كان عصمت الطفل النحيل ذو الخمس سنوات يقف قبل أيام إلى جانب والده أمام ورشة لإصلاح السيارات في مدينة عدن جنوبي غرب اليمن، عندما سقط فجأة على الأرض مغشيا عليه دون حراك.
للوهلة الأولى أصيب والده بالذهول، ثم أخذ يهز الطفل بقوة ويلطم خده بلطف وهو ينادي “عصمت.. عصمت”، لكن عصمت لم يستجب.
حينها بدأ الأب يصرخ بأعلى صوته مذعورا “ساعدونا يا ناس.. ابني مات".
في مستشفى حكومي تديره “منظمة أطباء بلا حدود”، باشر الأطباء بإجراء اسعافات عاجلة للطفل الذي كان لا يزال يتنفس، حيث لاحظوا أن رصاصة راجعة من الجو (طائشة) اخترقت ظهره ومعدته وصولا إلى كليته اليسرى.
استهتار
“وصل إلى المستشفى شبه ميت.. كان أول عمل لإنقاذ حياته استئصال الكلية”، قالت أسهار علي (43 عاما)، وهي والدة عصمت متحدثة عبر الهاتف من المدينة الجنوبية الساحلية على بحر العرب.
أضافت المرأة وهي أم لطفلين “أنا الآن مصابة بفوبيا من أصوات الرصاص، لا أستطيع الخروج من البيت، وطفلي الآخر محمد (7 سنوات) لا يذهب إلى المدرسة منذ أسبوع، أخشى عليه من الرصاص الراجع من الجو".
وأشارت أسهار إلى انتشار ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي في الجو في مدينة عدن منذ سقوطها في مستنقع الفوضى والحرب الدامية التي دخلت عامها الرابع.
“في الأعراس يطلقون الرصاص بالجو، في أبسط خلاف يطلقون الرصاص، حتى عندما تنقل سيارة إسعاف مصابا إلى المستشفى يطلقون الرصاص من أجل أن يفسح المارة وسائقو المركبات لها الطريق”، تابعت المرأة.
اختباء
من جانبها، تقول منى سالم، وهي سيدة يمنية تقطن مدينة عدن الجنوبية، “عندما أسمع إطلاق نار ألجأ إلى أقرب مكان للاختباء من أجل حماية نفسي".
وذكرت أن ابن صديقة لها قضى برصاصة طائشة اخترقت رأسه قبل عام ونصف العام تقريبا.
وفي 20 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، قتل سائق دراجة نارية وسط مدينة الحديدة غربي اليمن، إثر اصابته برصاص حي راجع بعدما أطلق مسلحون وجنود النار بكثافة في الهواء، خلال تشييع جثمان ضابط، حسبما أفاد سكان.
وقتل طفل يمني في محافظة إب وسط اليمن برصاصه راجعة استقرت في قلبه أطلقت من أحد الأعراس القريبة من المنطقة مطلع أيلول/سبتمبر 2017.
وسجل مقتل طفل في آذار/مارس 2017 بمدينة صنعاء القديمة بالسبب ذاته.
ويموت عشرات اليمنيين سنويا في المدن المكتظة بالسكان، بسبب الرصاص الراجع من السماء، بينما يظل مرتكبو تلك الجرائم غالبا مجهولين.
انفلات
وتشهد عدن انفلاتا أمنيا كبيرا بعد قرابة ثلاثة أعوام من استعادتها من أيدى الحوثيين، وهي أكثر المدن اليمنية تسجيلا لضحايا الرصاص الطائش.
وتقول السلطات إنها سجلت خلال الأشهر الثمانية الأخيرة من العام الماضي حوالي 82 حالة إصابة ووفاة بسبب الرصاص الراجع من الإطلاق العشوائي في الهواء.
وحسب تلك الاحصائيات تسبب الرصاص الراجع بوفاة 20 شخصا، بينهم 14 طفلا وخمس نساء، بالإضافة إلى إصابة 62 آخرين، لكن مصادر طبية وأمنية تعتقد أن هذا الرقم “لا يشكّل سوى 20 بالمئة من إجمالي الرقم الحقيقي للإصابات".
وأكد الدكتور جمال اسماعيل، وهو مدير عام مكتب الصحة العامة والسكان في عدن، “نتوقع أن الرقم الحقيقي يتجاوز ثلثي المعلن. معظم الحالات لا يبلغ عنها للأسف".
ويتفق في ذلك الدكتور حسني منصور، وهو طبيب في مستشفى تديره منظمة أطباء بلا حدود، قائلا إنهم كثيرا ما يستقبلون حالات خطيرة لضحايا من هذا النوع. لكن مصدر أمني في مدينة عدن، فضل عدم ذكر اسمه، قال إن هناك مبالغة في تقدير حجم الظاهرة.