نحن أمام دائرة حكومية عراقية. الوقت صباحا ما زال.
يغلق الموظف البوابة، ويدعو بلهجة حازمة المحتشدات أمامها للعودة في اليوم التالي.
الحشد يشمل مطلقات جئن لاستلام النفقات الشهرية التي ألزمت بها المحاكم أزواجهن السابقين لإعالة أطفالهن بعد الطلاق.
الموظف أعلن عن تأجيل مواعيد كثير منهن. الحجة هي أن الأعداد المخصصة لاستلام المال اكتملت لهذا اليوم.
دقائق راحته من العمل
اعترضت زهرة محمد على أوامره ورفضت الانسحاب مثل الباقيات. وبعد مشاحنة معه، سمح لها بالدخول. تسرد زهرة، وهي مطلقة وأم لثلاثة أطفال، كيف أنها تتعرض في دائرة التنفيذ هذه لصعوبات تعرقل استلامها للنفقة الشهرية بوقتها المحدد. "كل التأخيرات والصعوبات التي تواجه المراجع لدوائر الدولة سببها الموظفون، لأنهم لا يفكرون إلاّ براحتهم".
وتضيف "تراجع المؤسسة منذ ساعة مبكرة في الصباح لتنجز مهمتك وتتنظر حتى انتهاء أوقات العمل الرسمية وربما يتم تأجيلك ليوم آخر، لأن الموظف يستقطع بعض الوقت بين الحين والآخر لأداء بعض المهام الشخصية التي لا تتعلق بالعمل".
وتتابع أنها غالبا ما تضطر لانتظار أن ينتهي الموظف من تناول فطوره ومن تبادل الأحاديث الجانبية. "أنتظره أيضا حتى ينتهي من تدخين سيجارته وأداء الصلاة وغير ذلك من دقائق راحته من العمل لينظر بعد ذلك لأوراقي".
وتشير إلى أن الكثير من النساء يتحملن كل ما يبدر من الموظفين تجاههن من سلوكيات ومواقف شخصية لا علاقة لها بإدارة العمل "خشية أن تتخذوا بحقهن إجراءات مثل تأجيل إنجاز المعاملة أو عرقلة استكمالها أو إيجاد ثغرة ما لرفضها نهائياً".
فائض من الموظفين
معاناة زهرة تنطبق على المراجعين والمراجعات في الدوائر والمؤسسات الحكومية كالمستشفيات والمحاكم وغيرها من الدوائر الخدمية.
"لتخطي هذه المعاناة، يلجأ البعض لدفع الأتاوات والرشاوى لتسهيل مهامهم"، يقول الخبير الاقتصادي كامل السعدون في حديث لموقع (ارفع صوتك).
ويضيف أن مراجعة أية مؤسسة حكومية تحتّم على المواطن تحمل مزاج الموظف. "وإن قال المراجع للموظف إن وقته محدود، قد يماطل أكثر".
توجد تفاصيل كثيرة – بنظر الخبير - لها دلالات كبيرة فيما يخص نشاط العمل في دوائر الدولة. ويضيف أن التفلت الأمني في البلاد ضاعف أيضا من ضعف إنتاجية الموظف العراقي.
"لا يوجد للموظف من يحاسبه على التقصير في مهامه والتهاون في إنجازها بالوقت المحدد. والسبب أن هناك عددا فائضا من الموظفين الذين تمّ تعيينهم حسب توجهات حزبية أو سياسية أو بناء على العلاقات الشخصية والمحسوبية".
لا يحمل شهادة جامعية
يستغرب وليد ساجد أن جاره علاء الذي لم يكمل تحصيله العلمي بات موظفا حكوميا. "لقد كان سائقا لرجل نافذ في حزب سياسي، وفجأة بات موظفا رغم أنه لا يحمل شهادة جامعية".
ويروي وليد أن علاء غالبا ما يتغيب عن المؤسسة التي يعمل فيها. "أسأله لماذا لست في العمل، فيتحجج أن لديه مهمة خاصة لمساعدة الجهة الحزبية التي يساندها أو أنه يريد أداء الصلاة في المسجد".
الموظف الجاد والمثابر
تقول منى عباس، وهي موظفة في دائرة حكومية منذ عام 2006، إنّ الصورة الشائعة عن الموظفين هي أنهم يقضون أوقات العمل الرسمي بالراحة، وأنهم لا يعملون بجدية دون مقابل مثل رشوة أو هدية، "وهو أمر إلى حدٍّ ما صحيح، لكن لا يجوز التعميم".
عندما تخرجت منى من كلية الإدارة والاقتصاد قبل أكثر من 15 عاما، لم تفكر أنها ستحصل على وظيفة في دائرة حكومية، لكن عمتها التي تعمل بنفس الدائرة منذ أكثر من 20 عاماً، استطاعت أن توفر الفرصة لها.
وتضيف منى، وهي متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، "في البداية، كنت أشعر بضغط العمل ولا يمكنني أن أحصل من خلال على وقت للراحة، لأن أعداد الموظفين كانت قليلة، لكن في وقت لاحق بدأت أعدادهم تتزايد".
وأثناء عملها الذي يتطلب التعامل مع شرائح مختلفة من الناس، تغير أسلوب منى في العمل. "التعامل مع الناس يومياً يسبب الإرهاق، فمنهم من يقترح عليك تقديم الرشوة أو الهدايا أو يحاول ابتزازك بهدف إنجاز مهمته بعيدا عن القوانين والضوابط".
ويبدأ العمل الرسمي لمنى يومياً بعد تناول وجبة الفطور برفقة زميلاتها داخل الغرفة التي ينجزون فيها أعمالهم الوظيفية. "اعتدنا على احتساب الساعة الأولى من الدوام لتناول وجبة الفطور وهذا حال غالبية الموظفين".
وتشكو أن الموظف في العراق "لا تُحتسب له مكافآت مالية لتشجيعه على المثابرة والنجاح، ولا توفر له وسيلة تنقله من بيته إلى الدائرة وبالعكس، فضلا عن الرتابة والروتين في أسلوب العمل الذي يدفعه للشعور بالملل".
ولا تلقي منى باللوم على الموظفين الذين يستغلون ساعات العمل الرسمي للراحة أو أداء مهامهم الشخصية، "لأن الحكومة لم تمنح الموظف الجاد والمثابر فرصة ليعيش بيسر واستقرار، بل تركته يواجه الأوضاع غير المستقرة دون ضمانات تذكر".
وكان معهد الإصلاح الاقتصادي قد أجرى عام 2013 مسحاً على (11) وزارة عراقية، لمعرفة مستوى إنتاج الموظف العمومي في دائرته. وبيّن المسح أن عمل هؤلاء المنتج يكون من 10 إلى 20 دقيقة خلال متوسط 7 ساعات عمل رسمية.
ومنذ عام 2014، والبطالة المقنعة في البلاد ترتفع بشكل كبير، إذ أكد النائب نائب مدير معهد الإصلاح الاقتصادي رحيم أبو رغيف في تصريح سابق، وجود نحو 24 ألف موظف خارج العمل بشكل كلي أو جزئي، رغم استلامهم لرواتبهم الشهرية بشكل كامل بحسب قرار الحكومة الأخير في احتضان الموظفين النازحين في دوائر بديلة، وهذا ما سيدفعهم بالتأكيد إلى عدم إنجاز أي عمل كونهم في غير مواقعهم الوظيفية الطبيعية.
إجراءات تقشفية
ونظرا للظروف الاستثنائية والأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد في السنوات الأخيرة بسبب إرهاب داعش وانخفاض أسعار النفط عالمياً، أعدت وزارة المالية موازنة تقديرية تقشفية تهدف للضغط على الإنفاق الحكومي للحصول على موارد إضافية للموازنة العامة.
وشملت إجراءات التقشف الالتزام بإيقاف تخصيصات الدرجات الوظيفية ضمن الموازنات السنوية منذ العام 2015 وحتى عام 2019، والإبقاء فقط على تخصيص درجات للكوادر الطبية والأمنية.
وزارة التخطيط
يتجه التركيز الحكومي في الوزرات والمؤسسات كافة، صوب أعداد الموظفين العاملين فيها. يقول المدير الإعلامي لوزارة التخطيط والانماء عبد الزهرة الهنداوي في حديث لموقع (ارفع صوتك) إن "الوزارة تسعى الآن إلى بناء قاعدة بيانات لكل موظفي العراق لغرض تسجيلها في صندوق النقد الدولي".
ويضيف أن الغرض من هذه القاعدة هو تسجيل بيانات الموظفين الجدد لخطوات التي يمكن أن تكون أكثر دقة كي تستطيع الحكومة تحديد الخلل ومعالجته.
ولا يستطيع الهنداوي تقديم أية إحصائية رسمية عن عدد الموظفين بالعراق قبل انتهاء العمل بقاعدة البيانات. "جميع الإحصائيات التي وفرت عن أعداد الموظفين في العراق كله، والأرقام الدقيقة ستعلن بانتهاء العمل من البيانات".
وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد أعلن مؤخرا أن عدد الموظفين الذين يتقاضون رواتب من الدولة هو أكثر من أربعة ملايين شخص، ما يناهز 20 بالمئة من القوة العاملة في البلاد التي يقدر عدد سكانها بنحو 36 مليون نسمة.