يتجمع 600 طالب تقريبا تتراوح أعمار أغلبهم من 6-12 سنة، يوم الخميس في ساحة صغيرة،.
يتلى النشيد الوطني العراقي المعتمد في ذلك الوقت.. خلال دقائق يردد الطلبة الصغار كلمات مثل سيف، لهيب، ثورة. بالتأكيد هناك كلمات البعث والرفاق أيضا.
إن كان كل هذا لا يكفي.. فإن مدير المدرسة الذي يرتدي الملابس العسكرية في هذا اليوم يحرص على إطلاق 3-5 رصاصات من بندقيته الكلاشينكوف، تحية للعلم الذي يرفعه طلبة يرتدون ملابس الطلائع، النسخة البعثية من الكشافة.
"كنت في الطلائع، كان يفترض أننا نتلقى تدريبات رياضية وكشفية، في الحقيقة تدريباتنا الرياضية اقتصرت على المسير والهرولة بالطريقة العسكرية، أما التدريبات الكشفية فكانت محاضرات في العقيدة القومية للبعث بنسختها الصدامية"، يقول سامي قنبر، الذي كان طالبا في مدرسة الإمام علي الابتدائية عام 1990 - 1996.
"كل المدارس كانت تفعل الشيء نفسه"، يقول سامي، مضيفا "كنت أرتعب كل خميس، وكانوا يقولون إن الطلائع يجب أن لا يخافوا من صوت الرصاص، تبدد الخوف بعدها فعلا".
خلال الثمانينيات والتسعينيات، كان الطلبة العراقيون يلقنون مبادئ حزب البعث في دروس "التربية الوطنية، التربية القومية".
تلك الدروس كانت إجبارية، والرسوب فيها يعني غالبا أن الطالب (أو عائلته) لا يمتلكون الروح الوطنية الكافية.
"كان هذا رعبا، بدلا من التهديد بالمسطرة الخشبية، كان المعلم يطلب ترديد 16 نقطة من منجزات البعث بعد 1968 ومن يفشل في تعدادها بشكل يرضي المعلم قد ينظر إليه على أنه فشل في إثبات حبه للنظام".
في عام 1998 ابتدع النظام تسمية "يوم النخوة". أجبر ملايين الطلبة على التدرب على حمل واستخدام الأسلحة، كان مشهدا عاديا أن ترى مئات المراهقين يحملون الكتب ورشاشات الكلاشينكوف خارجين من المدرسة متوجهين إلى المنزل.
مجددا، كان من يرفض التدرب يتهم بـ"عدم الإخلاص للنظام".
بعدها أسس النظام قوة عسكرية تسمى "أشبال صدام" يسجل فيها الأطفال الذين تجاوزوا 14 عاما من العمر، لتلقي التدريبات الخاصة بحمل السلاح وتنفيذ مهمات معقدة، منها الاغتيالات.
التخرج من الأشبال كان يعني الإشتراك في ما عرف بـ"فدائيي صدام". المنظمة التي أسسها صدام وقادها ابنه عدي، والمتهمة بجرائم ضد الإنسانية منها عمليات إعدام جماعي لمعارضين، ونساء بحجة ممارسة أفعال لا أخلاقية وقتها.
مع هذا، لم يكن الطلبة الصغار يفهمون فعلا معنى "الفشل في إثبات الوطنية"، وما كان مرعبا أكثر هو "المسطرة الخشبية المغطاة بأنبوب بلاستيكي"، التي كان المعلمون البعثيون يلوحون باستخدامها في حالة الفشل باستذكار الدروس أو في حالة الإخلال بنظام الصف.
أحمد الحسيني روى في منشور طويل بعض ذكريات الدراسة
"دخلت معلمة الجغرافية إلى الصف، كنا في الصف الخامس (11 سنة) بدون كلام، طلبت منا جميعا الوقوف وفتح أيدينا، وبدأت بضربنا ثلاث مساطر في كل يد"، يستذكر المعلم حسنين أحمد يوما "عاديا" من أيام المدرسة الابتدائية.
"كنا نبكي بسرعة، لكن زميلي منتصر لم يبك وقتها، كررت المعلمة ضربه بقسوة شديدة حتى طفرت من عينه دمعة، كان يعاني مشاكل في النطق تجعله محرجا من ترديد الدروس فيتحمل دائما نصيبا إضافيا من العقوبة، لم يعد منتصر إلى الصف بعدها، وجد عملا على عربة يدوية يبيع فيها أسطوانات الغاز"، يروي المعلم.
"استخدم المعلمون خشبة صقيلة من نوع ثقيل، أو خشبة مستديرة محشورة في أنبوب مياه مطاطي، أو مجرد قطعة من سلك كهربائي سميك"، يقول حسنين، "الصفوف الباردة الخالية من الشبابيك كانت تجعل الضرب على الأيدي المتجمدة أكثر ألما".
ويقول المشرف التربوي المتقاعد حامد الطائي إن "ضرب الأطفال كان منهجيا في المدارس، حتى الأهل لم يكن لديهم مشكلة بمعاقبة أطفالهم جسديا، كانوا يظنون أن هذا أفضل لهم تربويا وتعليميا".
تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن 3 من كل أربعة أطفال في العالم يتعرضون إلى العنف من قبل والديهم أو مقدمي الرعاية.
وبحسب دراسات اليونيسيف فإن "مشاهدة العنف أو التعرّض له يقوّض هذه الإمكانات ويؤثّر على صحة الطفل، ورفاهه، ومستقبله. ويمكن أن تدومَ آثارُ ذلك مع الأطفال مدى الحياة".
عام 2001، تسرب أكثر من 20 بالمئة من الطلبة للعمل خارج المدارس.
للمرة الأولى اعترفت وزارة التربية العراقية وقتها بأن "من الصعب اقناع ذويهم المحتاجين بإخراجهم من سوق العمل"، الذي دخلوه مبكرا.
اشترك الجيل الذي درس في المدارس الابتدائية خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات، في المعارك الطائفية التي شهدتها البلاد عامي 2006-2007.
كانت مشاهدة شباب ومراهقين ملثمين يحملون رشاشات وهم يقفون في نقاط تفتيش على الهوية، ويمارسون عمليات الاختطاف والقتل شيئا معتادا جدا في بغداد والمحافظات التي شهدت أعمال عنف طائفية.
لاحقا.. علقت صور القتلى في الشوارع العراقية مع عبارات مديح دينية.
الغالبية العظمى منهم كانت من الشباب 18-30 سنة من العمر.
بعد 2003 حظر العراق العقوبة الجسدية في المدارس، ويتعرض المعلم المخالف إلى عقوبات قانونية. لكن غياب سلطة القانون جعل من تنفيذه متعثرا بشكل كبير.
يقول جاسم مسير (اسم مستعار)، كنت في الصف الثالث المتوسط عام 2010 عندما قدمت متأخرا عن الدوام "وقف المدير ومعاونه أمام باب المدرسة يوقفون الطلبة المتأخرين لكي يعاقبونهم، كانت العقوبة هي الضرب بالمسطرة".
"طالبنا المعاون بجلب أولياء أمورنا في اليوم التالي، ثم قال قبل أن تداوموا في المدرسة يجب أن نقوم بالإحماء قليلا".
يروي مسير "وقفنا في صف ننتظر الضرب، ضرب الطالب الأول بكل قوته ثم بدأ بضرب الآخرين، كنت آمل أنني إذا أصبحت الأخير فستقل قوة الضربة".
لم يحدث هذا، بحسب مسير، تلقى ضربة على فخذه لأنه رفض فتح يده، فثار مسير وقام بضرب المعاون بدوره.
فصل مسير من المدرسة بعدها ولم يكمل الصف الثالث.
العنف تحول بشكل أكبر تجاه المدرسين بعد 2003.
يقول عبد الحسين التميمي، معاون مدير مدرسة متوسطة في بغداد "عام 2010 طلب مني طالب أن أمنحه درجة لا يستحقها فرفضت".
"في نهاية الدوام، وجدت ستة مسلحين يرتدون الملابس السوداء ينتظرونني أمام باب المدرسة، قاموا بجرجرتي أمام الطلاب والاعتداء علي، بالنظر إلى أعمارهم، وكونهم من نفس المنطقة السكنية التي تقع فيها المدرسة، من المحتمل جدا أن يكون أحدهم طالبا سابقا لدي".
طلب عبد الحسين الإحالة على التقاعد "في السابق كنت أسير مع عصاي في المدرسة فيهرب التلاميذ من أمامي، لكن الزمن تغير الآن".