بقلم مالك العثامنة-
المصدر: موقع الحرة
ستبقى كل محاولات محاربة الإرهاب عمليات دفاع عن النفس وفي أحسن الأحوال احتواء، ما لم نقتنع في عالمنا العربي والإسلامي أن الإرهاب عارض لمرض وليس المرض نفسه، وهو ما أتفق فيه تماما مع زميلي في هذه الزاوية الدكتور توفيق حميد، وقد ذكر ذلك في مقاله الأخير مشكورا.
لكن الدكتور وهو من الذوات المحترمين المتخصصين في دراسة التطرف، قفز في هذا المقال الذي عنونه (كيف نواجه فكر الإرهاب) إلى ضرورة تفعيل مفاعيل الفن والموسيقى لإجهاض أي محاولة تشويه للجمال في العقل الإنساني، وهذا استخلاص جميل ورومانسي بألوان وردية لكنه أيضا أحد أعراض الإنسانية في ذروة حضورها المتمدن والطريق إليها تسبقه مراحل كثيرة في عالمنا العربي لتؤسس لتلك المرحلة.
نعم أستاذنا الفاضل وأنت الطبيب الذي يملك أدوات التشخيص الأكثر دقة، الإرهاب ليس هو المرض في عالمنا المحشو بالجهل والخبز الحافي وكثير من الحشيش وحشاشيه وأغنيات القمر، بل هو العارض لكل صفاته المرضية المذكورة.
إن تأسيس كل مبيدات الإرهاب يتطلب أرضية وعي يتم التأسيس عليها بداية، وأرضية الوعي هذه تتطلب أول ما تتطلب الوعي بالإنسان كقيمة عليا ومطلقة، وهذا سيتعارض أول ما يتعارض مع الموروثات الدينية والاجتماعية والثقافية التقليدية التي ستصطدم بالوعي الإنساني مجردا منها جميعا، وهي في شرقنا العربي ثوابت تصل إلى حدود المقدس إن لم يكن بعضها صار مقدسا بالفعل، قدسيته تدوس الإنسانية نفسها، فلا مجال هنا للحديث عن قيمة الإنسان، وبالضرورة لا استطراد بعد ذلك عن فنون وموسيقى هي محصلة القيمة الإنسانية في ذروة حضورها.
محاربة الإرهاب التي نشهدها اليوم في عمليات جراحية عسكرية، هي حالة ضرورية للدفاع عن النفس وقد استفحل المرض، لكن مقاومة هذا العارض البشع يتطلب بداية إزالة عوامل القهر والبؤس والإحباط التي تحشر المواطن العربي في زوايا غيبوبة الوعي، فتضعه لا تحت خط الفقر وحسب، بل تنحدر به تحت خط الإنسانية وقد أفقده واقعه البائس أدنى حقوقه بها فصارت الإنسانية تلك، رفاهية مستحيلة يهرب بحثا عن بدائل لها إلى رفاهية الوهم في عالم الغيب.
لقد وصل العربي إلى نقطة حرجة صار فيها بين خيارين، دولة غيبوبة تؤلف تاريخا مضللا يتم فرضه على واقع لا يستقيم مع التاريخ، أو دولة أوتوقراط يحكمها مستبد يؤلف له واقعا مضللا ليفرض نفسه على تاريخ لا تستقيم معه الوقائع، وفي الحالتين، أنت أمام غوغاء يحملون صفة التابعية، لا المواطنة!
فالمواطنة مفهوم لا يمكن إعادة تفكيكه ثم تركيبه على حالة غير الدولة المدنية العلمانية ذات النظام الديموقراطي المؤسساتي، وهذه الدولة لا يمكن أن تكون في نظام يحكمه الدين أو الاستبداد.
إن محاربة الإرهاب بالفكر والثقافة والفنون، كأحد أهم مفاتيح الوعي وحواضنه الطبيعية، لا يتأتى في أنظمة تخلو من المؤسسات الدستورية والقانون الذي يحكم الجميع بلا استثناء، في فضاء حرية مسؤولة.
قد تصلح تلك الأنظمة في مواجهة تمدد الإرهاب عسكريا، أو استخباريا، لكنها بالتأكيد عاجزة عن مواجهته فكريا واستئصاله بالمطلق ما دامت هي مصدر تغذيته عبر عوامل القهر والفقر والقمع.
إن دفع الناس وحشرهم في مساحات ضيقة من القهر والبؤس الاقتصادي وقمع الحريات تحت مظلة استبداد وفساد وإقصاء نخبوي أو ديني هو ما يخلق التطرف، وهو ما يجعل هذا التطرف في التفكير مستنبتا خصبا للإرهاب الدموي، كحل أخير للبحث عن "مواطنة فردوسية" فيها الخلود، وهو حلم مفتوح على أقصى ما يمكن من فانتازيا في مواجهة فانتازيا القهر المعاش.
إننا والحال كذلك، ولوضع كل ما ذكر أعلاه في خطة عمل حقيقية، مطالبون بنشر الوعي، وإقصاء الدكتاتوريات والسعي لدول تؤسس لديمقراطيات وكيانات مؤسسية علمانية يقف فيها الجميع أمام القانون على مسافة واحدة وتحت مظلة الدستور بارتفاع واحد.
وعليه، فإن الدول الكبرى، الديمقراطيات الكبيرة المرفهة بالاقتصاد الحر والمؤسسات، مطالبة لدرء خطر الإرهاب عنها أن تؤسس لأوطان ذات دول مؤسسات وقانون، وهذا يعني وقف الدعم عن الدكتاتوريات والأنظمة المستبدة أو التي تبتكر الحيل المضللة في سبيل ترسيخ سلطة الفرد الواحد أو النخبة الفاسدة.
ولكي يكون للكلام معان محددة أكثر، فلا أفهم لماذا لا تتصرف أوروبا مثلا، كمنظومة واحدة تعيش رعب تمدد الإرهاب، فتبادر إلى قيادة مشروع أممي يشبه مشروع "مارشال" الأميركي للتنمية في العالم العربي، لكنه مشروط وبرقابة مباشرة كما كان مشروع مارشال، الذي أطلقه وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال في صيف عام 1947، فالتقطته أوروبا بمنظومة تعاون اقتصادي موحد، قائم على إرادة سياسية بدول مؤسسات وقانون.
يمكن أن تحارب تنظيمات الإرهاب واحدة بعد الأخرى، لكن منع تفريخها المستمر حالة مستحيلة ما لم تفصل عنها حبل السرة الذي يغذيها على الدوام، وحبل السرة هذا أنظمة القمع والاستبداد، التي يمكن أن تكون كلب حراسة لا أكثر يدفع الذئاب المفترسة، لكن لن يمنع الذئاب عن التكاثر.
إن منع تفريخ الإرهاب الذي يتطلب مواجهة فكرية وثقافية وفنية يلزمه حاضنة واحدة ووحيدة، على شكل دول مؤسسات وقانون ديموقراطية تدير موارد بلدانها ومواطنيها بعدالة القانون وشفافية الرقابة الدستورية، وحينها يمكن فقط أن نصل إلى ترف الموسيقى والفنون، وقد يصبح عازف كمان محترف يوما ما رئيسا للسلطة التشريعية كما حدث في الدانمارك ذات انتخابات ويحدث في أي انتخابات ديموقراطية في الغرب.
ـــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)