محمد أبوعرقوب- خاص بموقع الحرة
التاريخ حافل بالجدل الفقهي والفلسفي حول سؤال في الإسلام: من نغلب، سلطة العقل أم النقل في التعاطي مع القرآن والسُنة؟
فلاسفة الإسلام في صراع مع فقهاء الدين، ولكل منهم وجهته التي يرتئيها في تفسير الدين.
على الأرض جماعات تقتل وتسفك الدماء في العراق وسورية ودول العالم باسم الإسلام.
"نحن لم نقرأ القرآن أبدا" منذ 14 قرنا نتلوه فقط... هذا كلام للمفكر التونسي يوسف صديق، عالم الأنثروبولوجيا، الذي يبحث في القرآن من منظور فلسفي معاصر.
شهدت السنوات الأخيرة ظهور جماعات متشددة باسم الإسلام، ناقشت المسألة في كتابك المعنون بـ"نحن لم نقرأ القرآن أبدا". قلت نحن لا نقرأ القرآن بمعنى لا نفسره بالشكل الصحيح.. كيف بنيت موقفك؟
صديق: من وجهة نظر كثير من المفكرين في كل أنحاء العالم العربي مثل عابد الجابري ومالك عبد النبي، وحامد ناصر أبو زيد ومحمد شحرور، أجوب المسألة من الناحية المنطقية البسيطة.
منذ أن دفن ذلك الرجل (النبي محمد) الذي لا نعلم عنه شيئا، حيث اختفى عنا كل شيء مادي من تاريخه، بينما لدينا آثار من حمورابي، ومن أخناتون، وهذا الرجل الذي حول تاريخ البشرية كاملا لم نحتفظ منه بشيء.
منذ أن دفن تحولت الأمور إلى أيديولوجية يتحدث التراث عنها. منذ ذلك الحين ونحن نعيش ابتزازا كاملا لتلك الطاقة التي جاء بها الرسول، والتي بقي لنا منها فقط أمور عاطفية.
على سبيل المثال يقول الله تعالى في كتابه إن الإفتاء بدعة "يستفتونك قل الله يفتيكم"، أما بعد قرن ونصف أصبح المفتي هو الذي يدير الشعور والضمائر، ثم أصبحت التلاوة هي ما يحكم القرآن الكريم.
لكن.. العلماء تنبهوا إلى هذه النقطة وابن كثير على سبيل المثال قدم قاعدة تقول إن القرآن يفسر بعضه بعضا فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، ما رأيك؟
صديق: قضية السنة شائكة ولابد من أن نتخلص منها نهائيا. ما هي السنة؟ كلمة سنة لم ترد في القرآن بهذا المعنى أبدا، السنة هي قوانين الله، "ولن تجد لسنة الله تبديلا" أما السنة ما فعله وما قيل إنه فعله، وما روي عنه فهذا لن تجده أبدا. ثم إن هناك مغالطة يتبناها المسلم العادي هي تلك الآية التي تؤسس لاتباع السنة وكأنها موازية أو معادلة للقرآن، تلك الآية في سورة الحشر تقول "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". خارج هذه الآية لا ذكر للسنة في القرآن. وتفسير هذه الآية يتعلق بالغنائم.
إذن يستنبط الفقهاء الأحكام من الأيديولوجيا والتراث؟
صديق: أنا لا أتهم التراث، إنما أتهم الفقهاء الذين كانوا يتصدرون مواقعهم من الخلافة، وعلى سبيل المثال أكبر نحوي كان مفسرا اسمه أبو زكريا الفراء، هو كان عالما في النحو، وممن صنعوا النحو واللغة العربية مثل سيبويه.
الفراء في أحد كتبه عن تفسير الآية "ليس البِر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، يقول: "والله لم أفهم هذه الآية، ولو لم أخش أن يقال جاء أبو زكريا بفاحش لقرأتها البَر بمعنى المكان"، أي أن الله لا شرق ولا غرب عنده، والله عنده البَر (المكان)، وهذه قراءة معقولة.
لكن أبو زكريا يعتقد أنه لو اعتنى بالتفسير، فإنه سيمنع لأن ذلك بالنسبة له فاحشة. وكان المفسر ابن كثير أو الطبري إذا لم يرض عنه الخليفة، يمنع الوراق من أن يعطيه الورق، ويمنع النساخ من أن ينسخ له الكتابة، هذا هو تاريخنا، لذلك أعتقد أن المسلمين البسطاء اعتنوا بالطقوس فقط.
هل ذلك هو السبب في انتشار الفكر المتشدد والعنف الذي تتبناه الجماعات المتشددة الآن؟
صديق: نعم، ولكن هذا العنف موجود منذ تاريخ الإسلام، وعندما تقرأ في كتب التاريخ أن المتوكل قتل من المعتزلة في بغداد 20 ألف عالم في ثلاثة أيام لأنهم لم يقولوا بأن القرآن غير مخلوق، وفرقة المعتزلة تعتبر أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله المنزل على نبيه محمد كما يؤمن المسلمون.
وعندما تعرف أن الحشاشين وهي كلمة توازي بالفرنسية كلمة القاتل، هي من الفرق الأيديولوجية، وكانت موجودة في أرقى أيام العرب، كانت هناك فرقة تقتل وتغتال الناس بكل أريحية حتى أن الشعراء والمفكرين كانوا على أجندة الاغتيال والقتل، لذا الأمر ليس جديدا. إسلام الطقوس فقط يفرز العنف.
هل يولد الدين العنف إذا تحول إلى مفهوم الدولة أو ما يوصف بالإسلام السياسي؟
صديق: فعلا لأنه تحول إلى مفهوم الدولة، انظر مثلا عندما يكون المسلم في موقف بالنسبة لي موقف صحيح، والذي يجعله فردا متجها عاموديا إلى الخالق ليعبده، عندما يكون متصوفا مثل الحلاج (الحسين بن منصور الحلاج)، ومحيي الدين بن عربي، والسهروردي (أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي) فإنهم يقتلون، كلهم قتلوا لأنهم كانوا يؤمنون بالموقف العامودي الذي يصل الناس بالله، وهذا يكون خطرا كبيرا على المساحة والحيز السياسي فيقتل ويصلب ويعذب ويضرب عنقه، وهذه أمور علينا أن نتفكر فيها.
لكن الفقهاء سواء في الأزهر أو السعودية يعارضون التشدد والعنف وداعش، ويؤكدون أن الدين براء من العنف، وأنتم كمفكرين تقولون إن هؤلاء الفقهاء جزء من المشكلة؟
صديق: هذا بالنسبة لي شعار فقط كي يتوافق هذا البلد أو هذا النظام مع الغرب، وكي يتواصل معه، هذه شعارات، أنا أطلب من هؤلاء الفقهاء الذين ذكرتهم أن يقولوا لي كيف نوفق بين عقلنا، وبين أن تخاف من نشوز زوجتك فتصل إلى ضربها؟ كيف يمكن أن نوفِق هذا الشيء الذي كان منطقيا في القرن السابع، وبين ما تتطلب المجتمعات التي تعيش في القرن الواحد والعشرين؟
القرآن ربط الأمر في ذلك العصر بالإنفاق، والدليل على ذلك "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، الآن أصبحت كثير من النساء هي التي تنفق. أطلب من الفقيه الذي يقول إن القرآن يصلح لكل مكان وزمان أن يوضح لي هذا الأمر.
عنوان كتابك الذي أثار جدلا "نحن لم نقرأ القرآن أبدا" إذن كيف يجب أن يُقرأ القرآن؟
صديق: قراءة القرآن أن نعتبر-وهذا خطير- أن الله يكلم العالم، وأن كلمات الله ليست ألفاظا، والدليل في آية "يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم"، كلمة أصبحت عيسى، والكلمة يمكن أن تصبح زلزالا مثلا. أما أن يكون له حديث لجيل معين، فهذا ما ينقص من مكانة الله عز وجل.
أنا أعتقد أن الوقت حان لأن نعود لما جاءت به المعتزلة كثورة، وما حاول طه حسين أن يحييه في القرن الماضي، وهو أن الله يلهم المعاني، وهذا ما حاول طه حسين أن يقوله فزلزلت عليه الأرض، وأجبر على أن يتنحى من السياسية ومن وزارة التربية.
لابد من أن نعود على هذه الأشياء البسيطة، وإذا كان القرآن لغة قريش ومصحف عثمان، فإن لنا أن نتخذها نصوصا نتصرف بها ونعود إلى منابعها الأولى الآرامية واليونانية، وأن نعتبر أن هذا القرآن ملك للبشرية، ويجب أن يكون هناك جمع للمفسرين والرهابنة للبحث فيه، وهذه يجب أن تكون ثورتنا الآتية.
المفكرون المعاصرون في الإسلام يقولون إن ما بين يدينا ليس القرآن بل هو الكتاب؟
صديق: هذا يجب أن يكون في صلب الثورة المعرفية التي لابد لنا أن نقوم بها، لأن المصحف هو عمل سياسي بشري، هو عمل اختاره عثمان بن عفان، يقول لنا التراث إنها طرق بدائية، جمع الطوال مع الطوال والقصار مع القصار، بينما يقول آخرون: لا، إن جبريل عليه السلام هو الذي رتبه. ابن كثير يقول "كنا نقرأ سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة، حتى جاء عثمان فأراد أن يجعل سورة باسم قريش ففرقهما"، وهذا معقول من ناحية اللغة. لذا لابد من أن نراجع سياسة وأيديولوجية صناعة المصحف.
هذا الكلام ربما يصيب المسلم بصدمة، لماذا الصراع على التفسير، ولمن يرجع الناس؟ المفكر المعاصر في اتجاه والفقيه باتجاه معاكس؟
صديق: على الإنسان أن يقارن بين ما كانت عليه الأديان السماوية، المسيحية كانت أفظع في ممارستها للعنف مما كان في الإسلام. كانت تحرق الناس في الشارع حتى القرن السابع عشر، تحرق العلماء والفلاسفة وحتى البسطاء، العجوز التي كان يرافقها قط أسود كانت تحرقها في الشارع.
المجتمعات المسيحية أنقذت نفسها لأنها راجعت التاريخ من دون خوف، ولا مشكلة من أي مراجعة. فلا ضير أن ينظر الإنسان إلى مستقبله ويراجع كل شيء.
شُنق المفكر محمود محمد طه لأنه كتب كتابا بعنوان "الرسالة الثانية من الإسلام"، قال فيه شيئا مهما أننا "عشنا دجلا كبيرا في قضية الناسخ والمنسوخ"، هذا المفكر قال إن الزمن هو الذي ينسخ، الزمن تطور فيه الإنسان إلى حد أنه ألغى العبودية فلم تعد آيات الرق إلا منسوخة بالزمن. وهذا هو موقفنا، ويجب أن يكون حولنا مؤسسات وجامعات، حتى أن يكون لهؤلاء الذين قتلوا أو هددوا أو شنقوا أن يكون لهم الأمر في أن يحاولوا بكل صدق وأمانة واعتزاز بالإسلام أن يقوموا بالقراءة المعاصرة للدين.
في الدول العربية قوانين تتضمن تهمة "ازدراء الأديان" ما رأيك؟
صديق: لا اعتقد أن الفكر يمكن أن يلجم بأي أداة من الأدوات، وهذا أقوله للأزهر والمرجعيات الأخرى في تونس والمغرب، فإذا أرادوا أن يرتفعوا بدينهم فلابد أن يرفضوا مثل هذه القوانين.
المسيحية أصبحت في تبلور ورقي حتى وصل الأمر بالبابا إلى القول إن الله أرحم من أن يكون هناك جهنم، جهنم ليست موجودة، لأن وراءهم مفكرين وفلاسفة وتبنوا هذه الفلسفة حتى أن الدين ارتقى من دين العامة إلى دين الفكر والعقل. لكن عندنا فلاسفة الإسلام مثل الفارابي وابن رشد والكندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي) مهمشون.
الخلاف السني الشيعي.. هل هو خلاف عقائدي أم أن له أبعادا أخرى؟
صديق: الخلاف بدأ مع خزعبلة وفذلكة تاريخية كبيرة، عندما تبوأ معاوية الحكم، فقسم الإسلام إلى قسمين آل البيت وأهل السنة. وهذا تقسيم سياسي، لذا لابد لنا من أن نتواصل ونتحدث إلى أهل الشيعة على مسألة آل البيت ومسألة من عاداهم ومن ظلمهم، وتاريخيا هؤلاء قمعوا ولوحقوا وكان لهم من المظالم التي لابد من أن تحل تاريخيا وليس دينيا، بأن نتمعن في قضية كربلاء وآل البيت.
أين ترى موقع الفرد في الفكر الديني السائد؟
صديق: نحن نرفض الفرد، ولا وجود له إلا أن يكون مهمشا، لذا لا يمكن أن يكون لدينا فكر إلا إذا اعترفنا بالفرد. الإنسان لا صفة له إلا أنه مطلق، وكل الآيات المطلقة التي أعتقد انها فلسفية لا تتحدث عن البشر ولا المسلم ولا عن المؤمن، إنما تتحدث عن الإنسان. كل الآيات العظيمة التي تنظر إلى مستقبل البشرية تتحدث إلى الإنسان ولا تتحدث إلى تركيبة معينة مثل المسلم أو المؤمن أو المسيحي، ولابد من أن ننظر إلى هذا الأفق. والإنسان ليس رجلا وامرأة بل هو المحور الأصلي، وأدلل بذلك على مثال المسلم المتزمت، كيف يمكن أن يتعامل مع الأفريقي الوثني أو البوذي إلا أن يرتقي فيعتبره إنسانا مثله مثل أي إنسان آخر ويتعامل معه بصفة تعادل أي إنسان آخر، وهذا ما ينقصنا.
أفكارك تغضب الناس، ماذا تقول لهم؟
صديق: بكل تواضع ومحبة أقول لهم إني لا أرمي لأي شيء أناني، إنما أغار على أهلي ووطني وأستحي من الناس الذين تجاوزوا أفقهم الديني الضيق في أوروبا وأميركا والكتاب والفلاسفة، أستحي منهم عندما أشعر أن الناس قتلوا في سوسة بسبب الفرق الديني بينهم وبين من قتلهم. والأعمال بالنيات، ونيتي صافية وإن بين لي أحد أنني مخطئ بإثباتات معينة، اعتذر وأتجاوز الخطأ. وهذا هو موقف المفكر، حيث لا يستحي من أن يقول إنه مخطئ إذا أثبت له ذلك. أحاول أن أقول الحق ومن هم مثلي يحاولون قول الحق رغم أن منهم من قتلوا، ولكنهم ما بدلوا تبديلا.
خاص بـ"موقع الحرة"