حاوره علي عبد الأمير:
تتفق مراجعات صحافية كثيرة لعمل الكاتب والإعلامي التونسي هادي يحمد "كنت في الرّقة - هارب من الدولة الإسلامية"، على فرادة كتابه وجرأته، لجهة كونه تنقيبا ثقافيا واجتماعيا في البنية البشرية التي يعنيها وجود آلاف التونسيين في صفوف تنظيم داعش وقتالهم دفاعا عن فكرة لا تتردد في الإعلان عن دمويتها واختيارها الإرهاب هوية وسبيلا.
الكتاب الصادر مؤخرا عن "دار النقوش العربية" في تونس العاصمة، يرصد قصة محمد الفاهم، الشاب التونسي المولود عام 1990 في مدينة دورتموند بألمانيا، وعودته إلى بلاده مع عائلته ثم تحوله "مقاتلا متشددا في صفوف تنظيم داعش"، واندراجه في طريق الدم الرهيب وصولا إلى قراره بالهروب من "جنة الدولة الإسلامية" حيث أجواء الخيانات والمكائد والدم والمفاسد.
وكان الحوار مع صاحب الكتاب، فرصة يوفرها موقع (إرفع صوتك) لجمهرة قرائه ومتابعيه، للتعرف عن قرب على فكرة الكتاب والرسالة التي سعى مؤلفه إلى توصيلها.
إرفع صوتك: ما الذي يعنيه كتاب يقتفي أثر تونسي صار جزءا من المنظومة الإرهابية المسماة "الدولة الإسلامية"؟
هادي يحمد: اقتفاء أثر "جهادي" تونسي انضمّ إلى تنظيم داعش وكتابة شهادته، يرمي أساسا إلى تقديم "بورتريه" من الداخل لتنظيم الدولة الإسلامية. طبعا يطرح السؤال حول مدى وجاهة فهم التنظيم من الداخل من خلال شهادة أحد مقاتليه، وهل تعبّر هذه الشهادة عن كل حقائق وآليات اشتغال تنظيم داعش من الداخل.
أعتقد أن كتاب "كنت في الرقة: هارب من الدولة الإسلامية" جاء ليقدم إجابات ومسارات فهم مهمة من أجل تعرية الظاهرة من الداخل من خلال كل المعلومات التي قدمها "محمد الفاهم"، صاحب الشهادة، والتي قمت أنا بترتيبها وتقديمها في كتاب مع كل الخلفيات الحدثية والسياقية والتاريخية التي تعطي للقارئ صورة أزعم أنها تفصيلية لما سمي "بالدولة الإسلامية"، منذ الأيام الأولى لنشأتها إلى الفترة الحالية التي بدأ فيها التنظيم ينهار عسكريا سواء في سورية أو العراق.
إذن الكتاب هو "بورتريه" ـ شهادة من الداخل ليس فقط لحكاية شاب تونسي اسمه محمد الفاهم (26 سنة) وهو اسمه الحقيقي في الكتاب، لكنه أيضا تأريخ لتنظيم داعش وكشف لمعلومات لم يسبق أن نشرت في الإعلام. هذا فضلا على أن الكاتب يعالج قضية ثالثة مهمة وهي البحث في الأسباب التي كوّنت شخصية محمد الفاهم و"صنعت" حلم "الدولة الإسلامية" في فكره. يعني الكتاب ومن خلال أثر "مقاتل" وعلى امتداد 24 فصلا وحوالي 270 صفحة مكاشفة لمشكل أرّق العالم من خلال شهادة من داخله أنجزت بكل حرية واختيار من قبل صاحبها.
"سراب دابق"
إرفع صوتك: إلى أي مدى كان الكتاب تحقيقا صحافيا ميدانيا، وإلى أي مدى كان عملا ينتمي إلى السرد الأدبي؟
يحمد: يمثل جنس كتاب "كنت في الرقة" مشكلة ويثير جدلا حول تصنيفه لأنه ليس رواية بالمعنى المتعارف، كونه قصة حقيقية بالأسماء والأماكن. صحيح أنه صيغ بطريقة سردية روائية وهو أمر معمول به في ما يسمى بـ"القصة story "، ولكنه يعتمد على التوثيق الحدثي ويقدم معلومات صحافية وبحثية يمكن أن تكون مادة خام للعديد من الأبحاث الاجتماعية والنفسية المتعلقة بشخصية "الإرهابي".
الكتاب يعتمد أيضا على أسلوب السيرة الذاتية أي أن "محمد الفاهم" يستعمل ضمير المتكلم (الأنا) ويروي لنا حكايته. الكتاب يتبع الشكل الهرمي الاسترجاعي للأحداث، حيث يبدأ بفصل عنوانه "سراب دابق"، يحدثنا فيه محمد الفاهم عن اليوم الأخير الذي قضاه في مدينة منبج على الحدود مع تركيا (عندما كانت المدينة تخضع لسيطرة تنظيم داعش)، ويعود بنا بعد هذا الفصل إلى اليوم الأول الذي وصل فيه إلى الأراضي التي تسيطر عليها "الدولة الإسلامية" ثم يقوم بعملية استرجاعية (فلاش باك) لكل الأحداث التي عاشها في الرقة وفي مدن سورية وعراقية أخرى. في الفصول الأخيرة يعود بنا محمد الفاهم إلى طفولته ومراهقته في تونس والأسباب التي دفعته إلى اعتناق الفكر السلفي الجهادي.
ربما يظهر الجانب التحقيقي في الكتاب في كيفية الوصول إلى محمد الفاهم واقناعه بالإدلاء بشهادته. الأمر لم يكن متاحا ولا سهلا، كان مخاطرة أمنية بجميع المقاييس لأنني لم التق هذا الشخص في تونس بل سافرت للقائه في أحد دول الجوار السورية (تركيا). لم يكن من السهل العثور عليه ولم يكن من السهل اقناعه بالحديث وكانت التجربة مخاطرة أمنية حقيقية لان الشخص يعيش هاربا من تنظيم الدولة، ومبحوثا عنه في تونس في إحدى قضايا الإرهاب ويعيش بطريقة سرية في تركيا. في هذا الباب أعتقد أن الجانب التحقيقي هو جانب الوصول إلى الشخص واقناعه أن شهادته مهمة ومن الجدير حكايتها للرأي العام.
مراكز صناعة الإرهاب؟
"إرفع صوتك": نقل عنك القول إنك تحمّل المسؤولية في ظهور التطرف والإرهاب لنمط ثقافي اجتماعي كامل. ما هو ذلك النمط وما ملامحه؟
يحمد: نعم في الكتاب، إدانة للنمط الثقافي والسياسي الذي "صنع" داعش وحلم الخلافة الإسلامية، ليس لدى الشباب التونسي فحسب بل في الشباب العربي والإسلامي بشكل عام. لا أتردد في اتهام دولة الاستقلال في تونس والعالم العربي في انتاج ما أسميه في الكتاب "الذوات الهجينة" و"شخصيات انفصامية"، أي لأجيال بأكملها تعيش اليوم في سنة 2017 ولكنها ما زالت مكبّلة بمفاهيم وثقافة الماضي والكتب الصفراء. أعتقد أن أنظمة ما بعد الاستقلال "أجرمت" في انتاج هذه الأجيال الهجينة بمنظومة تربوية وثقافية ما زالت تتمسك بالمقولات والفهم القديم للعالم. ما زال الشباب في العالم العربي يؤمن "بالإسلام الذي هو حل للبشرية كلها" وما زال هذا الشباب يؤمن "بدولة الخلافة". قد لا تكون "دولة الخلافة الإسلامية" هي داعش في فكر هذا الشباب ولكنها ما زالت تمثل حلما مأمولا ومرتجى تسعى لإقامته. طبعا الكتاب ليس تبرأة لمحمد الفاهم الذي أعتبره جلادا وإرهابيا جنى على نفسه وعلى حياته بالانضمام إلى تنظيم إرهابي دموي، ولكن الكتاب يبحث أبعد من الجلاد محمد الفاهم إلى الجلادين الآخرين الذين "صنعوا" محمد الفاهم والآلاف من الشباب الذي انضم إلى التنظيمات الإرهابية. الكتاب بهذا المعنى وعن طريق قضية "المظلومية" و "حب الجهاد" والثقافة الدينية التقليدية التي تلقاها محمد الفاهم يتهم المنظومة الثقافية والدينية الرسمية والمجتمعية بالإجرام في حق هذا الشباب. محمد الفاهم "هي بضاعتكم التي ردت إليكم" أقول بكل صراحة في الكتاب.
"دولة ملثمين"
إرفع صوتك: السبب الرئيسي لهروب المقاتل التونسي من دولة داعش كونه بات يحمل أفكارا أكثر تشددا من التنظيم نفسه! ما الذي يعني هذا لتونس بلدا ومجتمعا؟
يحمد: في مسألة الأسباب التي دفعت بمحمد الفاهم إلى الانشقاق والهروب من تنظيم الدولة الإسلامية، يطرح الكتاب الخلاف العقائدي الذي استفحل في داعش منذ سنة 2015 بين تيار البنعلية (نسبة إلى تركي البنعلي شرعي الدولة الرسمي) وتيار الحازمية ( نسبة إلى الشيخ السعودي المعتقل في سجون الرياض محمد بن عمر الحازمي). انتهى هذا الجدل العقائدي في تنظيم الدولة إلى حالة من التكفير المتبادل والتصفيات. قام الجهاز الأمني في داعش بتصفية العديد من الشرعيين والمقاتلين الذين لا يؤمنون "بعدم العذر بالجهل" أي تكفير عوام المسلمين من أهل السنة في سورية. يكشف كتاب "كنت في الرقة" كيف أصبح مطار "كشيش" في ريف حلب الشرقي مقبرة لمن تسميهم الدولة "خوارج" من أنصارها لانهم يكفّرون البغدادي وأسامة بن لادن ويكفرون عوام أهل الرقة. الكتاب بهذا المعنى يكشف لنا أحد مظاهر الخور في تنظيم الدولة الإسلامية الذي يصدّر للعالم صورته كتنظيم متماسك وموحد. الكتاب يفضح تناحرا داخليا أصبحت فيه الدولة الإسلامية بالنسبة لبعض مقاتليها الذين يعيشون فيها والذين هاجروا إليها من أصقاع الدنيا الأربعة إلى "دولة ملثمين" يقوم فيها الجهاز الأمني بتصفية كل من يذعن لخطها الرسمي. كتاب "كنت في الرقة" يكشف لنا عن تيار جديد خرج من صلب الدولة أكثر "تكفيرية" منها وهو الذي أدى بمحمد الفاهم والعشرات من أمثاله إلى الهروب منها.
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 001202277365