عندما دخل أبناء عائلة عامر الطائي إلى منزلهم في أيمن الموصل، وجدوا شخصا ميتا ومتيبسا وقد بدأ جسده بالتحلل.
"صرخت طفلتاي خوفا عند رؤية المشهد"، يقول الطائي الذي عاد وعائلته إلى شقتهم القديمة بعد أن كانوا قد نزحوا إلى أيسر المدينة أثناء عمليات التحرير.
ويصف الطائي المعروف بـ"أبو محمد" المدينة التي عاد إليها "كأنها مدينة أشباح، كل شيء يوحي بالموت".
تقطن الطفلتان غفران (12 عاما) وأختها رسل (9 أعوام) مع والديهما في منطقة "رأس الجادة" بأيمن مدينة الموصل. ويخشى أبو محمد (والد الطفلتين) على بناته من مستقبل مليء بالعقد والأمراض النفسية، "فالسنوات الأربع الأخيرة كانت كابوسا مخيفا. كل ما رأته ابنتاي فيها هو القتل والعنف. ماذا سيعلق في ذاكرتيهما؟ وكيف ستعيشان حياتهما؟".
دفعوا ثمن الحروب
وتقدّر أعداد الأطفال المتضررين من الحروب والنزاعات في العراق بالملايين وفي الموصل بمئات الآلاف. وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) فإن "نحو 750,000 طفل في الموصل والمناطق المحيطة بها يكافحون للحصول على الخدمات الصحية الأساسية".
تنمر؟
ويحذر مختصون بعلم النفس من انعكاس المشاهد الدامية التي يتعرض لها الأطفال على بناء شخصيتهم، خصوصا وأن "شخصية الإنسان تتكون في الصغر".
وتقول أستاذة علم النفس في جامعة بغداد شيماء عبد العزيز "ثقافة المجتمع واستقراره يؤثران تأثيرا مباشرا في استقرار الأطفال وسلوكهم سواء الحركي أو الوجداني أو انفعالي".
وتضيف في حديث لموقع (ارفع صوتك) "بما أن مجتمعاتنا غير مستقرة وتعم بها الفوضى بسبب الحروب وما تخلف عنها من دمار ومظاهر دامية أمام أنظار الأطفال، فإن ذلك يجعل من شخصياتهم غير مستقرة".
وتثبت هذه المناظر في ذاكرة اللاوعي، وقد يظهرها الطفل بكل أنواعها في أقرب فرصة، أو قد تظهر في مرحلة الكبر، حيث "يبدأ يقتل ويمارس العنف وينحرف ويكون مستعدا لارتكاب الجرائم".
تلفت عبد العزيز إلى أن مؤشرات مرور الطفل بأزمة نفسية تتمثل بأن يكون "الأطفال منعزلين ومنزوين لا يندمجون بالحياة الاجتماعية. وقد نجد السلوك العدواني ظاهرا في سلوكياتهم، كالتخريب والضرب والسرقة وتحطيم الأشياء العامة".
وقد تصل الحالة إلى أقسى أنواع السلوك العدواني وهو التنمر، عندما لا يكتفي الطفل بالضرب أو الإيذاء بل يبدأ بالعض والتلذذ بالدماء.
ثقافة خاطئة
يروي عامر أن الخوف الحقيقي عند طفلتيه كان أثناء العمليات العسكرية. "طيلة فترة الرمي، لم تنقطعا عن البكاء".
آثار ما حدث لم تمحَ من ذاكرة الفتاتين حتى اليوم، فهما ترفضان أن تناما وحيدتين وتخافان من الظلام وأي صوت مرتفع.
"أثناء فترة الحرب كنا نحتضنهما أنا ووالدتهما ونحاول تشتيت تركيزهما من خلال المزاح أو رواية بعض القصص. اليوم نقدم لهم النصائح بشكل مستمر، نحاول أن نفهمهم إنها مرحلة مرت ولن تعود ويجب ان نكمل مشوار الحياة بشكل طبيعي".
ويحاول ذوو الأطفال المتضررين من الحروب التعامل معهم بأساليب هادئة، لكن بعض الأهالي لا يملكون الوعي والإدراك الكافي حول كيفية التعامل مع هذه الحالات.
ومما يزيد الأمر سوءا، هو اعتبار بعض أولياء الأمور مراجعة الطبيب النفسي عيباً، فيما تنقذ المراجعة المبكرة للطبيب المختص، مستقبل الطفل من الضياع.
وتقول أستاذة علم النفس "التقاليد زرعت في نفوس مجتمعنا مقارنة الجنون بالطبيب النفسي، بل حتى من يدرس علم النفس والطب النفسي ينظر المجتمع له نظرة غير سوية".
"وبدل الذهاب إلى الشعوذة والسحر"، يجب زراعة ثقافة أن مراجعة طبيب النفس لا تختلف عن الطبيب العام وطبيب الأسنان، لأن "أغلب الأمراض النفسية تتحول إلى أمراض بيولوجية".
وتختلف طريقة معالجة الحالات النفسية للأطفال، بحسب ما تعرض له، ولكن بالنهاية "يمكن علاج جميع الحالات".
وتوضح عبد العزيز "في مرحلة ما بعد الصدمة إذا لم يتم احتواء الطفل سيصعب علاجه، الحالة تتطور وتصعب كلما تأخر علاجها، والوقت المثالي هو الأشهر الثلاثة الأولى".
وتتم المعالجة عن طريق البرامج العلاجية والسلوكية، وهذه "لا يمكن حقيقها إلا بجهود كبيرة تنطلق من العائلة وتشارك فيها مؤسسات حكومية ودولية ومجتمعية"، وفقا لعبد العزيز.
البرامج قائمة
وبالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية والمجتمع المدني، تنفذ هيئة رعاية الطفولة، وهي هيئة رسمية تابعة لرئاسة مجلس الوزراء العراقي، برامج تركز على الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال المعنفين جراء الإرهاب، بحسب ممثل وزارة الصحة في الهيئة محمد جبر.
ويقول جبر في حديث لموقع (ارفع صوتك) إن البرامج عبارة عن فعاليات رياضية وفنية ومسابقات وتقديم هدايا، بهدف خلق جو يساعدهم على التفكير بأن الحياة مستمرة، وتخفف الصدمات النفسية التي تعرضوا لها.
وتتابع الهيئة الحالة الصحية للأطفال، لأن الاضطرابات النفسية تؤدي إلى حدوث حالات مرضية، "ونحن نحاول تلافي حصول أو تفشي مثل هذه الحالات"، بحسب ما يوضح جبر.
وتضم الهيئة ممثلين عن جميع الوزارات إضافة إلى ممثل عن منظمة اليونيسف.
وبحسب عضو الهيئة، فإن البرامج المقدمة كانت تهتم أيضا بموضوع "منع تفشي الأمراض ببعد دخول الأطفال إلى مخيمات النازحين، لكنها شملت بخدماتها الأطفال في المناطق المحررة أيضا".
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 001202277365