"إحياء العبودية قبل قيام الساعة".
كان هذا عنوان على الصفحة الرئيسية لمجلة "دابق" التابعة لداعش.
العنوان كتبه التنظيم متفاخرا: "بعد أسرهم، قسم الأطفال والنساء الأيزيديون حسب الشريعة على مقاتلي الدولة الإسلامية الذين شاركوا في عمليات سنجار، بعد نقل الخمس إلى سلطة الدولة".
والآن بعد أكثر من عامٍ على ذلك العنوان، ألقت أجهزة الأمن العراقية القبض على مسؤول "السبايا" في تنظيم داعش خلال سيطرته على مدينة الموصل، وسيتمّ سوقه إلى العدالة.
كان ذلك العنوان أول اعتراف رسمي من داعش بعمليات الاستعباد الواسعة التي تعرضت لها الطائفة الأيزيدية، بعد سيطرة التنظيم على معقلها في جبل سنجار (قرب الموصل) صيف سنة 2014.
"هذه، على الأرجح، أول وأكبر عملية استرقاق لعائلات مشركة منذ التخلي عن هذا الحكم الشرعي"، يقول كاتب داعش المجهول.
ويتابع بلغة إنجليزية متقنة: "العائلات الأيزيدية تباع الآن من جنود الدولة الإسلامية كما باع الصحابة المشركين قبلهم".
يا للصدمة!
صدم داعش العالم. في أقل من ثلاثة أيام، استعبد أكثر من 6400 أيزيدي معظمهم من النساء والأطفال.
وصدم المسلمين أيضا!
وضعهم مجددا أمام حقيقة محرجة: لم يحرم الإسلام العبودية، بل إنها ممارسة منظمة بأحكام شرعية.
ومع إلغاء العبودية في جميع أنحاء العالم، تحول عدم تحريمها إلى شبهة تثقل كاهل الإسلام.
تاريخيا، احتل العبيد والإماء مكانة هامة في المجتمع الإسلامي، خاصة مع توسع الدولة الإسلامية عبر "الفتوحات" في عهد الدولتين الأموية والعباسية
وتحكي المصادر أن الخليفة العباسي المتوكل (247-205 هـ) كانت في قصره أكثر من 4000 جارية. وكان "يطأ الجميع"، ينقل جلال الدين السيوطي في "تاريخ الخلفاء".
الخليفة المتوكل نفسه ابن جارية. ومثله بعض أعظم الحكام المسلمين: هارون الرشيد، المأمون، عبد الرحمن الداخل.
تبريرات جديدة قديمة
أرغم سبي الأيزيديات الفقهاء المسلمين على الخروج من صمتهم. أدانوا جميعا ما قام به داعش.
لكن لا أحد، باستثناء قلة قليلة، ناقش الأسس الشرعية التي برر بها التنظيم عمليات السبي الواسعة.
أخذ الفقهاء على داعش أنه سبى "بغدر وليس بحرب معلنة يتجهز لها الطرفان"، وأنه سبى نساء عربيات مع وجود خلاف فقهي عريض حول سبي العربية. وقال بعضهم إن داعش سبى و"لا يوجد إمام للمسلمين يقدر مصالح ذلك ومفاسده".
توقف الفقهاء هنا. فعندما انتقل النقاش إلى صلب موقف الإسلام من السبي والاسترقاق، اكتفوا بتكرار التبريرات الفقهية القديمة.
شددوا على أن الإسلام يأت بالرق أو يحث عليه. بل، تعامل مع عادة قديمة متجذرة حاول التخفيف منها قدر الإمكان. أغلق الإسلام كل منافذ الاسترقاق التي كانت سائدة (الاستعباد لعدم القدرة على تسديد دين مثلا). وترك منفذا "شرعيا" وحيدا هو الاستعباد عبر الحرب.
في المقابل، فتح الإسلام أبوابا كثيرة لتحرير العبيد. فحض عليه تطوعا، وجعل "عتق رقبة " كفارة للكثير من الذنوب: القتل الخطأ، الإفطار العمد في رمضان، الحنث في اليمين، الظهار...إلخ.
وأقر الإسلام أيضا نظام "المكاتبة"، وهو شراء العبد نفسه مقابل مبلغ مالي.
برر الفقهاء السبي أيضا بأنه بديل أهون من القتل، ما دام لا يجوز قتل النساء غير المشاركات في الحرب.
من أنكر السبي كفر!
لم يقف داعش مكتوف الأيدي أمام الانتقادات. لكنه لم يكن في حاجة إلى إثبات مشروعية السبي من الأصل. أغلب منتقديه لم ينفوها أصلا.
لكنه في المقابل، كان حازما: من أنكر السبي كفر!
"استعباد عائلات الكفار وأخذ نسائهم سبايا حكم ثابت في الشريعة. إذا أنكره أو سخر منه أحد، فإنه يكون بذلك ينكر ويسخر من آيات القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو بذلك مرتد عن الإسلام"، يقول مقال "دابق".
بعد شهرين من احتلال سنجار، وزع التنظيم على مقاتليه كتيبا من 10 صفحات بعنوان "سؤال وجواب في السبي والرقاب".
لم يناقش الكتيب مشروعية السبي دينيا بقدر ما أجاب عن بعض الأحكام الفقهية المتعلقة به، مثل عورة السبية في الصلاة، أو حكم بيعها، أو الاشتراك في ملكيتها، أو الزواج بها...إلخ.
في آخر صفحة، اكتفى ديوان البحوث والإفتاء التابع للتنظيم بوصف السبي بأنه "علم شبه مغيب في أبواب الفقه المعاصرة".
وعلى امتداد السنوات الثلاث اللاحقة، التي حكم فيها داعش مناطق واسعة في شمال غرب العراق وشرق سورية، حظيت منظومة السبي والرق برعاية خاصة.
كان التنظيم يدفع لمقاتليه، وفق ما كشفت وثائق رسمية مسربة، تعويضات شهرية تقدر بـ50 دولارا عن كل "أمة" و35 عن كل طفل من "أمة". وهي التعويضات نفسها التي كان يدفعها عن زوجات وأطفال المقاتلين.
الاستعباد يقرب الساعة ويقود إلى الجنة!
شدد داعش أنه راعى كل "القواعد الشرعية" للسبي، "بما ذلك منع التفريق بين الأم وأطفالها الصغار". بل إن "كثيرا من النساء المشركات والأطفال دخلوا عن طيب خاطر في الإسلام. وهم الآن يسابقون الزمن لتطبيقه بنية صادقة"!
في منظور داعش، جر الأسر على هؤلاء خيرا عظيما، فقد كان سببا في اعتناقهم الإسلام.
في أسفل مقال دابق، نشر التنظيم صورة شاب أيزيدي "اعتنق الإسلام". وفوقها، مباشرة أورد الكاتب حديثا للنبي محمد. "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" (صحيح البخاري، باب الأسارى في السلاسل).
لكن أكثر ما يلفت في سبي الأيزيديات هو ربط داعش عودة العبودية بقيام الساعة.
في الواقع، يحتل خطاب الملاحم وفتن آخر الزمن حيزا معتبرا في المنظومة الفكرية للتنظيمات الإسلامية. لكنه يبرز أكثر عند التنظيمات الجهادية.
فكل المعارك التي يقودها داعش اليوم هي في نهاية الأمر تمهيد "للملحمة الكبرى" المنتظرة بين المسلمين والروم (الدول الغرببة حاليا).
يقول كاتب دابق "من المهم جدا الانتباه إلى أن العبودية ورد ذكرها كإحدى علامات الساعة، فضلا عن كونها واحدا من أسباب الملحمة الكبرى". وهو يشير هنا إلى عبارة "أن تلد الأمة ربتها" الواردة في حديث أشراط الساعة الشهير في صحيحي البخاري ومسلم.
بل، حتى العنوان الذي اختاره التنظيم لمقاله معبر جدا: "إحياء العبودية قبل قيام الساعة".
داعش إذن يمهد للملحمة الكبرى بإعادة العبودية.
في الحقيقة، اسم المجلة نفسها "دابق" ليس غريبا عن عالم الملاحم. "لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق..."، كما ورد في الحديث (صحيح مسلم).
ودابق بلدة سورية شمال حلب، تبعد عن الحدود التركية بـ45 كيلومترا. وخسرها التنظيم في تشرين الأول/أكتوبر 2016.
من يظن أن "صدمة" تحرير #دابق من يد #داعش قد تفيق بعضهم فهو واهم؛ ففي الصحيحين: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه)❗
— 『موسى الغنامي』 (@mgsa2006) October 16, 2016
ولا يختلف الأمر بالنسبة لاسم وكالة أنباء داعش: "أعماق". وهي، كما ذكر ياقوت الحموي (القرن 6) في "معجم البلدان"، موضع في الشام بين حلب وأنطاكيا (الجزء 1، ص 222).
وفي هاتين البلدتين ستدور المعركة الكبرى أو بعض فصولها على الأقل.
الاستمتاع بالمسبية ليس اغتصابا؟!
ممارسة الجنس مع السبية، أو بالتعبير الفقهي "الاستمتاع" بالسبية، أحد أكثر المواضيع إثارة للحساسية، وللإحراج أيضا.
في كتيبه الصغير "سؤال وجواب في السبي والرقاب"، اكتفى داعش بالقول إنه "يجوز وطء السبية". واحتج بإحدى آيات ملك اليمين.
وانتقل في الصفحات التالية إلى التفاصيل الفقهية، دون أن يتطرق مطلقا إلى الإشكال الأخلاقي الذي تطرحه القضية.
لكن حتى قبل ظهور داعش، تصدى الفقهاء لموضوع "الاستمتاع بالسبايا".
في نظر هؤلاء، ممارسة الجنس مع السبايا ليست أبدا اغتصابا، وإلا ما كان ليحله الإسلام.
بل إن فتوى في موقع "إسلام ويب" المعروف تقول بالحرف: "الاستمتاع بالمسبية ليس فيه اغتصاب، ولا عدوان على المرأة المسبية، ولا انتهاك لحقوقها، بل هو تكريم لها ورفع لقدرها، لأن المسبية إذا دخلت في ملك الرجل فإنها غالبا ستنضم إلى عياله وأهله".
ويضيف الموقع تبريرا آخر: السبية أيضا "امرأة لها حاجاتها ومتطلباتها النفسية والجنسية".
أما تنظيم داعش فنأى بنفسه عن هذا النقاش الأخلاقي. واكتفت مجلة دابق بالإشارة إلى أن "هجر العبودية أدى إلى زيادة الفاحشة لأن البديل الشرعي للزواج غير متوفر".
عند دار الإفتاء الخبر اليقين؟
شكل باحثون يعدون على رؤوس الأصابع استثناء ملفتا. ففي حين اكتفى أغلب الفقهاء بتوضيح الموقف الإسلامي من السبي، أنكر هؤلاء وجود السبي وأسقطوه من الشريعة تماما.
أما حجتهم فهي الآية الرابعة من سورة محمد: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء".
يقول أصحاب هذا الطرح، ومنهم الباحثان المعروفان عدنان إبراهيم وحسن فرحان المالكي، إن هذه الآية شرعت للمسلمين خيارين في التعامل مع للأسرى. وهما: "المن"، أي العفو، و"الفداء".
ولم تترك الآية أي خيار ثالث بما في ذلك الاسترقاق.
ويضيف هؤلاء إن النبي محمد لم يكن له عبيد، وإنما كان له "موالي" وهم عبيد محررون.
دار الإفتاء المصرية، وإن لم تنكر تشريع الإسلام للسبي، إلا أنها تعتبره صار محرما من الناحية الشرعية في الوقت الراهن.
في سنة 2015 أصدرت الدار، بناء على طلب من اتحاد علماء الدين الإسلامي في كردستان العراق، فتوى تقول إن مشاركة الدول الإسلامية في الاتفاقيات المتعلقة بإلغاء الرق في العالم تلغي الرق شرعيا.
واستشهدت دار الإفتاء بالاتفاقية الدولية لتحرير الرق في برلين سنة 1860 التي شاركت فيها دولة الخلافة العثمانية واتفاقية منع الرق سنة 1926 التي وقعتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم.
بالنسبة لدار الافتاء المصرية، تعطل هذه الاتفاقيات كل أحكام الرق شرعيا.
"وبذلك ارتفعت كل أحكام الرقيق وملك اليمين المذكورة في الفقه الإسلامي لذهاب محلها، وصار الاسترقاق محرما لا يجوز" تقول دار الإفتاء.