صورة لمدينة القدس
صورة لمدينة القدس

بقلم حسن منيمنه/ موقع الحرة

الموقف الأميركي الذي أعلن عنه الرئيس دونالد ترامب الأربعاء الماضي، هو أن سفارة الولايات المتحدة سوف تنقل إلى القدس على أنها عاصمة إسرائيل.

ترامب أكدّ في كلمته أن ذلك لا يبدل موقف الولايات المتحدة من أن مسألة حدود القدس، وأن السيادة عليها تحسم بالتوافق بين إسرائيل والفلسطينيين. ثمة اختلاف إذن مع السقف الأعلى للمطلب الإسرائيلي، وإن أثار الموقف الأميركي الجديد الغضب في الأوساط العربية.

الموقف القطعي للحكومة الإسرائيلية بشأن مدينة القدس، منذ أن أقرّ الكنيست عام 1980 قرار ضمّ الجزء الشرقي منها، المحتل منذ العام 1967، هو أن المدينة الموحدة هي عاصمة إسرائيل الأبدية وغير القابلة للتقسيم. هو طبعا موقف مرفوض ومثير للاستهجان في عموم العالم العربي. فللقدس مكانة جوهرية في صلب الآمال الفلسطينية بتحقيق حلم الدولة. ولها أيضا مقام خاص في البحث العروبي المعاصر عن الوحدة والرسالة. وعبارة «القدس لنا» التي تصدح بها أغنية السيدة فيروز، إذ شذّبت وجدان جيل كامل، ليست معنية بالفتوحات والانتصارات، بقدر ما هي صرخة توق لعدالة موعودة وغائبة في عالم خذل الإنسان الفلسطيني على مدى عقدين من الزمن ابتداء بنكبته عام 1948، ثم بدا غير عابئ أمام تكرار المأساة مع النتيجة الكارثية لحرب حزيران 1967. وبعد نصف قرن من الزمن استحال الألم نقمة، والغضب سخطا، وارتفعت القطعية الرافضة فيما القومية انحسرت. أما القدس فبقيت «لنا» رغم أن تعريف ضمير المتكلم هنا قد اختلف، وبقيت تلهب المشاعر وتشعل العواطف. بل إن المجتمعات العربية، إذ تبدو قابلة أن تتجاوز ما يودي بحياة مئات الآلاف في أوساطها، كما في المأساة المستمرة في سوريا، فإنه يمكن التعويل عليها للتعبير المدوي عن رفضها لأية خطوة من شأنها تبديل الوضع الملتبس للمدينة المقدسة. فللرموز حظوة في الثقافة العربية (كما في غيرها بالتأكيد) ترفع مقامها وتغلبها على الإنسان في ألمه ومعاناته وحياته. وعليه، فإن القدس كرمز متنازع عليه، تمسي عقبة أخرى في طريق إيجاد حل للقضية الفلسطينية. وقد يشكل الانتقال العتيد لسفارة الولايات المتحدة إلى القدس فرصة لمقاربات تعيد النظر ببعض المسلمات التي تنضوي على الضرر.

فمن حيث المبدأ والأساس، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس هو قرار سيادي ينحصر بطرفين هما الولايات المتحدة وإسرائيل. بل إن وجهة النظر المجردة قد تستغرب أن القوة العظمى الأولى في العالم، أي الولايات المتحدة، قد تغاضت إلى اليوم عن التجاوب مع الإرادة الوطنية لحليفتها إسرائيل بتحديد موقع سفارتها. طبعا القدس موضع خلاف يتجاوز إسرائيل ويشمل كامل محيطها، غير أنه ثمة منطقة كبيرة منها، أي القدس الغربية، لا نزاع واقعي بشأن تبعيتها لإسرائيل. واستدعاء مقولة السلطة الدولية على كامل المدينة، وفق خطة التقسيم التي رسمتها الأمم المتحدة في قرارها عام 1947، والتي نصّت على إقامة دولتين يهودية وعربية في فلسطين، هو استدعاء سجالي يفتقد الصدقية، فبعد أن قوبلت خطة التقسيم هذه بالرفض والإدانة على مدى العقود، هل يصحّ فعلا التأسيس على بعض ما نصّت عليه انتقائيا؟ لا شك أن نقل السفارة سوف يؤدي إلى ردود فعل غاضبة في العالم العربي، غير أن المسؤولية الأولى لتأطير ردود الفعل هذه وصولا إلى تجاوزها تقع على الثقافة العربية.

ثمة أوساط عربية قد تقدمت في عدائها وتشددها إزاء إسرائيل والغرب إلى حد تنتفي معه جدوى التواصل. فقابلية بعض الأفراد ضمن هذه الأوساط للتجاوب مع مساعي التعبئة التي يقدم عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» أو غيره من المنظمات القطعية لن تزداد نتيجة النقل المرتقب للسفارة، ولن تنخفض مقابل أي تنازل قد تقدم عليه إسرائيل أو الولايات المتحدة. ولكن في المقابل، فإن التواصل مجد مع الجمع الأوسع في المجتمعات العربية، وهو المعني بمسألة القدس من جانب ذاتي معنوي عاطفي كما من جانب تجسيدها للعدالة الدولية غير المتحققة. وهذا الجمهور الواسع قد يستفيد من الإصغاء إلى طرفين في موضوع نقل السفارة. الطرف الأول هو الولايات المتحدة، والثاني هو شريحة المثقفين في أكنافه.

فالتوجيه الأسلم لحكومة الرئيس ترامب هو دعوتها إلى وضع نقل السفارة في موضعها الواقعي الحقيقي، أي بأن الفعل هو تصحيح بعد أمد طويل لجانب غير منتظم من العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن لدرء المخاوف والشبهات التي قد يشهرها المتسلقون على الحدث، والضاربة فعلا في أعماق التاريخ، فإن الأجدى لواشنطن أن تصدر بيانا مستقلا حول تقدير الحكومة الجديدة للآمال الفلسطينية، وعن تصميمها الذي عبّر عنه دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية لإعادة تفعيل المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين سعيا لتحقيق الحل المنصف.

غير أن مسؤولية الفعل الإقدامي الإيجابي في هذا الظرف تقع على الثقافة العربية، لمنع التصوير الانتهازي للحدث على أنه إهانة وإساءة للعالمين العربي والإسلامي، ولاستنهاض مراجعات جديدة لبعض الأفكار الراسخة المعرقلة والتي قلّ أن تخضع للمساءلة.

بكل تأكيد، سواء من وجهة نظر تاريخية أو حضارية أو حتى وجودية، «القدس لنا». ولكنها كذلك لهم. وهنا يكمن السؤال الجوهري الممتنع إلى اليوم عن المواجهة في الثقافة العربية (نعم، السؤال المقابل ممتنع كذلك في الثقافة الإسرائيلية، فالحاجة إلى المساءلة الذاتية تصحّ هناك كما تصحّ هنا). «القدس يهودية»، هي عبارة تثير الامتعاض على أقل تقدير، وغالبا ما يزيد عنه، عند ذكرها في أي مقام عربي. ولكنها ليست فقط إقرارا بواقع، بل هي كذلك مرآة لتاريخ ووجدان وحقيقة عميقة. فلقرون طويلة كان الشوق والتوق للقدس، المدينة المقدسة الممنوعة، في صلب الهوية الذاتية اليهودية. غير أن هذا الرابط العاطفي والشعائري والروحي يغيب عن الذكر تماما في السرديات العربية. كما تغيب عن الخطاب العربي المعطيات التاريخية الملموسة، والتي تبين مثلا أنه في الزمن العثماني، قبل الانتداب البريطاني والاستعمار الأوروبي و"الإمبريالية الأميركية"، كان اليهود أكبر طائفة في مدينة القدس في معظم الأحيان، بل كانوا الأكثرية المطلقة فيها في مراحل عدة. فالسؤال الجدي الذي لا بد للثقافة العربية من التطرق إليه، إذ تصيغ ردّها على نقل السفارة، هو ما إذا كانت معارضة النقل ناتجة عن اعتبارات سياسية أو عائدة إلى رفض قاطع للقبول بيهودية القدس.

والكلام عن يهودية القدس لا ينفي مكانتها عربيا وفلسطينيا. تبقى القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، مسرى الرسول للمسلمين والشاهد على القيامة للمسيحيين، فهي الأساس لهذه الهوية العربية، الجريحة دون أن تفارق الحياة، والتي تريد للعروبة أن تحتضن مسلميها ومسيحييها. نعم، القدس عربية، ولا ينقص ذلك من يهوديتها. بل للمدينة المقدسة أن تشهر ما يزيد عن هذا وذاك، فهي أرمنية وقبطية وحبشية ويونانية ولاتينية. إنها مهمة جيل لاحق أن يفرز هوياتها المتعددة ويجمعها.

قد يسجّل التاريخ لمدينة القدس في غد قريب أنها أصبحت العاصمة الأولى لدولتين. وهي اليوم عاصمة لدولة إسرائيل. وللاعتراض بجدية وحسن نية على هذا الواقع، لا بد من تفكيك مسمّى القدس، وذلك بالإشارة إلى الاختلاف بين الشطرين الشرقي والغربي. فتابعية القدس الغربية للسيادة الإسرائيلية أمر لا جدال بشأنه مع أي سعي منصف لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. فالتزام الولايات المتحدة بهذا القيد في اختيارها لموقع سفارتها في القدس، أي بنقلها إلى الشطر الغربي من المدينة، يدعو إلى اعتبار الخطوة كما هي، عملا اعتياديا في العلاقات بين الدول.

 

المصدر: منتدى فكرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

مواضيع ذات صلة:

أفراد من الطب الشرعي ينقلون رفات ضحايا المقبرة الجماعية ملعب الرشيد/مجلة الرقة المدني
أفراد من الطب الشرعي ينقلون رفات ضحايا المقبرة الجماعية ملعب الرشيد/مجلة الرقة المدني

محمد النجار

أكثر من 300 جثة على الضفة الجنوبية لنهر الفرات في مدينة الرقة السورية تم إخراجها من مقبرة الفخيخة منذ بداية العام الحالي، وذلك بحسب ما ذكره فريق الاستجابة الأولية في مدينة الرقة، وتحدث قائد فريق الاستجابة في الرقّة ياسر الخميس في حديثه لوكالة "هاوار" التابعة لمناطق الإدارة الذاتية قائلاً إن معظم الجثث التي تم إخراجها منذ كانون الثاني الماضي/يناير لغاية آخر شهر آذار تعود لأطفال ونساء تم قتلهم على يد تنظيم داعش الإرهابي وضمن عمليات إعدام ميدانية.

المقبرة التي عثر عليها في التاسع من كانون الثاني/يناير الماضي، بدأ العمل عليها مباشرة بعد طلبات من الأهالي في المنطقة، وتقع منطقة الفخيخة على الضفة الجنوبية لنهر الفرات، وهي أرض زراعية تصل مساحتها إلى 20 دونماً، ولا يزال فريق الاستجابة الأولية في مدينة الرقّة يتابع عملياته لانتشال الجثث المتبقية فيها.

وعثرت قوات سوريا الديمقراطية على المقبرة التي وصفت بأنها أكبر مقبرة جماعية تضم رفات من قام داعش بقتلهم خلال سيطرته على المدينة آنذاك، كما توقع "فريق الاستجابة" وجود أكثر من 1200 جثة في هذه المقبرة، والتي كانت أرضاً زراعية لأهالي المدينة قبل تحويلها لمقبرة من قبل عناصر التنظيم.

 

 

في الحدائق والملاعب

تسيطر قوات سوريا الديمقراطية حاليا على الرقّة بعد طرد داعش منها خريف 2017. وتشترك لجان تابعة لها مع الطب الشرعي في عمليات الكشف عن مقابر جماعية.

مجلس الرقّة المدني أعلن في عدة مناسبات عن الكشف عن عدد من المقابر الجماعية داخل المدينة وفي ريفها، وكانت أغلب هذه المقابر في الحدائق الشعبية وملاعب كرة القدم والساحات العامة، وبعد اكتشاف المجلس لوجود هذا الكم الهائل من المقابر، أخذ فريق الاستجابة الأولية على عاتقه مهمة البحث عن هذه المقابر، وانتشال الجثث والتعرف عليها.

وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن عدد القتلى من المدنيين خلال معارك تحرير الرقة وصل إلى أكثر من 2323 مدنياً، بينهم 543 طفلاً، ومعظمهم تم دفنهم في مقابر جماعية أثناء المعارك.

يقول طارق الأحمد وهو مسؤول في لجنة إعادة الإعمال في المجلس المحلي للرقة، إن "معظم الإعدامات الميدانية جرت قبل فترة قصيرة من بدء حملة "غضب الفرات" التي قادتها قوات سوريا الديمقراطية، لاستعادة الرقة".

وحسب أحمد، نقل داعش جزءا من معتقليه خارج العراق، وقام بتصفية آخرين ودفنهم في مقابر جماعية. وامتدت هذه المقابر إلى الحدائق العامة، مثل حديقة الجامع القديم وحديقة الرشيد المعروفة وسط الرقة.

وخصص التنظيم المتطرف مقبرة لمقاتليه أطلق عليها اسم مقبرة "شهداء الدولة" بمعزل عن باقي مقابر المدينة.

 

 

مقابر أخرى

في الأشهر الماضية كانت أبرز المقابر التي تم الكشف عنها في الرقّة مقبرة البانوراما، وتجاوز عدد الجثث فيها 150 جثة. وكذلك مقبرة الجامع العتيق التي تم الانتهاء من عمليات البحث فيها في أيلول سبتمبر 2018، ومقبرة حديقة الأطفال ومقبرة حدقة بناء الجميلي، ومقبرة معمل القرميد.

مقبرة الرشيد أيضاً من أوائل المقابر التي عثرت عليها قوات سوريا الديمقراطية وتم اكتشافها في ملعب الرشيد، وضمت رفات 300 قتيل أعدموا بشكل جماعي على يد تنظيم داعش خلال سيطرته على الرقة بين 2014 و2017.

وفي الفترة التي أحكم فيها التنظيم قبضته على المدينة وريفها، تحولت الملاعب والحدائق والميادين إلى مقابر تحتضن رفات المئات ممن تم إعدامهم.

في شباط/فبراير 2018، قالت وكالة "سانا" التابعة للنظام السوري إن قوات النظام عثرت على مقبرة جماعية غربي مدينة الرقة قرب بلدة رمثان، ونقلت الجثث إلى المشفى العسكري في حلب.

وقالت الوكالة أيضا إن القوات السورية عثرت، في أواخر كانون الأول/ديسمبر، على رفات 115 عسكريا ومدنيا في مقبرة قرب بلدة الواوي في ريف الرقة الغربي، كان داعش أعدمهم.

وبدورها، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية، خلال عمليات تحرير المدينة، إنها عثرت على مقبرة جماعية تضم عشرات الجثث قرب مدينة الطبقة بريف الرقة الشمالي.

ومنذ 2014، تحدثت وسائل الإعلام عن رمي عناصر داعش جثث القتلى في حفرة الهوتة بريف الرقّة الشمالي قرب بلدة سلوك. وباتت هذه الحفرة رمزا للمجازر التي ارتكبها التنظيم، وكان بين من قام برميهم "معتقلين على قيد الحياة"، يقول عبد الله (طالب جامعي) من مدينة الرّقة لموقع (ارفع صوتك).

 

 

آلاف الحالات من الاختفاء القسري

في تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان نشر في 28 آذار/ الماضي، تم توثيق 4247 حالة اختفاء قسري في الرقّة منذ عام 2011 وحتى يومنا هذا. وقالت الشبكة في تقريرها إن بين المختفيين 219 طفلاً و81 امرأة.

وتوزعت حصيلة المختفيين بين النظام السوري بمسؤوليته عن اختفاء 1712 شخصاً وتنظيم داعش 2125 شخصاً، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية المسؤولة عن اختفاء 288 شخصًا وفصائل معارضة أخرى عن اختفاء 122 شخصًا.

ووثقت الشبكة، في تقريرها، مقتل 4823 مدنيًا في الرقة خلال السنوات الماضية على يد أطراف النزاع، بينهم 922 طفلًا و679 امرأة.

وبحسب تقرير الشبكة فإن 97% من جثث المقابر في المدينة تعود لمدنيين، في حين تشكل جثث مقاتلي تنظيم داعش نسبة 3%.