بقلم جمال أبو الحسن/المصدر: قناة الحرة
توقف المؤرخون كثيرا أمام السبب الذي جعل النهضة الصناعية المرتكزة على النهضة العلمية، تخرج من بريطانيا. لماذا بريطانيا بالذات؟ بطبيعة الحال، لا تفسير مبسطا لظاهرة مركبة بحجم النهضة العلمية الحديثة. أغلب الظن أن التفسير يشمل عناصر مختلفة. غير أن الكثيرين توقفوا أمام مقارنة صارخة: الطريقة التي عامل بها مجتمع المدن الإيطالية الناهضة جاليليو جاليلي (1564-1642م) في مقابل الطريقة التي تعاطى بها المجتمع البريطاني مع "إسحاق نيوتن" (1643-1727).
جاليليو تعرض لمحكمة تفتيش، ودين بالهرطقة وقضى السنوات العشر الأخيرة تحت الإقامة الجبرية في منزله، حيث كتب كتابه الأهم "العلوم الجديدة". في المقابل؛ احتفت إنكلترا "بنيوتن" في حياته، وكرمته بعد وفاته. وشُيد له نصب تذكاري في دير وستمنتستر كتب تحته: "هنا يرقد إسحق نيوتن، الفارس، الذي بقوة وهبها له الله في عقله، وبالمبادئ الرياضية التي وضعها بنفسه، اكتشف مسارات وأشكال الكواكب، ومسارات المذنبات، ومد وجزر البحر، واختلاف أشعة الضوء وما لم يتصوره عالم آخر من قبل".
المفارقة صارخة في معناها. هي تفسر –إلى حد بعيد- لماذا انطلقت الثورة العلمية من انكلترا، وتعثرت نهضة إيطاليا الأولى. الأهم أن هذه المفارقة تبعث على التأمل في نهج المجتمعات في التعامل مع الابتكار. تبدو حرية الفكر كعامل حاسم في تشجيع الإبداع في المجتمع ومكافأته. في المقابل، تصاب المجتمعات بالتكلس والجمود عندما يغيب الابتكار. الابتكار هو المحرك الرئيسي للتقدم الإنساني. في غياب الابتكار تسير المجتمعات في خط بياني ثابت. لا تحدث طفرات أو انطلاقات. مع الوقت، يتحول الثبات إلى ركود تدريجي بطيء، لا يلبث أن يتسارع مع الوقت. ينتهي الأمر إلى التدهور والانهيار. إنها قصة تكررت مئات، بل آلاف المرات في التاريخ الإنساني.
الابتكار– في أبسط معانيه- هو الإتيان بطريقة جديدة لعمل شيء ما. في أغلب فترات التاريخ، لم يكن هذا أمرا سهلا. المجتمعات الإنسانية لم تخل أبدا ممن لديهم الفضول والخيال. هؤلاء موجودون في كل زمان ومكان. المعضلة الحقيقية هي كيف يتعامل معهم المجتمع. الأغلبية الكاسحة من المجتمعات– وحتى 200 عام مضت- لم تكن تشجع على الابتكار، بل كانت تحاصره وتُبادر إلى وأده في المهد، لماذا؟
الأفكار الجديدة تجلب معها –غالباً- اضطرابات في هيكل السلطة القائم في المجتمع. تعيد ترتيب الطبقات. تكسر الاحتكار القائم للثروة والسلطة. لهذا السبب فإن الحكام، عبر التاريخ، لم يظهروا حماساً سوى للأفكار التي تدعم نفوذهم (تكنولوجيا السلاح مثلاً). المجتمعات القديمة ركيزتها هي احتكار السلطة والثروة والمعرفة بواسطة القلة. الوصول إلى طريقة جديدة لعمل شيء ما، أو إبداع تصور مختلف للإنتاج يعني خلخلة النظام وكسر احتكار القلة المميزة. النخب الحاكمة- بطبيعتها- تكره خلخلة النظام. تقدس الاستقرار لا الابتكار.
لهذا السبب بالتحديد تحرك قطار التطور الإنساني ببطء شديد لعشرة آلاف عام هي عمر الحقبة الزراعية. الفلاح المصري في عام 1900 لم يكن يعيش بصورة تختلف جذرياً عن جده القديم عام 1900 ق.م. الحضارات الزراعية لا تشجع على الابتكار. النظام الاجتماعي في هذه الحضارات كان يقوم على الجباية. طبيعي ألا يفكر الفلاح في تطوير إنتاجه إذا كانت الحكومة تستولي على نصفه لنفسها في كل الأحوال. الاحتكار عدو الابتكار.
لكي يبتكر الناس لابد أن يكون هناك حافز. في العصور القديمة كان الحافز شبه مفقود. ما الذى يضمن لك أن تحصل على عائد من وراء فكرتك الجديدة؟ أغلب الظن أن الأفكار الجديدة– في غياب قانون يحمي حق المبتكرين- سوف تسرق وتقلد. لهذا السبب كثيراً ما نقرأ عن العباقرة الذين ماتوا فقراء. الأفكار، في حد ذاتها، لم تكن من مولدات الثروة. بل إنه كثيراً ما كان يحدث أن تظهر أفكار رائعة من دون أن يتلفت إليها أحد أو يعيرها انتباهاً. مثلاً: سر صناعة البارود كان معروفاً في الصين في حوالى 1000 ميلادية، ولكنه كان يستخدم في الألعاب النارية. هل يعقل أن أحداً لم يفكر في استخدامه عسكرياً؟ الأكيد أن أحدهم فكر وجرب، ولكن المنظومة الاجتماعية القائمة لم تسمح بتحويل الفكرة إلى واقع.
برغم بطء نمو المجتمعات الإنسانية، فإن محركاً سحرياً كان يعمل لدفع الابتكار: السوق!. السوق تعني المنافسة في إنتاج السلع بأقل سعر وأعلى جودة. المنافسة هي أكبر حافز للابتكار. من خلال الأسواق وشبكات التجارة بين الأمم المختلفة ولدت الأفكار الجديدة. الأبجدية انتشرت على يد التجار الفينيقيين في الألف الثانية قبل الميلاد. العصر الذهبي للحضارة الإسلامية هو عصر شبكات التجارة مع أفريقيا والهند والصين وأوروبا. المدن الإسلامية صارت مركزاً لشبكات تجارية ممتدة (طريق الحرير). التجارة تجلب معها المعرفة. هكذا أخذ العرب عن الهند النظام العشري (القائم على الصفر)، وعن الصين صناعة الورق. انتقلت هاتان "الفكرتان" إلى أوروبا- عبر التجارة أيضاً- لتصبحا مكوناً رئيسياً في نهضتها الحديثة.
السوق، بوجه عام، دافع للابتكار. على أن هناك مشكلة أزلية واجهت كل المبتكرين. تحويل الفكرة إلى واقع (سلعة /آلة /خدمة جديدة) يحتاج إلى أموال. أصحاب الأفكار ليسوا بالضرورة من ذوي الأموال. تحقيق التواصل بين هذين الطرفين هو ما نطلق عليه الرأسمالية. إنها فكرة عجيبة مكنت الناس، لأول مرة، من الاستثمار في المستقبل. الرأسمالية تفترض أن المستقبل سيكون أفضل من الماضي. على هذا الأساس يمكن الاستثمار في مشروعات وأفكار لا وجود لها فعلياً في الوقت الحاضر، ولكن ينتظر أن تدر أرباحاً في المستقبل. الائتمان البنكي– عصب المنظومة الرأسمالية- يقوم على هذه الفكرة البسيطة. إنها الفكرة التي ألهبت ثورة الابتكار بشكل ليس له نظير خلال القرنين الماضيين. ثمرتها هي كل ما نعاينه حولنا من أسباب التقدم والرفاهية والحضارة.
----------------
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)