عام 1998 كان عقيل البطاط يبلغ من العمر 22 عاما. وقد أكمل للتو خدمته العسكرية الإلزامية.
"كنا جميعا نخدم في سرية واحدة: مسلمون ومسيحيون ويزيديون وصابئة، كنا نأكل من صحن واحد". يقول عقيل.
لكن الأكل في صحن واحد ليس كافيا للتعارف كما يبدو، "لم أكن أعرف ماذا تعني كلمة أيزيدي، وكنت أعرف عن الصابئة أنهم صاغة ممتازون". يضيف عقيل.
في ذلك الوقت كان الصابئة موجودين بشكل كبير في بغداد ومحافظات الجنوب قبل أن تقل أعدادهم بشكل كبير الآن.
ينقل عقيل، وهو من مواطني محافظة ميسان (العمارة) جنوب العراق قصة شاهدها في طفولته.
"توفي جارنا الصابئي في نهاية حرب الثمانينيات تاركا زوجة وثلاثة أطفال، شاهدت زوجته تقلب سمكة كبيرة في سوق السمك القريب، كان سعرها يعادل مرتب العسكري لثلاثة أو أربعة أشهر عام 1996، لم تشترها جارتنا ومضت في طريقها".
يكمل عقيل "صاح عليها بائع السمك مطالبا إياها بالشراء: أنتم صابئة، وقد لمستي السمكة ونجستيها، لن يشتريها أحد بعد الآن".
اضطرت المرأة إلى دفع كل ما تملك ثمنا للسمكة وأخذتها وهي تبكي.
"لم يكن المجتمع خاليا من الطائفية"، يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد حسن المرسومي.
"الطائفية بين السنة والشيعة كانت مستترة فقط وقصص المجالس الخاصة لدى السنة والشيعة عن بعضهم البعض، ولدى المسلمين وغيرهم عن بعضهم البعض، شكلت مادة شحن قوية للصراعات الطائفية لاحقا". بحسب المرسومي.
أوهام قاتلة
لا يفصل بين الأعظمية والكاظمية (أقدس مدينة شيعية في بغداد) سوى جسر طوله أقل من كيلومتر، لكن المفاهيم الخاطئة كانت تسود بين الطوائف على الرغم من هذا.
"كل هذا شكل مادة ممتازة للشحن الطائفي بعد 2003، من الصعب أن تقنع انسانا بقتل آخر، لكن إذا كان القاتل معبأ بهذه القصص منذ طفولته، ستكون العملية أسهل". يشرح د. المرسومي.
يقول الباحث الاجتماعي أحمد الشيخ ماجد إن "بناء أي دولة، لابد أن يرافقه صناعة هوية وطنية. صناعتها بشكل ناجح يعني نجاحا حتميا لـفكرة الدولة، وغيابها هو معبر واضح عن فشل هذه الفكرة ".
يضيف الشيخ ماجد "لم تكن الطائفية في زمن صدام حسين معلنة بشكل واضح يأتي على شكل تصريحات تلفزيونية، لكنها واضحة للمتابع وفي وجدان الآخر، المختلف عن صدام، حيث كانت موجودة في أروقة المناصب العليا، وفي التمثيل السياسي، وبعد 1991 صارت الطائفية رأسمالا سياسيا غير معلن للسلطة، بعد تبني صدام حسين الحملة الإيمانية".
تبنى نظام صدام عام 1993 ما يعرف بـ "الحملة الإيمانية" التي حاولت تثبيت الهوية السنية للعراق، متخليا (عمليا) بشكل كامل عن المبادئ العلمانية لحزب البعث.
حتى أن صدام ادعى أن مؤسس الحزب ميشيل عفلق اعتنق الإسلام قبل وفاته، وأقيم لعفلق ضريح كبير حمل طرازا إسلاميا، وأصبح اسمه رسميا (أحمد ميشيل عفلق).
قبل 2003
كان أبناء عشيرة صدام يتسلمون المناصب الأمنية في الأجهزة الحساسة، ضباط جهاز الأمن الخاص مثلا كانوا جميعا من أقارب صدام، وكانت مسؤوليتهم تأمين الرئيس وقصوره. ضابط في حماية صدام برتبة صغيرة، كان أكثر نفوذا من أي وزير من خارج العشيرة.
يأتي بعد العشيرة، التراتب الطائفي في سلم تدرج اجتماعي معقد. وبالتأكيد هناك فروق حتى بين سكنة المحافظات الواحدة، القرى مثلا مفضلة على المدن، وهناك عشائر سنية "عوقبت" في فترات معينة، مثل الدليم في الأنبار والجبور في الموصل والشرقاط.
بالنسبة للشيعة، كان مسموحا لهم العمل في الأجهزة الأمنية الأقل شأنا، مثل الشرطة، والرتب الصغيرة في جهاز الأمن العام، ورتب صغيرة في جهاز المخابرات، والمراتب الصغيرة والمتوسطة في حزب البعث.
بالطبع هناك استثناءات، هناك وزراء شيعة وأعضاء قيادة قطرية وقادة عسكريون من الشيعة، لكنهم أقلية.
في التسعينيات أعدم النظام اللواء بارق الحاج حنطة، الضابط الشهير في حرب الثمانينيات مع إيران، بسبب خلاف أججه الانسحاب العراقي من الكويت.
أعدم صدام كذلك العشرات من القياديين السنة، منذ 1979 حينما حصلت مجزرة "قاعة الخلد" الشهيرة، والتي انتهت بإعدام العشرات من قادة الحزب، من بينهم عبد الخالق السامرائي الذي كان يوصف بـ"منظر الحزب".
بعد 2003
منطقة الحرية، شمال بغداد، واحدة من المناطق التي شهدت صراعا طائفيا طاحنا عام 2006.
قبل 2003، كان السنة والشيعة يعيشون معا في المنطقة، أغلبية السنة كانت من عشيرة المشاهدة، تميم الذين كانوا يسكنون على أطراف بغداد الشمالية، فيما يرجع أغلبية الشيعة إلى عشائر جنوبية، بالإضافة إلى كرد فيليين، وأقلية من "الكواظمة" أي المنحدرين من مدينة الكاظمية القريبة.
المشاكل كانت تحدث دائما، ليس لأسباب طائفية، لكن طرفي المشاكل يكونان عادة من طائفتين مختلفتين.
عام 2005، بالتحديد في يوم 31 آب / أغسطس حدث التدافع الكارثي في جسر الأئمة. قتل في التدافع نحو 950 شخصا، غرقا أو نتيجة الاختناق.
قيل وقتها إن إشاعة بوجود انتحاري قرب الجسر دفعت آلاف الزائرين لمرقد الإمام الكاظم إلى التدافع في محاولة للهرب، ومن ثم السقوط في النهر والاختناق.
كان أشخاص يرتدون عباءات عربية رجالية يقفون على رأس الأزقة الضيقة لمنطقة الحرية الثالثة (الجزء الشمالي من مدينة الحرية) تحت العباءات كانت الأسلحة الأوتوماتيكية واضحة.
فيما بعد، بالتحديد بعد تفجير المرقدين في سامراء عام 2006 قاد هؤلاء الرجال معارك طاحنة ضد آخرين ينتسبون إلى جيش المهدي، الميليشيا الشيعية القوية جدا آنذاك.
فاز جيش المهدي في تلك المعارك، وأجلي سنة الحرية حتى آخر واحد منهم.
بعدها.. بيعت دور السنة لمهجرين شيعة نزحوا من مناطقهم التي أصبحت سنية بالكامل هي الأخرى.
يقول الباحث أحمد الشيخ ماجد "ظهور الطائفية بعد 2003 هو نتيجة حتمية وطبيعية أفرزها الحكم الاستبدادي البعثي طيلة الـ 35 سنة، والأحداث الطائفية التي حدثت بعد 2003 هي صراعات بين قوميات وطوائف تحاول إنتاج الهوية على إرادتها ولونها وخصوصيتها. وهذه نتائج فشل النظام السابق في صناعة هوية وطنية على مستوى المجتمع والدولة، تتخطى الخلافات بين الهويات الفرعية"، بحسب الباحث.
"صراع الهويات الفرعية" كان واضحا جدا، الدور في المناطق الشيعية كانت تحمل الرايات الخضراء والحمراء والسوداء (إشارة إلى الرايات التي حملها جنود الحسين بن علي في كربلاء)، أما المناطق المختلطة في كركوك فقد كانت تزدحم بالأعلام الكردستانية والتركمانية والشيعية.
وبعد 2006 صار من النادر جدا أن يسمي العراقيون أبناءهم بأسماء لا تدل على هوياتهم الطائفية أو الإثنية مع أنه لأعوام، امتنع الذين يحملون أسماء سنية واضحة مثل (عمر، بكر، عثمان) عن الدخول إلى المناطق الشيعية، وامتنع الشيعة الذين يحملون أسماء (سجاد، كرار، حيدر) عن دخول المناطق السنية.
رسمت الجدران الكونكريتية حدودا للطوائف في بغداد، وفي المحافظات كان الأمر مشابها.
بعد 2011، تحسنت الأمور قليلا، رفعت الجدران الكونكريتية، وعادت الكثير من المناطق إلى الاختلاط الطائفي.
لكن العراق خسر أكثر من مليون مسيحي هاجروا إلى خارجه، ومثلهم تقريبا من الصابئة، وعشرات آلاف الإيزيديين. خاصة بعد مرحلة سيطرة داعش على المدن، كان هؤلاء "خسائر جانبية للصراع" لكنها خسائر فادحة جدا.
العشيرة/المذهب
الآن، تسيطر ثنائيات العشيرة – المذهب بشكل مشابه لما كان عليه الحال قبل 2003، خاصة وأن أغلب المرشحين للانتخابات البرلمانية المقبلة يعتمدون بشكل كبير على هذه الثنائية.
يعيش السنة العراقيون منذ 2006 كـ"متهمين"، وتصر الحكومات المتعاقبة على تجاهلهم، أو على الأقل هذا ما يشعرون به.
لكن على الأرض، تعاني المدن السنية والشيعية بشكل متساو تقريبا من نقص الخدمات، وفساد المسؤولين المحليين، والفقر. مع هذا لا تظهر هذه المواضيع في بؤرة الإثارة كما تظهر مواضيع الصراعات الطائفية.
ويحذر الكثيرون من أن "استثمار" السياسيين العراقيين في التحشيد الطائفي سيؤدي بالأوضاع إلى مزيد من الانفجار.
وقد يكون الصراع الاجتماعي هذا أخطر مما كان عليه قبل 2003، على الأقل وقتها، لم تكن هناك دماء سالت بهذه الغزارة.