بقلم حازم الأمين/ موقع الحرة
قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، كشف أيضا أمرا آخر حول المدينة المستهدفة بالقرار، وهو أن قضية القدس ضعيفة الحضور في الهم الإيراني، حضورها في الخطاب الرسمي للجمهورية الاسلامية يعود لأسباب تعبوية فقط، وبصفتها قضية من خارج الوجدان، في حين هي (القدس) قضية أربكت أنظمة عربية أخرى ودفعتها نحو مواقف راديكالية غير معهودة في خطابها حيال الولايات المتحدة الأميركية.
صحيح أن العلم السعودي أحرق إلى جانب العلم الإسرائيلي من قبل متظاهرين فلسطينيين، لكن إحراق العلم جرى تماما لأن المتظاهرين انتظروا من الرياض ما يعتقدون أنه كان يجب أن تقوم به بصفتها عاصمة معنية. والسعودية، وفي ذروة تحالفها مع إدارة ترامب، وجدت نفسها منساقة نحو موقف جذري رافض لقرار البيت الأبيض. الحال نفسه في ما يتعلق بتركيا. وشعرت عمان والقاهرة أنهما طعنتا في الظهر من قبل الحليف الأميركي. وتولى الملك الأردني عبدالله الثاني تنسيق المواقف قبل القمة الإسلامية التي انعقدت في إسطنبول، وقام بزيارات مكوكية لكل من القاهرة وأنقرة والرياض.
ترامب أحرج حلفاءه العرب، وما قيل لجهة أنه سيعطيهم في مجال مواجهة "الخطر الإيراني" في مقابل تمريرهم اعترافه في القدس عاصمة لإسرائيل، كشف أنه غير واقعي. رغبة الحكام العرب لا تكفي وحدها لتحقيق طموح ترامب. والوقائع كشفت أن ملف القدس أثقل من أن يتم تمريره في لحظة ضعف عربية. فالقدس قضية داخلية لمعظم هذه الدول التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، والأخيرة كانت أجلت قرارها مرارا ليس لأسباب فلسطينية، إنما لأسباب عربية.
وفي مقابل الارتباك العربي (السني) في التعاطي مع قرار ترامب، شعرت طهران أن الاعتراف الأميركي ورقة يمكن أن تُضاف إلى خطاب التعبئة والمواجهة، من دون أن يُرتب عليها ذلك خطوة عملية. زيادة الزخم في الخُطب من دون بذل أي جهد. عواصم "الهلال الشيعي"، أي بغداد ودمشق وبيروت اقتصر التحرك فيها على تظاهرات صغيرة ومتفرقة، في حين تولت الحكومة الأردنية في خطوة غير مسبوقة الدعوة إلى التظاهر في عمان. القاهرة أيضا وجدت نفسها أمام استحقاق التظاهر، وعلى رغم حساسية النظام فيها حيال أي مظهر احتجاجي، أفسحت المجال لحركات احتجاج كبرى. دول بعيدة مثل تونس والجزائر والمغرب تولت جهات شبه حكومية فيها الدعوات إلى التظاهر، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا وباكستان.
غالباً ما يستعين المتساجلون العرب بخرائط التظاهرات لتسجيل نقاط عن درجة التضامن حول القضايا التي تظاهروا من أجلها. والحال أن العرب تظاهروا من أجل حماية أنظمتهم من قنبلة القدس، لا من أجل القدس نفسها، وطهران بدورها لم تتظاهر لأن القدس ليست جزءا حقيقياً من العصبية التي تشد أزر النظام، أي بمعنى أن القدس ليست جزءا من النبض الحقيقي للعصبية، وجرى إقحامها على نحو غير طبيعي في الخطاب.
قد يبدو أثر التاريخ في السجال حول القدس اليوم هامشيا، أو غير مباشر، لكن ما يجري الصراع حوله اليوم في القدس هو التاريخ ولا شيء غير التاريخ. أما الأربعمئة ألف فلسطيني من أهلها فهم في المرتبة الثانية في جدول ألويات الصراع. وبالمعنى التاريخي تبدو صلة التشيع بالقدس ملتبسة، ولهذا أثره الوجداني من دون شك. فالمدينة "فتحها عمر وحررها صلاح الدين" بحسب المقولة الرائجة حولها، وبين عمر وصلاح الدين تولى الأمويون بناء مسجد قبة الصخرة فيها. والخليفة عمر وصلاح الدين الأيوبي ليسا من أحب الشخصيات في التاريخ الشيعي، والأمويون طبعا يمتون لـ"الظلامة الشيعية" بصلة أكيدة.
قد يكون من المبالغة تلخيص علاقة الشيعة بالقدس بهذا التاريخ، إذ أن علاقة مع المدينة جرى استئنافها في ظل القضية الفلسطينية، ذاك أن التشيع العربي ببؤرتيه العراقية واللبنانية بشكل خاص ارتبط وجدانيا بالقضية الفلسطينية عن طريق آخر غير التشيع، وأعني هنا اختراق البيئآت الشيعية من قبل أحزاب قومية ويسارية بحيث كان الحزبان الشيوعيان اللبناني والعراقي حزبان شيعيان بالدرجة الأولى، وكذلك البعث الذي بدأ شيعيا في العراق وانتهى سنيا. وفي هذه المرحلة نشأت في الوعي الشيعي "قدس سياسية" عزز حضورها في هذا الوعي نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية.
لكن التشيع بمعناه الجديد هو قطع مع هذا الماضي، وبعث للمعاني المذهبية القديمة والمفعمة بشعائر الظلامة الأولى. والقدس ضعيفة الحضور في هذه المعاني وهذه الشعائر. ولهذا فإن "انتهاك المدينة" بقرار أميركي بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل لن يُهدد نظاما تحميه عصبية التشيع الأول، وإن كان من ألد أعداء إسرائيل، لكنه سيهدد نظاما تشكل القدس لقواعده الاجتماعية وجدانا وشعيرة، وسيجد هذا النظام نفسه في مواجهة القرار حتى لو كان من أقرب أصدقاء الولايات المتحدة الأميركية. الأردن نموذجا، وكذلك مصر وتركيا، والسعودية أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)