تبلغ تكلفة بناء مدرسة متكاملة التجهيزات، مع رواتب كادرها لمدة سنة في بلد مثل العراق نحو 1 مليون دولار.
في المقابل، تبلغ كلفة إطلاق صاروخ توماهوك، 1-2 مليون دولار.
في معركتها الأخيرة ضد داعش في العراق وسورية، أطلقت الولايات المتحدة عشرات صواريخ التوماهوك التي مزقت مقرات التنظيم وقتلت الكثير من عناصره.
قد تكفي موازنة التوماهوك وحدها لبناء مدارس نموذجية في جميع المناطق التي احتلها التنظيم في البلدين.
هذه هي المقاربة التي يحتج بها الكثيرون هذه الأيام.. الاستثمار في بناء المدارس سيوفر كلفة الصواريخ التي ستطلق لاحقا على المناطق الخالية من المدارس.. وسيوفر الكثير من المعاناة أيضا.
لكن لاتبدو هذه المقاربة صحيحة دائما.
أسامة بن لادن، هو ابن لعائلة غنية، أرسلت الكثير من أبنائها إلى المدارس الأجنبية.
كما أن نائبه، الظواهري تخرج من كلية الطب، فيما يحمل عبد الله عزام، شهادة دكتوراه في الشريعة.
البغدادي، خليفة تنظيم داعش الهارب، يحمل هو الآخر شهادة دكتوراه في العلوم الإسلامية.
الكثير من عناصر الخلايا الجهادية النائمة في أوروبا، متعلمون، أو على الأقل يعيشون في بيئات تدعم التعليم.
"لا يمكن القول إن داعش هو نتيجة الجهل فحسب، هذه مبالغة في التسطيح"، يقول عثمان أحمد اللواء المتقاعد في الجيش العراقي.
اللواء عثمان عمل لسنوات في مكافحة الإرهاب، وترأس خلايا أمنية في مناطق ساخنة مثل صلاح الدين والأنبار.
يقول اللواء "صحيح أن غالبية مقاتلي داعش لم يكملوا تعليمهم، لكن في المناطق التي قدموا منها، هذا أمر طبيعي للغاية، وكان هكذا منذ زمن، هناك أناس جيدون وهناك أناس سيئون"، ويتساءل "حتى في الجيش العراقي والحشد الشعبي الأغلبية لم يكملوا تعليمهم، لماذا لم يشاركوا في عمليات إرهابية برأيك؟".
يرى العسكري المتقاعد أن التطرف سببه "الوضع الاقتصادي السيئ" في المرتبة الأولى "لو كانت هناك أعمال لانشغل الشباب بها وتركوا الإرهاب، لا توجد وظائف وترك الناس الزراعة، بالتأكيد سيوافقون على العمل مع الشيطان لو دفع لهم مالا كافيا".
في الحرب الأخيرة التي شهدها العراق، أتى أغلب مقاتلي الجانبين من مناطق ريفية فقيرة، أو من مدن فقيرة جدا.
يدفع داعش رواتبا قليلة، لكنها ممتازة بالنسبة لعناصره، وكافية لتأمين المعيشة.
لكن هناك مناطقا كثيرة فقيرة في العراق.
بعضها أفقر من القرى ذات الأرض الخصبة والمياه الوفيرة، التي انطلق منها المسلحون لاحتلال الموصل وثلث مساحة العراق.
كما أن هناك مناطق مثل حديثة في الأنبار، والضلوعية والعلم في صلاح الدين، مجاورة لمناطق أولئك المسلحين لكنها قاومتهم بضراوة، وهي من نفس الظروف والنسيج الاجتماعي والقرب الجغرافي.
يقول ميسر الحمداني، وهو مسؤول محلي في سهل نينوى إن "مناطق السهل كانت مخترقة منذ سنوات، حتى قبل سقوط النظام".
الحمداني، الذي كان عضوا في المجلس المحلي لمنطقة البعاج الحدودية، يقول إن "المناطق الرخوة البعيدة عن سلطة الدولة، احتلت بالكامل من قبل التكفيريين، وأي معارض لهم كان يتم التعامل معه بقسوة".
من هذه المناطق، بحسب الحمداني، انتشر المد التكفيري والتطرف.
"النشاطات غير الشرعية مثل التهريب والجريمة المنظمة أغرت الكثير، وتم تهديد الآخرين بالموت في حالة عدم التعاون".
يبدو الخيار منطقيا، الموت فقيرا أو الحياة مع المال.. وفي كلا الحالتين لا توجد قوة للدولة لكي تعاقب أو تكافئ.
يقول عمر الجغيفي، أحد القادة العشائريين المحليين في حديثة "حينما كان داعش يحاصرنا، أصبحنا شبه جزيرة يحيط بنا مقاتلو التنظيم من كل الجهات".
المنفذ الوحيد لحديثة، الواقعة غرب الأنبار كان الجو، كانت المساعدات الشحيحة تأتي بصعوبة مع قوات الجيش.
"أصبح سعر كيلوغرام الطحين خمسة عشر ألفا (12 دولار)"، يقول الجغيفي "رأيت أطفالا يجمعون الأعشاب ليأكلوها، وسمعت أن أبا وعد بتزويج ابنته مقابل مهر 50 كيلوغراما من الطحين ومثلها من الرز".
كانت قوات الجيش ضرورية لحماية المدينة مع المتطوعين من أهلها، لكن كانت هناك عمليات تربح من المجاعة التي ضربت حديثة.
"ندفع أحيانا مبلغ 2000 دولار لنقل الفرد جوا إلى بغداد، كان المرضى يموتون دون علاج".
لم تكن هناك سلطة دولة، في الأيام الأولى لسقوط الأنبار انسحب الجيش من حديثة لكنها لم تسقط، كما أن الخضوع لداعش كان يمكن أن يكون مربحا، وربما تفادت المدينة مجاعة عامين، لكن أهلها البسطاء، بغالبية من غير المتعلمين، قرروا المقاومة.
"لا يمكن أن يعلمنا أغراب أصول ديننا، ليس من الممكن أن نتحول إلى قتلة لضيوفنا، كما أن علاقاتنا بالدولة قوية، أكثرنا متطوعون في الجيش والشرطة، وكانت داعش لتقتلنا جميعا لو أنها نجحت في دخول المدينة".
طوال عامين، فشلت كل محاولات داعش باختراق تحصينات مقاتلين عشائريين من قبيلتي الجغايفة والبو نمر، كان طرفا القتال أحيانا أولاد عم ينتمون إلى نفس الأصول البعيدة.
"ما الذي يجعل أشخاصا يتطوعون مع داعش؟ الجواب صعب ومعقد" يقول خبير الاجتماع أحمد الشيخ.
"تلعب داعش على المناطق الرخوة، الجهل والفقر، وأيضا الإغراء بالأموال والتهديد بالقتل أو الاغتصاب، كما أنهم يمارسون لعبة غسل الدماغ ببراعة".
"في حالة حديثة والعلم والضلوعية، عرف السكان ان انتصار داعش يعني موتهم السريع، ففضلوا المقاومة، لو كان التنظيم أقل غرورا ونجح بتطمينهم وقدم تنازلات، من يدري ما كان يمكن أن يحدث". يضيف الشيخ.
بحسب الشيخ "موازنات الحروب مهولة، والحرب لاتحقق نتائج اجتماعية إيجابية، والتنمية الإقتصادية والاجتماعية مهمة، لكن إقناع الدول بصرف موازناتها على التنمية بدلا من التوماهوك مكلف، بالتالي نتائج التوماهوك أسرع".