرير صادر عن "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي" المغربي، مبني على دراسة استطلاعية أعدت عبر منصة "تشارك" الرقمية، كشفت أن 51 في المئة من المشاركات والمشاركين في الاستطلاع سبق لهم أن نشروا بين معارفهم ومتابعيهم معلومات وأخبار مشكوك في صحتها مقابل 41 في المئة لم يسبق لهم أن قاموا بذلك. وهو رقم يشير بوضوح إلى حجم المشكلة القائمة.  

 التقرير الذي جاء بعنوان "الأخبار الزائفة: من التضليل الإعلامي إلى المعلومة الموثوقة والمتاحة" تناول مشكلة الأخبار الزائفة التي تتنامى عالميا، وتزداد مع الاعتماد المتزايد على الهواتف الذكية ومنصات مواقع التواصل الاجتماعي، وتأثيرها السلبي على الأفراد والمؤسسات والمجتمع بشكل عام متناولا الأسباب التي تساهم في انتشار الأخبار الزائفة التي باتت أداة تستخدم لغايات ربحية أو للإضرار بمنظمات ودول على حد سواء.  

وإذ يقدم التقرير توصيات عامة ومنهجية أداء لمواجهة هذه المشكلة، يلفت إلى دور المؤثرين في تلك العملية لناحية نشر الأخبار الكاذبة أو لناحية قدرتهم على مكافحتها.  

ويشير التقرير إلى أنه خلافا لوسائل الإعلام التقليدية، التي تلتزم بالأخلاقيات المهنية والضوابط القانونية، فإن التواجد الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي "يولد ويعزز الشعور لدى رواد فضاءات النقاش تلك، أنه بمقدورهم خرق القواعد وتجاوز القانون دون متابعة أو مساءلة أو عقوبة في ظل إمكانية التخفي خلف هويات مجهولة. وقد جعل هذا الأمر من مراقبة صحة هذه المعلومات من عدمها في البيئة الرقمية مسألة ضرورية أكثر من ذي قبل، وذلك رغم صعوبتها".

وسيزداد الأمر صعوبة في المستقبل، وفق التقرير، "مع تطور تقنيات التلاعب بالصور ومقاطع الفيديو لتبدو واقعية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما هو الشأن بالنسبة لتقنية "ديب فيكس"، والتي تُتيح إمكانية صناعة محتوى مكتوب أو صوتي مزيف بنفس مواصفات المحتوى الأصلي."  

وفي وقت تؤكد الدراسات على أن فرص انتشار الأخبار الزائفة أكبر بكثير من الأخبار الصحيحة، تتحول الأخبار الزائفة إلى أداة بيد المؤثرين والطامحين لزيادة متابعاتهم والتفاعل معهم على مواقع التواصل، ويجري استخدامها بالفعل على نطاق واسع، وهو ما دفع "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي" إلى تضمين توصياته ضرورة "توعية المهنيين وغير المهنيين من منتجي المعلومات (المدونون والمؤثرون وغيرهم) بدورهم والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم في مجال مكافحة الأخبار الزائفة"، ومنحهم الأدوات والتقنيات اللازمة لذلك، بكونهم "فئة خاصة من المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي، يحظون بمكانة مميزة وشهرة تمثل عنصر جذب للمتابعين، ما يوجب العمل على تحسيسهم بأن لهم دورا مهما في مكافحة الأخبار الزائفة".

ويذكر أن دراسة أجراها أكاديميون في جامعة أوكسفورد البريطانية أن القصص "غير المرغوب فيها والأخبار المضللة أو الزائفة على منصة فيسبوك في أوروبا، تتفوق بشكل كبير على الأخبار الاحترافية التي مصدرها وسائل الإعلام الدارجة من حيث عدد المشاركات ولإاعجابات والتعليقات. 

مسؤولية التأثير 

وترى الصحفية في خدمة تقصي صحة الاخبار في "فرانس برس"، جويس حنا، أن مجرد إطلاق وصف "مؤثر" على أحد ما فهو يدرك حجم تأثيره على عدد كبير من المتابعين الذين يرونه قدوة ونموذجا، وبالتالي مجرد نشره للمعلومات المضللة أو الزائفة سيحتم وصولها لمتابعيه وتناقلها على نطاق واسع، باعتبار أنه مصدر موثوق بالنسبة لهم، ولا يمكن أن يخطئ، "هكذا ينظر الناس اليوم إلى هؤلاء المؤثرين". 

تشير حنا إلى أن بعض المؤثرين يعملون بناء على نوايا سيئة تهدف في الغالب إلى استخدام متابعيه عبر تقديم معلومات مضللة لهم، من أجل كسب المزيد من التفاعل والمتابعة، لكنها تستدرك أن "معظم هؤلاء المؤثرين لديهم جهل بالأمور وبالمعلومة أو الصورة الزائفة التي ينشرونها، وقد يكونون متأثرين مثلاً بصور أو مشاهد معينة منسوبة لكارثة أو حدث، فيأججون مشاعر الناس حولها، على الرغم من أن الحدث في بعض الأحيان قد يكون أضخم مما سبق، ويتضمن أحداثا ومشاهد مأساوية أكثر، ولكن دائما ما يلجأون إلى صور قديمة مؤثرة جدا ويستخدمونها في سياقات مضللة، من أجل أن كسب المزيد من التفاعل، كصورة طفل أو صورة عائلة قتلت بكامل أفرادها، أو مبان تنهار، فينشرونها ويبدون التعاطف، وبالتالي يوظفون تلك المواد في غير سياقها، فيحولونها إلى مواد مضللة وزائفة عن وعي أو عن جهل".  

وفيما يرى البعض أن المسؤولية في التأكد والتشكيك أو اعتماد المصادر الدقيقة للأخبار تقع على عاتق المتابع أو القارئ نفسه يضع آخرون المسؤولية على عاتق المؤثر، ناشر الخبر المزيف، الذي عليه واجب التأكد من أخباره وصون ثقة متابعيه به وبما ينشره.  

وفي هذا السياق، تلفت حنا إلى أن ظاهرة "المؤثرين" لا تزال حديثة جدا، "حتى المصطلح نسمع به في السنوات القليلة الماضية، في العادة يكون دوره الترويج لمنتج أو تقديم نصائح في مجالات يعتبر نفسه مؤهلا ومخولا لتقديمها أو يتحدث حول موضوع يدرسه أو متخصص به، ولكنه ليس بأي حال من الأحوال مصدرا معتمدا للخبر."  

وتتابع: "لكن وبما أن مواقع التواصل الاجتماعي اليوم وفرت ساحة وبيئة حاضنة لكل شيء، أصبح أيا كان بإمكانه التعبير عن رأي أو تقديم معلومة، وقد تلقى انتشاراً واسعاً وحيزا كبيرا من الاهتمام، وعليه فإن واجب التدقيق في المعلومات ما عاد يقتصر على الصحفيين بل بات واجب كل شخص من المواطن إلى أعلى الهرم، أن يكون مسؤولا عما يصدر عنه ويتابعه الملايين، لاسيما وان هناك احتمال وقوع أذية كبيرة على نتيجة أي معلومة مضللة".

أداة بروباغندا 

من ناحيته ينبه الصحفي ومدقق المعلومات، محمود غزيّل، إلى أن "كل شخص معرض للوقوع في فخ الأخبار المزيفة، وهذا بطبيعتنا البشرية، ولكن كل شخص مؤثر أو يعلم أن هناك أشخاص يسمعون رأيه، مهما بلغ اتساع حلقة الناس وعددها، يجب عليه أن يدرك أن هناك مسؤولية تجاه متابعيه، والمؤسسة التي يعمل بها، وتجاه معارفه على الأقل الذين يرون به شخصا جديرا بالثقة وتتابع أخباره ومنشوراته". 

وهناك نوعان من الأهداف لناشري الأخبار المزيفة على الإنترنت، بحسب غزيل، أولها أقل خطورة وهو الذي يهدف لجذب التفاعل والمتابعات "ولكن الخطورة الأكبر حين يكون هناك أجهزة حكومية أو تابعة لمجموعات سياسية وتنظيمات، تستغل المنصات والمؤثرين لنشر البروباغندا وتحطيم صور الخصوم السياسيين أو الدول الأخرى".

ويتابع: "أكبر مثال مفضوح في العالم على هذا الصعيد هو البروباغندا الروسية تستهدف كل ما يتعلق بالمصالح الأميركية والمصالح الأوروبية أو حتى الدول العربية التي لا تتوافق معها سياسيا، حيث تبث دعايات سيئة عنهم ومعلومات خاطئة ومفبركة عن شخصيات سياسية، وهذا ما نراه اليوم بكثافة ونرصده يوميا". 

الأمر ذاته بالنسبة إلى بعض المجموعات السياسية في كثير من الدول حول العالم، وفق غزيّل "ففي خضم أي نزاع سياسي في بلد ما، يعمد الطرفين أو أحدهما على الأقل، إلى بث الأخبار والمعلومات الكاذبة التي تستهدف الطرف الآخر، ويصبح هناك استغلال لها أو إعادة استحضار لهذه المعلومات المضللة بين الفترة والأخرى".

"المؤثرون" يشكلون أداة فعالة بيد تلك الجهات، فتستقطبهم أو تصنعهم، لبث دعايتها التي عادة ما ترتكز على الأخبار الكاذبة، هؤلاء يشبههم غزيّل بـ "الطفيليات" التي تعتاش على هذا النوع من المحتوى، من معرفتهم بأن جمهورهم سيحب هذه الأخبار الكاذبة وسيتفاعل معها، وبالتوازي يسعون بسلوكهم لاستجداء رضى الأطراف السياسية أو الجهات المستفيدة من بث المعلومة الخاطئة.  

وكمثال يضربه غزيّل على ذلك، خرج زعيم حزب الله حسن نصرالله في تصريح قبل أيام، ونقل لمتابعيه معلومة مزيفة، انتشرت بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نقل نصرالله كلاما عن لسان الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، ويزعم بنقله أن أوباما قال إن "الولايات المتحدة ومن خلال التلاعب بالسوشال ميديا وارسال رسائل المزعجة (سبام) يمكن أن نغير حكومات دول".  

ويضيف غزيّل: "لفتني الأمر فبحثت عن الكلمة الكاملة التي ألقاها أوباما، ليتبين أن ما نقله نصرالله مجتزأ ومختلف تماما، حيث كان يُسأل أوباما في مؤتمر صحفي عن لجوء روسيا والصين إلى التضليل والتلاعب بالناس من أجل إثارة توترات ومظاهرات وجاء تعليق أوباما على هذا السؤال بمعنى معاكس تماما".

ومع ذلك، فقد كانت مواقع التواصل الاجتماعي تتناقل معلومة نصرالله الزائفة بشكل واسع جدا، حيث تم عمل تصميمات لها ونقلها مؤثرون في بيئة حزب الله وجمهوره، على أنها حقيقة مطلقة لا تقبل الشك، ويلفت غزيّل إلى أن هذا الأمر "دائما مع يتكرر مع الشخصيات المؤثرة التي لا تدرس كلامها من قبل، أو لا يحصلون ممن يحيطون بهم على المعلومات الصحيحة".

وفي مثال آخر، يذكر غزيّل بصورة انتشرت بعد وقوع الزلزال عن طريق مؤثرين يدورون في فلك النظام السوري وحلفائه في دول عدة، تزعم الصورة أنها لحركة الطيران فوق سوريا وتركيا بعد الزلزال، وتظهر وجود عدد كبير من الطائرات فوق تركيا، مقابل انعدام للحركة الجوية فوق سوريا "استخدمت هذه الصورة للقول أن سوريا لا تحصل على المساعدات اللازمة كما حال تركيا، ونسب السبب للعقوبات الأميركية على النظام السوري، ليتبين أن الصورة مزيفة وتهدف إلى التضليل، لاسيما وأنه ما من عقوبات أميركية أو أوروبية تشمل المساعدات الإنسانية، إضافة إلى أن العقوبات ليست على شعب أو دولة وانما أفراد محددين".

مخاطر وأمثلة 

ويفصل غزيّل في التصنيف بين من يعلم أن المعلومة خاطئة وينشرها، "وهنا تكون المشكلة كبيرة جدا"، وبين من لا يعلم أن المعلومة خاطئة وجرى لفت انتباهه، ومع ذلك أبقى عليها على مواقع التواصل الاجتماعي، "حيث تكون الخطيئة أكبر، فيتحول المؤثر إلى مجرد "لايك فارم"، بمعنى أنه يهدف فقط لحصد التفاعل والاعجابات والترويج لحسابه ولو بنشر معلومات خاطئة قد تتسبب بمشاكل أكبر"ز 

من خلال عملها مع خدمة تقصي صحة الأخبار في وكالة الصحافة الفرنسية، التي تتعاون مع منصات إلكترونية عدة، ترصد الصحفية جويس حنا التأثيرات السلبية للأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة على الناس، التي تصل إلى حد يساوي "القتل المتعمد" على حد تعبيرها، وتقدم على ذلك أمثلة عديدة ضمن تقسيمها للمخاطر الناجمة عن تزييف المعلومات.  

أبرز التأثيرات المؤكدة للأخبار الزائفة تتمثل في الضرر النفسي الذي تلحقه بالناس، بحسب حنا، التي تضرب مثلا بالزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، وتضيف "نحن في منطقة معظم بلدانها مهتزة إما بالحروب أو بالأزمات الاقتصادية، وشعوبها تعاني نفسيا أصلا من الأوضاع التي تعيشها ولا تحتمل مزيدا من الاهتزازات والمصائب، تأتي الأخبار الكاذبة لتضاعف من هذه المعاناة، فمنذ وقوع الزلزال حتى اليوم، انتشر كم هائل من التكهنات وبات الجميع عالم بالجيوفيزياء يقدم معلومات عشوائية، جعلوا سكان المنطقة برمتها ينتظرون الزلزال القادم بعدما وصل التزييف إلى حد تحديده بالتواريخ". 

وتتابع: "من جهة أخرى نعلم أن الصور المؤثرة إن كان للأطفال أو للضحايا تحت الركام أو للمصابين والناجين، تترك أثرا نفسيا بالغا لدى المتابعين، وهنا يعمد المؤثرون إلى نشر المزيد منها واستخدام مواد أرشيفية مرتبطة، ونشر مقاطع وتسجيلات مؤثرة لا تنشرها وسائل الإعلام لتفادي التأثير السلبي، تتسبب جميعها في زيادة الصدمة لدى الناس وتؤثر سلباً على صحتهم النفسية لاسيما وأن مواقع التواصل الاجتماعي تدخل عنوة إلى كل بيت وتصل إلى كل فرد بهذه المشاهد، وكأنه رفع لمنسوب الصدمة ونشر مزيد من الذعر".

وتنتقل حنا إلى التأثير الجسدي والصحي، حيث تؤكد أن عددا كبيرا من الناس يتعرضون للضرر الصحي البالغ نتيجة اتباعهم نصائح ووصفات زائفة لا أساس علمي وطبي لها، "مثلا يشيع منذ مدة وصفة مزج عصير الحامض بالقهوة من أجل التنحيف، ولاقت هذه الوصفة رواجا هائلا وملايين المشاركات بعدما نشرها مؤثرون في مجال الرياضة أو التغذية أو الوصفات العشبية والطب البديل، إلى حد تخوف الأطباء من آثارها وما يمكن أن تتسبب به من تقرحات في المعدة خاصة لدى المراهقين"ز  

الأمر ذاته حصل مع مرضى السكري، حيث انتشرت وصفة لهم تنصح، دون أي أساس علمي أو طبي، بشرب شاي أوراق شجر الزيتون والتوقف عن تناول الأنسولين. تقول حنا: "كان مخيفا حجم تفاعل الناس مع هذه الوصفة وتقديرهم للمؤثرين والصفحات التي نشرتها، ولا داعي هنا لذكر حجم الضرر الذي يلحق بالناس بسبب هذه المعلومات المضللة، لاسيما وان إيقاف الإنسولين الذي لا بديل طبي عنه حتى اليوم قد يتسبب بوفاة المريض مباشرة، وبالتالي يمكننا تشبيه نشر هذه النصائح المضللة بالقتل المتعمد".

ودائما ما تأتي هذه العلاجات والمعلومات الزائفة من حاجة الناس وسعيهم إلى الوفائد المفترضة منها، إن لناحية التنحيف أو مرض السكري أو مثلا فيروس كورونا الذي انتشر معه ما وصف على أنه "وباء معلوماتي"، في إشارة إلى الكم الهائل من المعلومات الزائفة والأخبار المضللة التي انتشرت.  

من ناحيته، يستذكر غزيّل حجم المؤثرين، ولاسيما الفنانين، الذين حاربوا فكرة اللقاحات خلال جائحة كورونا ونشره حولها الأخبار والمعلومات المضللة، فيما أجبروا لاحقا بسبب سياسات الدول والسفر بينها إلى إجراء تلك اللقاحات، وتحولوا إلى داعمين وداعين لها، دون أن يتحملوا أدى مسؤولية أمام جمهورهم.  

كذلك يقدم الصحفي اللبناني نوعا آخر من الأضرار التي يمكن أن تتسبب بها الأخبار الزائفة، لاسيما تلك التي تحض على الكراهية، بناء على مثال جرى مؤخرا في تركيا، حيث انتشر بعد وقوع الزلزال مشاهد مصورة لاعتداءات طالت شبان سوريين اتهموا أنهم يسرقون منازل مدمرة بعد الزلزال. ويقول: "هناك كثير من هذه الفيديوهات لم تكن صحيحة أو أقله لم تنقل حقيقة الأمور، ولكنها تركت أثرا مؤذيا على اللاجئين السوريين في تركيا، حيث جعلتهم عرضة للاعتداءات بمجرد وجودهم بالقرب من أبنية أو أماكن مهدمة، واستغل المؤثرون في تركيا هذا الأمر في منشوراتهم على نطاق واسع".

ويضيف غزيّل "هناك أكثر من شخص خرجوا على وسائل إعلامية وأوضحوا أنه لم يكن لهم أي علاقة بتلك الاتهامات وانهم توجهوا إلى الشرطة بعد ما حصل لهم وتبين أنهم أبرياء من هذه الاتهامات، أو أنهم من سكان المنطقة ويحاولون مساعدة أشخاص آخرين، وأحدهم أبرز أوراقا من جاره التركي تخوله أن يطمئن على منزله ومقتنياته وان ينقل بعضها من المنطقة المنكوبة، ولكن كل هذه التوضيحات جاءت بعد أعمال العنف التي وقعت ضدهم. وهذا مثال آخر على الضرر الذي تتسبب به الأخبار المضللة."   

تزييف بلا تصحيح 

وسط هذا الكم الهائل من المعلومات المزيفة والمضللة، يلاحظ المختصون في تدقيق المعلومات نوعا من الإحجام لدى المؤثرين عن تصحيح الأخطاء التي ينشرونها، إما تجنبا للاعتراف بالخطأ أو سعيا في الحفاظ على التفاعل الذي حققوه. 

وفيما يرى غزيّل صعوبة في تحديد نسبة المؤثرين الذين يصححون أخبارهم أو معلوماتهم بعد نشرها، تؤكد حنا أنها قليلة جدا "خاصة وأن الخبر الكاذب ينتشر أسرع بكثير من الخبر الصحيح، وحين يترك التزييف انطباعا لدى الناس، يصبح من الصعب جدا تصحيحه، ولكن في حال قام نفس المؤثر الذي نشر خبرا زائفا لجمهوره بتوضيحه، فإن التصحيح سيصل لمتابعيه بشكل أوسع".

وترى حنا أن مشكلة في كون معظم من يخطئ بنشر معلومات مضللة إما يصححها بتعليق أسفلها، أو يزيل المنشور أو يصححه، ونادرا ما يعتذر أي مؤثر أو صفحات مؤثرة من متابعيهم على نشر تلك الأخبار.  

وفي مثال على ذلك، تستذكر حنا قصة شخص ادعى منذ فترة في لبنان أنه سجل أرقام قياسية في كتاب غينيس "واستطاع ان يغش كافة وسائل الإعلام بحنكة عالية ودفعها لتغطية قصته، ولكن حين تبين أن قصته مزيفة لم تخرج أي وسيلة إعلامية في لبنان لتعتذر عن نقل تلك القصة وإنما جرى لفلفة الأمر وتوضيحه بشكل سطحي، بدلا من التوضيح للناس وتحذيرهم من هذا النوع من التزييف وآثاره".

وتضيف: "في هذه القصة كان هناك دور كبير للمؤثرين اللبنانيين الذين انقادوا خلف الشعور بالفخر الوطني وانجازات الشاب المفترضة وابتكاراته التي زعمها، ولم يكلفوا نفسهم الاعتذار عن تحويله إلى نموذج وبطل، لا بل فتحت له منابر على وسائل التواصل وفي الإعلام لتبرير ما فعله وتحويله إلى سوء فهم وخطأ، فيما الواقع إنها عملية تزييف وتضليل محبوكة، وبالتالي أعطي الفرصة لممارسة مزيد من التزييف لحقيقة ما جرى".

في المقابل يشير غزيّل إلى وجود عدد لا بأس به من المؤثرين المهتمين بصورتهم وثقة الناس بهم فعليا، "فحين ننبههم إلى أن معلوماتهم غير صحيحة، يحذفون التغريدة، أو يصححونها بتغريدة أخرى، ولكن المشكلة في هذه الحالات أن الخبر المزيف سيبقى ظاهرا ولن يصل التوضيح إلى كل الجمهور الذي تلقى المعلومة".

الصفحات المؤثرة.. المعاناة الأكبر 

ولا يقتصر الأمر على حسابات الشخصية للمؤثرين معروفي الهوية فقط، فهناك أيضا صفحات كبيرة مؤثرة تحظى بمتابعة ضخمة على مواقع التواصل، وتلعب الدور نفسه الذي يلعبه المؤثرون في نشر الأخبار الزائفة، بل أكثر خطورة في بعض الأحيان، لاسيما وأن معظم تلك الصفحات تتخذ لنفسها تسميات عامة وشاملة توحي بالثقة للمتابعين وتعكس عن الصفحة تخصصا في مجالات معينة، كالعلوم والطب والفلك والأخبار.

وهذا النوع من الحسابات يمثل "معاناتنا لمدققي المعلومات والأخبار" على حد وصف غزيّل، فعلى الرغم من أنها تنشر معلومات مضللة وأخبار زائفة، "للأسف هناك غض نظر من ناحية الشركات المشغلة لمواقع التواصل الاجتماعي، لحاجتهم بدورهم إلى هذا التفاعل الكبير على منصاتهم، فيما يستفيد مشغلو هذه الصفحات من الإعلانات التي يجذبونها، أو يعيدون بيع هذه الصفحات لجهات أخرى بناء على هذا التفاعل الكاذب مع الأخبار المضللة".

بدورها، ترى حنا أن تلك الصفحات الكبيرة التي تدعي التخصص العلمي او الإخباري، تملأ أي فجوة علمية لدى الناس بمعلومات مظللة وأخبار كاذبة، "وهذا ما حصل مثلا خلال الزلزال الأخير الذي ضرب سوريا وتركيا". 

وتتابع: "حين تجهل الناس معلومات حول أمر جديد عليها، تتمسك بأي معلومة قد تحمل تفسيرات ولو مضللة أو مزيفة، وبالعادة هذه الصفحات تحصد أكبر عدد من المشاركات والحجم الأوسع من التفاعل، لأنها تعتمد أسماء علمية جذابة (العلوم والفضاء، هل تعلم..) ثانيا تقدم معلومات تمثل لبعض الأشخاص نوعاً من القناعة، كالطب البديل وطب الأعشاب مثلاً التي تحظى بحجم هائل من المتابعين والمشاركات."  

مواجهة هذه الصفحات، وفق الصحفية المتخصصة في تدقيق الأخبار "لا تقتصر على لفت انتباه الناس لها، وإنما تحتاج تنمية وتربية إعلامية وشبكات مواقع تواصل للناس، وتحتاج إلى مجهود كبير في نشر الوعي، فالمشكلة أن هذا النوع من الأخبار يجذب أكثر بكثير من المعلومة التي تتضمن حقائق علمية وتجيب على الأسئلة كما هي".

في المقابل أيضاً هناك واجب في تقديم المعلومة الصحيحة للناس بطرق مبسطة وطبيعية لسد فجوة الجهل لديهم بموضوع معين، "عندها يمكن للناس أن تفهم العلم بطريقة مبسطة دون اللجوء إلى المعلومات الزائفة والأخبار المضللة"، بحسب حنا.  

لكن هذه الصفحات تبدو أكثر استعداداً لتصحيح أخبارها من الأفراد المؤثرين، لاسيما وأن خدمة تقصي الأخبار لدى وكالة الصحافة الفرنسية تتعاون مع منصات مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل مكافحة انتشار الأخبار الزائفة، وعليه حين يتواصل العاملون في الوكالة مع صفحات كبيرة تنشر معلومات مضللة، غالباً ما يستجيب مشغلوها خشية حجبهم أو خفض وصولهم إلى الناس على المنصات. لكن السؤال بحسب حنا "هل المتابعون الذين تعرضوا للخبر الزائف، يرون التصحيح مرة جديدة؟ المؤكد أن القلة القليلة منهم يصلون مرة أخرى إليه."  

المؤثرون المتأثرون 

من بين فئات المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، تبرز حالات يكون فيها المؤثر نفسه، متأثر بدوره بأفكاره وعقائده وإيمانه الشخصي، فيصدقون المعلومات الزائفة حول فعالية بعض الأعشاب إن كانوا يؤمنون بطب الأعشاب، أو ينشرون نظريات مؤامرة هم أنفسهم مقتنعين بها، أو يناصرون تفاسير ذات طابع ديني بحكم أنهم مؤمنين دينياً على سبيل المثال.  

هنا تكمن "المشكلة الأكبر" بحسب حنا، "هنا يكون المؤثر نفسه عرضة ليصدق أخبارا زائفة مرتبطة بما يؤمن به، وفي هذه الحالة أيضاً، يجب العودة إلى أصحاب الشأن من أطباء أو رجال دين يمكنهم تقديم الصورة الصحيحة علميا أو دينياً، تناقض الأخبار الزائفة، فليس كل شخص مؤهل ليتحدث بالعلم أو بالدين."   

الزلزال أسفر عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد الملايين
"الزلزال وعلامات الساعة وكثرة الذنوب".. ماذا يقول الدين الإسلامي عن "التفسيرات الجدلية"؟
منذ الأيام الأولى للزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي، بمنشورات تصف الكارثة بـ"العقاب الإلهي" وتتحدث عن "اقتراب يوم القيامة"، بينما يكشف علماء دين تحدث معهم "موقع الحرة" مدى صحة تلك الأحاديث.

وإلى جانب هذه الفئة، تقبع فئة المنجمين والمتوقعين ومدعي العلم بالغيب، الذين يساهمون من زاويتهم في نشر معلومات مضللة وبث العله في صفوف الناس إضافة إلى الترويج لتواريخ وقوع كوارث ويحظون بمتابعة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعل منهم مؤثرين أيضاً في المزاج العام.  

عن هؤلاء تقول حنا إن "أفضل طريقة للرد عليهم هو انتظار التواريخ التي يحددونها، لإثبات زيف ادعاءاتهم، وإعادة التذكير بما كانوا قد قالوه لتبيان حقيقتهم للناس كدجالين. هذا السبيل الأنسب لأن الناس ستنتظر التاريخ، حتى لو كانت مؤمنة بأنه تحذير كاذب، في المقابل يجب الترويج للحقائق العلمية التي تفيد عن استحالة التنبؤ بموعد وقوع الزلازل مثلاً.  

المحاسبة ضرورية  

وتدور جدلية في الأوساط المتابعة لهذه الظاهرة، بين من يرى ضرورة في إيجاد آلية لمحاسبة ناشري الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، وبين من يتخوف من أن تتحول هكذا آليات إلى أدوات قمع قانونية بيد السطات والأنظمة السياسة في الدول، وبالتالي تنتهك حرية التعبير.  

في هذا السياق ترى حنا أن وجود قانون نافذ من شأنه أن يشكل رادعاً، "وبالتالي إذا ما اتخذت إجراءات قانونية بحق ناشري الأخبار المضللة سيساهم ذلك بمكافحة كبيرة لهذه الممارسات التي تلحق ككثير من الجرائم أضراراً فعلية بالناس، وستجعل ناشري الأخبار الزائفة يحسبون ألف حساب قبل إقدامهم على ذلك.  

الأمر نفسه بالنسبة إلى غزيّل الذي يرى أيضاً أن هناك واجب على السلطات في تحميل مسؤولية لهؤلاء المؤثرين ووضع عقوبات معينة لناشري الأخبار الكاذبة، التي يمكن أن تترك أثراً سلبياً جداً على حياة الناس أو على الأمن العام للبلاد.  

ويلفت من خلال عمله في تدقيق المعلومات إلى أن "الأخبار المضللة تنتشر في الدول التي لا تضع قوانيناً لمكافحتها على نحو أوسع بكثير من الدول التي تعاقب على نشر الأخبار الكاذبة أو تتخذ إجراءات لمكافحتها. وعلى الأقل يجب أن يكون هناك نوع من المساءلة أو الملاحقة لناشري الأخبار الكاذبة حول مصادر معلوماتهم أو الجهات التي تزودهم بها."   

ويضرب غزيّل مثالاً بدولة الإمارات التي تتشدد في هذه القوانين، " حيث تقوم السلطات بضبط الكثير من الممارسات من هذا النوع، فحين ينشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يتناول حدثاً أمنيا كانفجار او هجوم يقال انه في الامارات، ليتبين أنه زائف، وبكونه يمس في صورة وسمعة البلاد، سرعان ما تتبع السلطات هذه الأخبار وناشريها، كذلك ينشرون التوعية على منصات مواقع التواصل ويطلبون من المستخدمين التنبه للأخبار الكاذبة وعدم تناقلها لتفادي الملاحقة.  

بينما في لبنان مثلاً "هناك 4 أو 5 مؤثرين على موقع تويتر، ينشرون بشكل يومي أخباراً زائفة ومضللة حول الأوضاع في لبنان، ان كان انفجار او اشتباك أو إغلاق طرقات، فتعيد الصفحات الإخبارية نشر تلك الأخبار وتليها المواقع مما يتسبب بمشاكل كثيرة، دون أي حسيب أو رقيب"، وفق غزيّل.  

الواجب الأسمى 

في مقابل كل ذلك، يلفت غزيّل إلى وجود وعي ومناعة بدأ الناس بتكوينها ضد الأخبار الكاذبة، وهو ما يمثل بادرة أمل يعول عليها، ويلفت إلى أن الدول العربية تشهد  في السنوات الماضية نوعاً من الانفجار المعلوماتي، وانتشاراً اكبر لمدققي المعلومات والمبادرات الجماعية المعنية بهذا الأمر، "هذه المبادرات باتت تحظى بمتابعة أكبر واهتمام أوسع من قبل المستخدمين، كما أن الناس باتت أكثر وعياً وسعيا للحصول على المعلومة الصحيحة، وباتوا يتواصلون مع مدققي المعلومات للتأكد من صحة الأخبار التي يتلقونها وهذا بحد ذاته تطور في ذهنية المتابعين الذين باتوا يشككون بما يصلهم، ولكنهم في الوقت نفسه بحاجة إلى جهات تصحح لهم هذه المعلومات، ويتأكدون عبرها.  

من جهتها تختم حنا مشيرة إلى أن الواجب الأسمى للمؤثرين الساعين لتقديم إضافة إيجابية لصالح مجتمعهم، أن يكونوا هم من يكافح الأخبار الكاذبة، وهم من ينشرون الوعي، "خاصة وان لديهم ملايين المتابعين وبالتالي كل ما يقولونه سوف يصل بشكل أوسع للناس، فلو قام المؤثر بنشر الوعي حول الأخبار الكاذبة وتنبيه الناس منها، بدلا من الترويج لها، سيكون للأمر تأثير إيجابي كبير جداً ويساهم في توعية الناس وحمايتهم من أضرار الأخبار الكاذبة.   

مواضيع ذات صلة:

صورة مركبة للشاب السوري سري حسان وهو في المستشفى بعد الزلزال، وفي ملابس التخرج من الجامعة بعد أشهر
صورة مركبة للشاب السوري سري حسان: في المستشفى بعد الزلزال، وفي ملابس التخرج الجامعي بعد أشهر

"تحت الأنقاض كنتُ أسال نفسي، هل من المعقول أن أموت قبل التخرّج من الجامعة؟.. كان التفكير بالأمل آنذاك قاسياً جداً"، يقول اللاجئ السوري في تركيا سرّي حسان وتّي، الذي نجا من زلزال تركيا وسوريا في فبراير الماضي، لكن حياته لم تعد كالسابق.

وكان سري (27 عاماً) قدم من مدينة سلقين التابعة لمحافظة إدلب شمال غرب سوريا، إلى تركيا عام 2017، قبل أن يتخرج من كلية الحقوق في جامعة حلب.

يقول إنه "واجه صعوبات جمّة، كالغالبية العظمى من السوريين الذين غادروا البلاد هاربين من القصف والتنكيل الذي مارسه النظام السوري عليهم منذ اندلاع الثورة عام 2011".

وبعد عامين من وصوله تركيا، استطاع العودة إلى مقاعد الدراسة، وحصّل قبولاً في كلية العلوم السياسية بجامعة ماردين جنوب شرق البلاد، مشيراً إلى أن اختياره "كان عملياً أكثر من كونه أكاديمياً، بحكم الأوضاع التي تعيشها سوريا".

التاريخ الفاصل في حياة سري يشبه تماماً التاريخ الذي غيّر حياة مئات الآلاف من السوريين والأتراك معاً، إذ بات السادس من فبراير 2023، رقماً لا يدلّ فقط على الزلزال المدمّر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري، إنما يشير كذلك إلى عشرات آلاف الضحايا، الذين قضوا تحت الأنقاض أو أولئك الذين تعرضوا لإصابات بليغة فقدوا فيها أحد أطرافهم أو أكثر.

كان سري في توقيت الزلزال موجوداً في مدينة أنطاكيا، في عطلة ما بين الفصلين الجامعيين، وفي تلك الليلة كان يسهر مع أصدقائه داخل بيت أحدهم، حيث دقت عقارب الساعة الرابعة و17 دقيقة، التي باتت توقيتاً عصياً على النسيان.

حاول الشاب السوري الهروب مع أصدقائه من الطابق الثاني في المبنى، وبينما كتبت لهم النجاة علق هو تحت إحدى الخرسانات، وبقي حبيس الأنقاض إلى أن هيّأت له مساعدة أصدقائه أن ينجو من الموت المحتّم. 

"نُقلت إلى مشفى الجامعة في أنطاكيا، وكانت قدماي أكثر الأجزاء تضرراً في جسدي، وهناك قرّر الأطباء بترهما بحكم النزيف الشديد وعدم وجود إمكانية للعلاج بسبب الأعداد الكبيرة من المصابين، وهذا ما رفضه أصدقائي"، يوضح سري.

ويصف تلك اللحظات: "كان الموت في المشفى أقرب إليّ مما كنت عليه تحت الأنقاض... نزيف داخلي شديد، وفشل كلوي، وغياب عن الوعي، وهنا تقرّر نقلي إلى مشفى آخر في مدينة مرسين".

في مشفى مرسين بدأت حالة سري تسوء أكثر من ذي قبل، وهناك قام الأطباء بعمليات غسيل للكُلى، ومحاولات لإنقاذ قدميه وعدم اللجوء لخيار البتر، غير أن الأعداد الكبيرة للمُصابين في المشفى دفعت القائمين إلى نقله مجدداً لمشفى آخر في مدينة إسطنبول.

يبيّن سري: "وصلت إسطنبول في 12 فبراير، فاقداً للوعي تماماً، وبعد خمسة أيام تمّت عملية بتر قدمي اليمنى من فوق الركبة، وحين استيقظت من الغيبوبة التي بقيتُ فيها أياماً، أخبرني الأطباء أنهم اضطرّوا إلى بتر قدمي كي لا أفقد حياتي".

ويذكر لنا المشاعر المختلطة التي عاشها بعد ذلك، حزيناً بسبب فقدانه إحدى قدميه، ومتفائلاً بالـ"الحياة الجديدة التي كُتبت له".

بقي في المشفى حتى تاريخ 18 مارس.  يقول سري: "زارني أقاربي قبل خروجي من المشفى، فطلبت منهم أن يسجّلوا قيدي في الفصل الثاني بالجامعة".

وكان قد بقي ثلاثة أشهر فقط تفصل بينه وتحقيق حلم التخرّج، ليقرر أن يتحدى ظروفه الصحية، من أجل إتمام الدراسة، مؤكداً على دعم أصدقائه ومساندتهم له.

تقدّم سري لامتحانات الفصل الثاني واجتازها بنجاح وتخرّج من الجامعة. واليوم يسعى لإيجاد عمل في مجال تخصصه، وهدفه إيصال صوت آلاف الناس الذين مرّوا بظروف أصعب من ظرفه، وتعرّضوا لإعاقات دائمة جراء كارثة الزلزال.

"هؤلاء لا يحتاجون فقط إلى الطعام والشراب، بل إلى تركيب أطراف اصطناعية، وتأمين فرص عمل توفر لهم دخلاً مادياً يستطيعون من خلاله مواجهة ظروف حياتهم الجديدة"، يؤكد سري.