في ذروة قوته، كان تنظيم داعش يسيطر عل أراض تكاد مساحتها تساوي مساحة بريطانيا، ويسكنها حوالي 12 مليون شخص.
بين سنتي 2014 و2017، تحكم التنظيم في حوالي 100 ميل من الساحل الليبي، ومناطق شاسعة في العراق وسورية ونيجيريا والفيليبين، ومناطق أخرى في 13 دولة.
كيف أدار التنظيم المتطرفة كل هذه الأراضي التي أعلنها عليها في نهاية حزيران/يونيو 2014 "خلافته"؟
حصلت صحفية نيويورك تايمز الأميركية على 15 ألف وثيقة تابعة للتنظيم، جمعتها مراسلتها في الموصل بعد استعادتها من القوات العراقية.
جمعت الوثائق من مقرات داعش ومراكز الشرطة والمحاكم الشرعية ومعسكرات التدريب ومنازل "الأمراء" في ثاني أكبر مدينة عراقية.
وبخلاف الاعتقاد السائد بأن داعش كان يعتمد بالأساس على مصادر تمويل خارجية، أو حتى عائدات النفط، كشفت الوثائق أن قوة داعش الحقيقية كانت في تنويع الربح من "الاقتصاد المحلي" الذي يرتكز في مجمله على المبادلات الزراعية والتجارية.
أدار داعش هذا الاقتصاد وفق بيروقراطية محكمة. فبعد أسابيع قليلة من احتلاله المدينة، أمر كل الموظفين الحكوميين بالعودة إلى مقرات عملهم واستئناف مهامهم اليومية بالنظام والتراتبية نفسها التي اشتغلوا بها سابقا.
باختصار، استثمر داعش هيكل الدولة العراقية لإدارة "خلافته". وأعد عناصره لوائح لتسجيل الحضور اليومي للموظفين. وتوعدوا بالعقاب كل من لم يلتحق بعمله.
وسرعان ما عاد موظفو البلدية إلى الشارع لردم حفر الطرقات، وصباغة ممرات الراجلين، وإصلاح خطوط الكهرباء.
استأنفت كل المؤسسات الحكومية عملها، سوى أنها هذه المرة صارت تحمل اسم "ديوان": ديوان الزراعة، ديوان التعليم، ديوان الصحة...
"لم يكن لنا خيار آخر سوى العمل"، يقول محمد ناصر حمود، الموظف في مديرية الزراعة.
"كنا نؤدي العمل نفسه الذي تعودنا عليه. فقط هذه المرة، صرنا نعمل لدى منظمة إرهابية".
بيروقراطية السجلات الرسمية
تحقق فريق بحث من نيويورك تايمز من صحة الوثائق التي تم تحليلها تباعا على مدى 15 شهرا، لمعرفة كيفية عمل "الدواوين" الجديدة.
وثق التنظيم كل ما يتعلق بأنشطة إداراته بشكل رسمي. كل وثيقة كانت تحمل خاتم "الدولة الإسلامية".
كل شيء كان مسجلا لدى داعش: عقد بيع لأرض بين جارين، مخالفة قواعد اللباس، وحتى بيع طن طحين.
كانت هناك مكاتب تجري فحوصا للتأكد من أن المقبلين على الزواج قادرون على الإنجاب. وأقيمت مكاتب لمنح شهادات ميلاد، ومكاتب لتنظيم شؤون المرور.
كان داعش يريد أن يقدم نفسه كدولة.
تحكمت هذه "الدولة" في كل مناحي الحياة. تظهر الوثيقة أسفلة مذكرة توقيف ليافع يبلغ 14 عاما تم إيقافه بتهمة "الاستهزاء أثناء الصلاة".
عثر على الوثيقة في منزل في بلدة تلكيف التابعة لمدينة الموصل. حول الشاب إلى "ديوان الحسبة" وسلمت الوئاثق المتعلقة به إلى قسم الممتلكات الشخصية.
الاستيلاء على الأراضي الزراعية
حصد داعش مداخيل ضخمة من النشاط الزراعي. أجر "ديوان الزراعة" الجديد الأراضي المملوكة للحكومة للفلاحين.
كان التنظيم يأمر الموظفين بالإسراع في معاملات التأجير أو تحويل الملكية. ما كان يستغرق بالعادة أسبوعا صار ينجز في نصف يوم.
بعد فترة، صار منح الأراضي يتعدّى نطاق الأراضي الحكومية ليشمل الأراضي المملوكة للأقليات (شيعة، أيزيديين، مسيحيين، صابئة...). أصدر التظيم دليلا من 27 صفحة ينظم هذه العملية.
وتولى "ديوان الغنائم" نهب الأراضي والمنازل: صودرت الطاولات والأسرة والمفروشات. ووصل الأمر إلى نهب الشوكات والملاعق!
ضرائب قاتلة!
عثر فريق البحث على تقارير مالية توثق عائدات بأكثر من 19 مليون دولار أميركي، حصل عليها داعش من المبادلات الزراعية.
فرض داعش دفع إيجار شهري على المزارعين لقاء إعطائهم الأرض وضرائب على الحصاد نفسه.
وإن كانوا فقراء يتوجب عليهم مشاركة التنظيم في أرباح الأراضي التي منحهم إياها.
وفرض داعش ضرائب طرقية مقابل نقل المحصول إلى المخازن وضرائب على التخزين.
أما بالنسبة للمنازل، فقد ألزم السكان دفع 2000 دينار عراقي شهريا (حوالي دولارين) لجمع القمامة، و10 آلاف دينار (ثماني دولارات) لكل 10 أمبيرات من الطاقة الكهربائية و10 آلاف أخرى للمياه.
وألزم التنظيم الراغبين بالحصول على هاتف أرضي بدفع 15 ألف دينار (12 دولارا) و5000 دينار شهرياً لأغراض الصيانة.
ومن الضرائب التي تدر عائدا وفيرا لخزينة داعش ضريبة الزكاة التي أصبحت إجبارية تلزم الشخص بدفع 2.5 في المئة من الأموال المفروض أداء الزكاة عنها.