مع تراجع حضور الدولة على مستويات عدة بعد انهيار النظام العراقي السابق، تصاعد دور قوى خارج الدولة وقانونها الذي يحكم حياة المواطنين.
ومن بين تلك القوى الصاعدة النفوذ بعد 2003، كانت العشائر التي ما لبثت أن دخلت في صدام ليس مع القانون فحسب، بل بين بعضها البعض في صراع مسلح واسع على النفوذ في مناطق جنوب البلاد الغنية، وعلى قضايا اجتماعية وسياسية في مناطق أخرى.
و"بهدف احلال السلم المجتمعي في عموم محافظات البلاد"، أعلنت وزارة العدل العراقية، "انطلاق مشروع التحكيم العشائري ودخوله حيز العمل".
عوارف؟
وبحسب بيان رسمي، فسيكون "مشروع التحكيم العشائري بإشراف وزارة العدل وباعتماد محكّمين عشائريين (عوارف) من جميع المحافظات".
واستدرك البيان أن هذه الخطوة تأتي في "سياق مذكرة التفاهم الخاصة بالتحكيم العشائري والموقعة مع وزارة الداخلية من أجل ترسيخ أسس القانون وإشاعة ثقافة التسامح في حل النزاعات وليس أن تكون بديلاً للقانون".
ما الذي يعنيه هذا؟
هل هذا اعتراف بأهلية العشائر على الدولة؟
وما معنى أن تكون بوابة الدولة المسؤولة عن القانون (وزارة العدل) هي من يقوم بذلك؟
تلك أسئلة باتت طبيعية مع تراجع قوة الدولة، ومع تحوّل قوى اجتماعية وسياسية ومسلحة، بديلاً عن القانون، حتى وإن نفت وزارة العدل ذلك.
واعتماد هذا المبدأ سيؤدي إلى "سيادة الرأي العشائري على الرأي القانوني، وبالتالي سيضعف تطبيق القانون وسيلجأ الناس إلى العشائر بدل المحاكم وهذا مؤشر خطير يهدد الوضع العام في البلد وربما يؤدي إلى ضياع الحقوق"، يقول الخبير القانون علي جابر التميمي.
ومع أن وقائع تواصلت على مدة أعوام توضح تأثير العشائر على الأمن في مناطق البصرة وشرقي العمارة وغيرها ممن انخرطت في أعمال مسلحة، غير أن وزارة العدل تؤكد أن "المحكمين العشائريين (العوارف) يعدون صمام أمان للمجتمع، وسيكون لهم دور كبير في تدعيم الأمن وإحلال السلم المجتمعي".
"بلد عشاير" لا بلد قانون
لكن العشائر تعمل وفق الاجتهادات والآراء التي تناسبها وتستمد من أعرافها ومن الناحية القانونية لا يمكن قبول هذه الفصول العشائرية كبديل عن المحاكم، يوضح التميمي في حديث إلى "ارفع صوتك"، فهذا "وضع سيؤدي إلى إشاعة الفوضى وضياع الحقوق والتناحر".
وحيال هذه التوجهات "التي تعود بالبلد إلى الوراء"، يقول الخبير القانوني، مؤكدا "سيؤدي إعطاء التحكيم العشائري صفة قانونية، إلى تعطيل القوانين النافذة ويحوّل البلد إلى بلد عشاير وليس بلد قانون".
دوافع انتخابية
اللجوء إلى العشائر في حل معضلات جوهرية تواجه الدولة، يمثّل "سقوطاً مخجلاً للقانون"، كما يقول الناشط في مجال حريات التعبير مصطفى ناصر.
إلا إن "هناك ما هو الأخطر" وراء خطوة وزارة العدل، يوضح ناصر، فهناك "نوايا انتخابية في هذا الإعلان، إذ أن معظم الكتل السياسية تتوجه صوب العشائر لكسب الأصوات، وهذا يمثل أحد الأساليب الدعائية ويتعارض حتى مع قانون العشائر الذي أقرّه البرلمان العام الماضي".
واعتماد وزارة العدل التي تعد بوابة الدولة المسؤولة عن القانون، للتحكيم العشائري "يسجل نكوصاً آخر في سلسلة نكوصات اجتماعية وأخلاقية وسياسية عراقية، فالأعراف العشائرية في غالبيتها تتناقض مع القوانين والأنظمة والتعليمات في الدولة". يخلص الناشط ناصر.
وظلّت القوانين العراقية بمجملها مدنية، على الرغم من خضوعها للقوة الحاكمة في أحايين كثيرة، كما فعل النظام الدكتاتوري السابق حين "أدخل جملة صياغات على الدولة وقوانينها تنسجم وشموليته، لكنها بقت تتعامل مع مجتمع مدني لا يسمح للعشيرة أن تتخطى حدود تلك القوانين"، يوضح مصطفى ناصر.
العشائر مؤسسة موازية للدولة
إقرار وزارة العدل مبدأ التحكيم العشائري "إقرار من قبل مؤسسات الدولة بالسلطات الموازية التي تتنافس معها في فرض السيطرة على المجال العام، بل هي تعني هشاشة الدولة في العراق"، بحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكوفة، الدكتور أياد العنبر.
وظلت الدولة العراقية المعاصرة منذ تأسيسها 1921، تشهد صراع ثلاث سلطات للسيطرة على المجتمع وهي: سلطة مؤسسات الدولة، سلطة رجل الدين، وسلطة رجل العشيرة.
وفي حين يبرز العنبر سياقاً اجتماعيا تعايشت فيه تلك السلطات وتنافست بفرض قيمها على المجتمع، فإنه يضع معادلة مهمة: "كلما ضعفت سلطة مؤسسات الدولة المعنية باحتكار العنف المنظم كلما ضعفت شرعية الدولة، وسمحت للسلطات الأخرى بفرض هيمنتها وشرعيتها على المجتمع".
اللافت أن التحكيم العشائري لا يحتاج إقرارا من قبل وزارة العدل فهو قائم على أساس القبول الطوعي بالتحكيم في الخلافات والنزاعات العشائرية، لكن الموضوع "يمكن تبريره بفقدان الرؤية نحو بناء دولة لدى القيادات السياسية، فهي تنظر للموضوع من خلال تحقيق مكاسب انتخابية على حساب القانون"، يشدد العنبر .
ويتفق الأكاديمي في جامعة الكوفة مع رأي الناشط مصطفى ناصر في مغازلة وزارة العدل للعشائر، منوها إلى أن "الشخصيات السياسية والقيادات الحكومية تعمل بمنطق ترسيخ بقائها بالسلطة من خلال كسب ودّ الشخصيات العشائرية لتوسيع قواعدها الانتخابية".