إلى الجنوب من سوق الملح التاريخي، في قلب مدينة صنعاء القديمة، يلف سور حجري دائري الشكل حفرة كبيرة بعمق حوالي خمسة أمتار، هي كل ما تبقى من أطلال كنيسة “القَلِيس” التي بناها في القرن السادس الميلادي لتكون بديلاً عن الكعبة القائد الإثيوبي الشهير أبرهة (تصفه المصادر العربية بالأشرم وهو أبراموس في مصادر أخرى).
كنيسة القَلِيس، المعروفة تاريخياً بـ“بكعبة أبرهة”، ارتبطت بحدث كبير ورد ذكره في القرآن هو قصة “أصحاب الفيل”، في إشارة إلى الجيش الضخم الذي قاده أبرهة إلى مكة لهدم الكعبة.
“عقب غزو الحبشة لليمن سنة 525 (ميلادي)، قام أبرهة بإيعاز من الإمبراطور والكنيسة الرومانية ببناء القليس بطريقة بديعة لصرف العرب عن الحج إلى مكة والتحول إلى صنعاء”، قال علي الذيب، وهو مؤرخ وباحث في التاريخ اليمني والإسلامي.
أضاف الذيب “بعد تشييد هذه الكنيسة توجه أبرهة على رأس جيش كبير لهدم الكعبة في مكة، حيث يذكر القرآن أن الله أرسل عليهم طيرا أبابيل”.
للتبشير المسيحي
يرى الدكتور محمد العروسي، وهو أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية في جامعة صنعاء، أن “هدف الإمبراطور البيزنطي كان جعل مدينة صنعاء مركزاً للتبشير المسيحي في الجزيرة العربية، على غرار الحبشة التي كانت مركزاً للتبشير في أفريقيا”.
“هذا السبب الرئيس لبناء الكنيسة، الفكرة كانت أن يتم تشييد كاتدرائية صنعاء، حيث تشير بعض الروايات إلى أن بناءها تم في الفترة ما بين 530-540م”، بحسب الدكتور العروسي.
الذهب والفضة
ويذكر مؤرخون أن الامبراطور البيزنطي أرسل آنذاك عمالاً إغريق يحملون الفسيفساء والمرمر لتشييد كنيسة القَلِيس، التي بنيت على ربوة يصل ارتفاعها إلى خمسة أمتار، ويحيط بها فناء فسيح يمتد لنحو 200 متر.
“هذه الكنيسة بنيت على غرار الكنائس الكبيرة في الغرب وظلت قائمة حتى هدمت في أيام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور”، قال المؤرخ والباحث في التاريخ اليمني والإسلامي علي الذيب.
ويتفق الدكتور العروسي مع الباحث الذيب في أن “أبرهة بالغ في عمارة الكنيسة وتزيينها وإتقان الزخارف والنقوش التي نفذت على جدرانها وسقفها، مستخدماً في ذلك الذهب والفضة والزجاج والفسيفساء ومختلف أصناف الجواهر".
وأشار الدكتور العروسي إلى أن البلاط المستخدم على أرضيتها وجدرانها كان من الرخام الأبيض.
أضاف “كانت تختطف الأبصار من جمالها المعماري وزخارفها، حسب المؤرخين”.
لكن الدكتور العروسي يعتقد أن غياب الوعي والجهل والنظر إلى هذه الكنيسة من منظور ديني دون مراعاة أنها معلم تاريخي هام، دفع اليمنيين إلى تدميرها نهائياً خاصة بعد دخولهم في الإسلام، الذي ظهر بعد حوالي 100 عام من تاريخ بنائها.
“لم يدرك أحد أن بقاء هذا المعلم الديني هو دليل كبير للعالم على وجود التسامح الديني في اليمن”، تابع الدكتور العروسي.
يعادون التاريخ
يقول حامد القاضي (35 عاماً)، وهو أحد سكان الحي الذي تقع فيه كنيسة القليس بمدينة صنعاء القديمة، “لا يوجد أي اهتمام حكومي بهذا المعلم التاريخي، كما تلاحظ ما تبقى منه تحول إلى مكب للنفايات”.
وأكد القاضي أن غالبية السكان هناك وغيرهم يعادون هذا المعلم لأسباب دينية.
“يؤمنون أن هذا المكان هو ألعن بقعة على وجه الأرض”، على حد تعبيره.
اقرأ أيضا:
عملاقة
ولا يوجد حتى الآن أي مسح أثري أو مخطط تقريبي لهذه الكنيسة، لكن مؤرخين يذكرون بأنها كانت عملاقة على هيئة قبة ضخمة بقطر حوالي 20 متراً.
وقال العروسي “أشار مؤرخون منهم لسان اليمن الهمداني والطبري في القرن الخامس الهجري إلى أن أحد النقوش المكتوبة على باب الكنيسة كان ينص على (بنيت هذا لك من مالك ليذكر فيها اسمك وأنا عبدك)”، في إشارة من أبرهة إلى المسيح.
وأكد الدكتور العروسي الحاجة إلى إعداد دراسة كاملة لهذا المعلم الديني تحديداً، وتحويله عنصر من عناصر الجذب السياحي في مدينة صنعاء القديمة.