لا ينقطع الحديث في عالمنا العربي عن كيفية خوض التجربة الديمقراطية، ومدى استعداد "مجتمعاتنا الإسلامية" لمثل هذه "الممارسات السياسية الغربية". وفي القلب من ذلك الحديث تطوّرت مواقف الإسلاميين -على مرِّ الزمن- من الديمقراطية ما بين رفضٍ تام إلى تأييد حذر.
فرغم نيل البلدان العربية استقلالها السياسي عن الاستعمار الغربي، فإن انهيار الاتحاد السوفييتي فرَضَ عليها التماهي مع الأيدولوجيات السياسية الغربية التي أصبحت سيّدة الموقف بالعالم بأسره، وخاصةً في ظِل الربط الذي قامت به الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية بين تفعيل علاقاتها بدول العالمين العربي والإسلامي وبين تطبيق الديمقراطية في أنظمتها السياسية.
هذه التطورات أجبرت الأنظمة الشمولية العربية على السعيْ نحو تبنّي الديمقراطية -ولو قسرًا- وهو ما انعكس على كافة مكوّنات المجتمعات العربية، وفي القلب منهم الإسلاميون أصحاب التجربة الأبرز في تكوين تنظيمات سياسية مُعارِضة للأنظمة الحاكمة.
الديمقراطية "الكافرة"!
يشرح المفكر الإسلامي فتحي عثمان أسباب تخوف العرب، بشكلٍ عام، تجاه الديمقراطية. ويرجع هذا التوجس إلى النظر إلى الديمقراطية اعتبارها "صنيعة الغرب" الذي لطالما استعمر بلاد الشرق. يقول فتحي إنه في حالة الاستعمار ينظر الإنسان إلى مبادئ المستعمر، مهما كانت نظرة ليست طيبة، ولا يكون عنده استعداد نفسي أو فكري للتقييم الموضوعي، وينتظر العون من أي طرفٍ مُعادٍ مهم كانت أفكاره. لذا نظر بعض المسلمين إلى هتلر بإعجاب لأنه سيخلصهم من الاستعمار، رغم أن نظامه السياسي كان إجراميًا وأبشع من الاستعمار. لكنه اتجاه نفسي مفهوم، ويجب على الديمقراطيين في الغرب أن يتفهّموه. إننا في أزمة نفسية ولسنا في حالة تفكير صحي.
تخوّف المسلمين تجاه كل ما هو غربي ظهر في أوضح صوره عام 1907 حين عُزل السُلطان العثماني سليم الثالث بسبب ميوله الإصلاحية التي ترتّب عنها إصدار المفتي العثماني عطاء الله أفندي فتوى قال فيها إن "كل سُلطان يُدخل نظامات الإفرنج وعوائدهم ويُجبر الرعية على اتّباعها لا يكون صالحًا للمُلك".
وفي عام 1907 نفسه، استعان الشاه محمد علي بن مظفر الدين بفتوى أصدرها الفقيه فضل الله نوري اعتبر فيها أن "النظام الدستوري ضد الإسلام"، وهو ما استند عليه الشاه في تبرير رفض المطالب الإصلاحية للحركة الوطنية المُعارِضة لسياساته باعتبار أن مطالبها "وضعية، وغربية، وكافرة".
وأيضًا في مصر قصة شهيرة وقعت مع المفكر الكبير أحمد لطفي السيد، الذي ترشح في الانتخابات النيابية، وعندما أراد خصمه إضعاف موقفه أشاع أن الديمقراطية التي يٌطالب بها هي "فكرة غربية تسمح للمرأة بأن تتزوج 4 رجال". سقط لطفي الانتخابات وأصبح كلمة "مدّستر" سبّة في ريف مصر لعشرات السنوات التالية.
السيادة لِمَن؟
هاجس الإسلاميين الأكبر تجاه مفهوم الديمقراطية هو رؤيتهم لها باعتبار أنها ستُعطي "السيادة للشعب" وستمنحهم عبر الانتخابات في اختيار مَن يشاؤون -ولو كان غير مسلمٍ- كما ستمنح النوّاب حرّية إقرار كافة التشريعات المطلوبة ولو كانت تتعارض مع الشريعة الإسلامية.
إزاء هذا التخوف الصادر من فصيل سياسي يُعلي من شأن الشريعة ويضعها إطارًا عامًا يجب على المجتمع بأسره السير في نطاقه، ارتاب الإسلاميون من أن تلك الحرية المُطلقة في التشريع قد ترتدّ يومًا إلى صدورهم فيُفاجؤون بصدور قرارات لا تتوافق مع رؤيتهم للشريعة يكون لِزامًا على الجميع -وهم من ضمنهم- تطبيقها بحُكم القانون!
لذا تباينت مواقف الإسلاميين تجاه الديمقراطية؛ فهناك من رفضها بالكُلية واعتبرها بعيدة عن روح الإسلام، وهناك من قبلها على مضض استنادًا على قاعدة "المصالح والمفاسد" باعتبار أن دخول الإسلاميين الانتخابات وتمثيلهم في البرلمانات العربية سيمنع أعضاءها من تبنّي قوانين تُخالف أخلاق الإسلام.
وما ساهم في تأجيج مخاوف الإسلاميين من الديمقراطية هو أن أبرز رواد الإصلاح السياسي طيلة العقود الفائتة كانوا غالبا من النخب العلمانية، التي اشتهرت بآراءٍ ينظر اليها أنها تصطدم ببعض ثوابت الدين، ما دفع الإسلاميين لاعتبار الديمقراطية وسيلة غير مباشرة لـ"علمنة" المجتمع.
هناك تخوّف إضافي لاحق الإسلاميين، وهو شعورهم الدائم بأن الغرب لن يقبل بوجودهم على مقاعد السُلطة حتى لو فازوا بالأغلبية. عزّز ذلك الشعور، تجربتا الإسلام السياسي مع السُلطة في الجزائر (الجبهة الإسلامية) عام 1991، وفي تركيا (حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان) عام 1998، وكلاهما أُجهِضتا عسكريًّا دون احتجاجات كبيرة من دول الغرب الديمقراطية.
هذا الشعور استمرّ مع الإسلاميين حتى هذه الأيام، ولُوحِظ بكثافة في مصر عقب نجاح ثورة يناير 2011 في الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك. فقد ظلّ الإسلاميون -رغم شعبيتهم الكبيرة- يعتبرون أن الغرب لن يقبل بهم قادةً لمصر، لذا أعلنت جماعة الإخوان في البداية رفضها ترشيح أحد قياداتها في الانتخابات الرئاسية الأولى عقب يناير، وهو القرار الذي تراجعت عنه لاحقًا حين رشّحت الرئيس السابق محمد مرسي.
وعقب الإطاحة بمرسي بعد مظاهرات شعبية حاشدة في 2013، ركزت أطروحات الإسلاميين الرافضة لإزاحة الرئيس عن منصبه على أن كل ذلك جرى بسبب الرفض الأميركي والغربي له، والذي لم يُعلن رسميًا أبدًا، دون التركيز على سياسات الإسلاميين التي أدّت لتردّي أوضاع البلاد.
تحديات الديمقراطية المتأخرة
يقول طلال عتريسي في ورقته البحثية "الإسلام والتصالح مع الديمقراطية"، إن أغلب الحركات الإسلامية لم تُواجه "تحدي الديمقراطية" فور نشأتها، لأنها ظهرت في مطلع هذا القرن بينما كانت المنطقة تموج بفوران رافض لقوى الاستعمار، وهو ما جعل الحركات الإسلامية ترفع لواء "الجهاد" ومواجهة الاحتلال الأجنبي دون أن تتورّط في التعهّد بخوض تجربة ديمقراطية يومًا ما، مثل فعل الأمير عبد القادر في الجزائر، والثورة المهدية في السودان، والثورة السنوسية في ليبيا، وثورة العشرين في العراق، مرورًا بحزب الله في لبنان الذي لم يتبنَ خيار ممارسة السياسة إلا عقب رحيل الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وانتهاء معاركه مع حركة "أمل".
وحدها جماعة الإخوان المسلمين في مصر واجهت هذا التحدّي مبكرًا، بسبب التجربة البرلمانية الراسخة التي كانت مصر تعيشها إبان ظهور الجماعة. قبلت الإخوان اللعبة السياسية مبكرًا وخاض مؤسِّسها حسن البنا الانتخابات عن دائرة الإسماعيلية عام 1942، كما كتب في رسائله أن "القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري ليست بعيدة عن النظام الإسلامي ولا غريبة عنه".
ذلك الموقف الإخواني المؤيّد للديمقراطية جاء ناقصًا؛ فبعدما وافق البنّا على الانتخابات رفض الحزبية والتعددية السياسية، إذ كتب في رسالته لمؤتمر الإخوان الذي انعقد في الأربعينات، أنه يفرّق بين حرية الرأي والتفكير والشورى -وهو ما يُوجبه الإسلام- وبين التعصُّب للرأي والخروج على الجماعة وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام. عقب هذه الأطروحات قدّم البنّا حلاّ أفلاطونيًّا يستحيل تطبيقه حين وجّه الدعوة للأحزاب المصرية إلى حلِّ نفسها والاندماج في هيئة شعبية واحد تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام.
يتطابق هذا مع موقف الشيخ أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية، الذي ألقى محاضرة عام 1939، قبل تأسيس دولة باكستان، تطرّق فيها إلى تصوره للدولة الإسلامية أكّد فيه أن مجلس الشورى الإسلامي لا يُمكن أن ينقسم أعضاؤه جماعات وأحزابًا، بل يُبدي كل واحد منهم رأيه بصفته الفردية، فإن الإسلام يأبى أن يتحزّب أهل المشورة، سواء كانوا على حقٍّ أو على باطل.
هذا النهج ستتمسّك به الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان طيلة الأربعينات والخمسينات، لكنها ستتراجع عنه لاحقًا وتقبل بفكرة التعددية الحزبية والسياسية وتتعامل معها، وهو ما سارت عليه جماعة الإخوان خلال تفاعلها الطويل مع التجربة السياسية المصرية قبل إقصائها منها في أعقاب يونيو 2013.
إسلاميون كُثر رفضوا موقف جماعة الإخوان وانشقّوا عنها مشكلين تيارات أكثر راديكالية ترفض الديمقراطية والنظام السياسي للدولة بأسره، وهو التيار الذي شهد انحسارًا تدريجيًا، عقب تراجع أغلب هذه التيارات عن ممارسة العنف وقيامها بمراجعات فقهية خلقت مساحة للتسامُح بينها وبين الدولة، مثلما جرى مع تنظيم "الجهاد" في مصر، التي خرج أغلب كوادره من السجون وشكّلوا أحزابًا ذات مرجعية إسلامية، مثل حزب البناء والتنمية.
وبحسب كتاب فهمي هويدي "الإسلام والديمقراطية"، فإن حركة الاتجاه الإسلامي في تونس (النهضة لاحقًا) كانت من أوائل الحركات الإسلامية ذات المواقف الإيجابية في قبول الديمقراطية بكافة أركانها، بعدما أشارت في إعلانها الصادر عام 1981 إلى إقرارها بحق "كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية".
فتنة عثمان والديمقراطية!
لا يُمكن النظر إلى تخوّف الحركات الإسلامية السُنية من الديمقراطية إلا بالعودة كثيرًا إلى جذور التاريخ الإسلامي. فعقب وفاة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، أظهر علماء السُنة قلقًا كبيرًا من "التعددية" والتحزب بسبب خوفهم من أن تكون سببًا في شق صفوف المجتمع وتكرار تلك الأحداث الدامية.
لذا تبنّت أغلب المذاهب السُنية آراءً تُعظّم من قيمة الحاكم وترفض معارضته بأي شكلٍ خوفًا أن تؤدي تلك المعارضة إلى انهيار دولة الإسلام، مثلاُ يقول الفقيه أبو بكر الطرطوشي "إذا جار عليك السُلطان فعليك الصبر وعليه الوزر".
وهو ذات النهج الذي استند إليه صفي الرحمن المباركفوري في بحثه "الأحزاب السياسية في الإسلام"، بالقول بأن النبي لم يترك بابًا صغيرًا في الاختلاف إلا وكان يسدّه، فما بالك الأحزاب التي تخلق أبوابًا كثيرة للاختلاف بين الناس. وأضاف صفي الرحمن: أوجب الله ورسوله طاعة الأمير ما لم يأمر بمعصية الله، وشدّد في النهي عن منازعته سُلطاته، ولو صدر عنه بعض الجور، وظهر منه الاستبداد بالحُكم وببعض الحقوق، عليك الصبر والتحمّل وعدم الخروج عليه.
تم التراجع عن تلك الأفكار تدريجيًا وقبول فكرة التعددية المتمثلة في الأحزاب السياسية بفضل كتابات شيوخ بدءا من محمد عبده ورشيد رضا وحتى الشيخ شلتوت ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي.
وفي عام 1992، التقى 30 مفكرًا إسلاميًا في القاهرة، على بينهم يوسف القرضاوي وطارق البشري ومحمد سليم العوّا، وأعلنوا أن تأسيس الأحزاب لا تتعارض مع مبادئ الإسلامية، فهي مذاهب في السياسة، تشبيها لها بالمذاهب الفقهية المختلفة التي عرفها الإسلام على مدار قرون، واعتبرها الباحثون لا تختلف كثيرًا عن الأحزاب.
الديمقراطية أم الشورى؟
استوحى مؤيدو الديمقراطية من "الشورى" مبررًا كافيًا لتطبيقها باعتبارها أمرًا إلهيًا ورد في القرآن.
في كتابه فرّق هويدي بين "أهل الشورى" و"أهل الاجتهاد"، معتبرًا أن الأولين هم أولو الرأي في الأمة –أهل الحل والعقد-، لذا يجب أن يمثلوا المجتمع بكافة شرائحه وتياراته ودياناته، وبالتالي فإن تمثيل غير المسلمين فيهم أمر مفروغ منه، أما "أهل الاجتهاد" فهم أهل العلم من الفقهاء، وبالتالي فإن شرط الإسلام فيهم واجب.