بقلم علي عبد الأمير: 

حتى فترة قريبة، كان المفتش العام الأميركي ستيوارت بوين، المكلّف بالتحقيق في الفساد الذي واكب "حملة إعادة الإعمار" في العراق يقوم  بالتحقيق في أوجه صرف أموال أميركية وعراقية، يُعتقد على نحو واسع أن مصيرها غير معلوم.

مهمة بوين، الذي صار "مدوناً" لفصول من الفساد تحت عنوان "اعادة الإعمار"، تواصلت في العراق. حتّى أنّ رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي استقبله أواخر العام الماضي على سبيل تقديم النصيحة والوسائل لمكافحة الآفة التي باتت تتحكم بالموارد المالية العراقية وتجعلها غير قادرة على نقل البلاد إلى مستويات متطورة حتى وإن بلغت أرقاماً كبيرة.

وكان تقريره الموسع والمثير "دروس قاسية... تجربة إعادة الإعمار في العراق" الذي جاء بنحو 500 صفحة ووُزع على نطاق واسع ككتاب يكشف قصة الفساد في العراق، هو الوثيقة الأكثر موضوعية. وقدّمه بوين من دون أن يثير أي موقف جدّي يتناسب مع حجم ما تكشفه فصوله من حقائق.

الأموال النقدية تخرج بسرعة من الباب!

وفي التقرير غطت "سلطة إشراف مكتب المفتش العام لإعادة إعمار العراق حوالي ٥٠ مليار دولار من الأموال الأميركية التي خصصها الكونغرس للعراق في أكبر جهد إغاثة وإعادة إعمار لبلد واحد في تاريخ الولايات المتحدة. هذا البحر من دولارات دافع الضرائب الأميركي تدفّق لصالح عدد واسع من المبادرات التي تراوحت بين تدريب الجيش والشرطة العراقيين وبين بناء مشاريع كهربائية ونفطية ومائية كبرى، وبين جهود دعم بناء الديمقراطية وتعزيز تنفيذ الموازنات من قبل مجالس المحافظات، وبين تمويل الإصلاحات في حكم القانون لضمان أن تسهر الحكومة العراقية على استدامة ما قدمته البرامج الأميركية. بعض هذه المبادرات نجح لكن الكثير منها لم ينجح".

ويرسم التقرير صورة عن نشاط المفتش بوين الذي دوّن "ما شاهدته كان مثيراً للقلق: مبالغ كبرى من الأموال النقدية تخرج بسرعة من الباب. في وقت لاحق من ذلك اليوم، وأنا أسير في قاعات القصر، سمعت أحدهم يقول (لن نستطيع فعل ذلك بعد اليوم. فهناك مفتش عام جديد هنا). هذه الإشارات الحمراء المنذرة كانت أولى الإشارات على مدى التحديات الذي سيشكلها تنفيذ الإشراف في العراق".

ويتوقف التقرير عند اسباب جوهرية قادت الى فشل " أكبر جهد إغاثة وإعادة إعمار"، ومنها:

*التخطيط الضيق النظر والمفكك لعراق ما قبل الحرب وما بعدها.

* التوسع الكبير، وفي نهاية المطاف، الطموح أكثر من اللازم لبرنامج سلطة الائتلاف المؤقتة لإعادة إعمار العراق.

*إعادة البرامج المتأثرة بالوضع الأمني والتي تطلبها تفجر التمرد المضاد للوجود الاميركي.

"الدروس القاسية"

ويجيب تقرير "الدروس القاسية" على بعض الأسئلة الهامة حول البرنامج الأميركي لإعادة الإعمار في العراق، ومنها سؤال "هل حملّ البرنامج عبئاً ثقيلاً جداً بما يخص الهدر والاحتيال"؟ وهنا يجيب "بالنسبة للهدر، نعم. بالنسبة للاحتيال، لا. فهناك الاستخدام المفرط لعقود الكلفة زائدة الربح، والنفقات العامة الأساسية الكبيرة للمقاولين، ورسوم المكافأة المفرطة للمقاولين، والتأخيرات غير المقبولة للمشاريع. وكلها عوامل ساهمت في هدر كبير لدولارات دافع الضرائب. صحيح أن مكتب المفتش العام ووكالات فرض تطبيق القانون الأخرى قد اكتشفت أمثلة شنيعة من الاحتيال، إلا أن حجم إجمالي الأعمال الجنائية المعروفة لتاريخه لا تمثل سوى نسبة مئوية صغيرة نسبياً بالمقارنة مع مجمل استثمارات إعادة الإعمار، آما أن عدد الأفراد المعنيين بذلك كان متدنياً نسبياً. فالأغلبية الكبرى للذين خدموا البرنامج الأميركي لإعادة الإعمار، الجنود، والمدنيون، والمقاولون قاموا بذلك بصورة شريفة".

وبشأن أسباب فشل جهود إعادة الإعمار أحياناً كثيرة في بلوغ أهدافها، يبدو الجواب محصوراً في "الأمن، هذا التفسير الوحيد تم تقديمه آلاف المرات منذ احتلال العام ٢٠٠٣ على أنه السبب السائد لأوجه التقصير، الكبيرة والصغيرة، في البرنامج الأميركي. لكنّ هذا التفسير يقود إلى سؤال آخر. لماذا جرى تنفيذ خطة واسعة لإعادة البناء في بيئة أمنية غير مستقرة إلى حدٍ خطير؟ هذا السؤال يؤكد درساً قاسياً من العراق: احذروا السعي وراء برامج إعادة إعمار كبيرة الحجم بينما النزاعات الكبرى تتواصل".  وهنا يخلص التقرير "لكن وراء القضية الأمنية، تقف حقيقة أخرى مقنعة ولا مفر منها: لم تكن لدى الحكومة الأميركية لا الهيكليات الراسخة ولا الموارد الضرورية لتنفيذ مهمة إعادة الإعمار التي قررتها في أواسط العام ٢٠٠٣".

دروس بليغة.... مهملة!

وعلى الرغم من أهمية  الدروس التي قدمها التقرير، إلّا أنّه لم يقابل عراقياً بالاهتمام، لا على المستوى الحكومي، ولا البرلماني. كذلك لم يتحول إلى عمل ثقافي تربوي يمكن أن تقيم مؤسسات عراقية كثيرة معنية بالنزاهة، أساساً موضوعياً لمنهج وطني يعمل حقاً على إنقاذ البلاد.

*الصورة: غلاف تقرير "الدروس الصعبة" للمفتش العام الاميركي ستيورات بوين

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق "واتساب" على الرقم 0012022773659

مواضيع ذات صلة:

بقلم حسن عباس:

في اليوم الأخير من شهر تموز/يوليو الماضي، خرج متظاهرون إلى ساحات عدد من المدن العراقية مطالبين بالقضاء على الفساد الذي ينخر عددا من مؤسسات الدولة.

وكانت الشرارة الأولى للاحتجاجات قد انطلقت من محافظة البصرة، إحتجاجاً على سوء الخدمات العامة وعلى نقص الكهرباء بشكل خاص. ثم تمدّد الحراك إلى الشمال. وكان الشعار الأساسي "باكونا الحرامية"، وهو تعبير عامي عراقي يعني "سرقنا اللصوص".

للفساد ملمس!

ويقول الباحث في علم الاجتماع والناشط في الحراك عبد الرزاق علي "بين عامي 2008 و2014، لا نعرف إيرادات العراق ونفقاته، وقد لعبت الخلافات السياسية بين الكتل البرلمانية دوراً في عدم إغلاق الحسابات"، مضيفاً لموقع (إرفع صوتك) أنّ "خبراء اقتصاديين قاموا بمقارنة الواردات بالنفقات وقدّروا وجود قرابة 300 مليار دولار لا أحد يعرف أين أُنفقت".

وبعد تأكيده أن "الفساد ضرب كل مفاصل الدولة"، يشير الكاتب حامد المالكي، وهو أحد محرّكي التظاهرات، في حديث إلى موقع (إرفع صوتك) إلى أن "الفساد دمّر نفسية الإنسان العراقي. فصار يعيش وكأنّه خارج التاريخ، ووُلدت طبقات متنفّعة على حساب عامة الشعب".

أثر الفساد على المواطن ليس فقط نظرياً، برأي المدوّن محمد حسين حبيب المعروف بلقب "صبرائيل الخالدي". يبدأ تأثير الفساد على حياة المواطن من أصغر تفصيل، وهو المعاملات الحكومية. ويقول لموقع (إرفع صوتك) "ليست هناك دائرة حكومية في العراق عصيّة على الرشى، وهناك آليات بيروقراطية أو حتى مزاجية أحياناً تتيح للموظف الفاسد عرقلة المعاملات بهدف الابتزاز".

وعلى مستوى الخدمات، يضرب صبرائيل مثل المقاولات و"قيام شركات بدفع رشاوى لتحصل على مقاولة تبليط شارع مثلاً، فتضطر إلى تعويض ذلك على حساب جودة المواد المستخدمة أو حرفية العمل".

وعلى مستوى التعليم، يشير إلى ظاهرة الجامعات الأهلية، "التي تخرّج سنوياً آلاف الخريجين غير الكفوئين. وهي جامعات بعيدة عن عين الدولة ويمكن فيها شراء أيّ شيء".

وعلى مستوى الأمن، يذكّر بفضيحة شراء رجال أعمال مقربين من الطبقة السياسية أجهزة كشف متفجرات واطئة الكفاءة بأسعار عالية.

أسباب كثيرة لنتيجة واحدة

بحسب لائحة منظمة الشفافية الدولية التي تصنّف 175 دولة من الأقل فساداً إلى الأكثر فساداً، يحتل العراق المرتبة 170، وهذا ما ركّز عليه الناشطون العراقيون لحشد الشارع.

ويعتقد حامد المالكي أنّ "الأنظمة التي تقوم على المحاصصة العرقية والطائفية والقومية لا تقوم إلا على شرب دم الشعب وهذه الأنظمة لا يمكن أن تستمر بلا فساد".

غير بعيد عنه، يقول عبد الرزاق علي إنّ "طبيعة إدارة العراق على أساس طائفي هي التي جعلت الفساد المؤسسة الأكبر في البلد"، مضيفاً أن تفرّد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي بالسلطة "أسّس للكثير من الخطايا ومنها عدم مراقبة موازنات الدولة وغياب المحاسبة".

هل بدأ الإصلاح؟

بعد أسبوع من بدء الحراك، دعا المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني رئيس الحكومة حيدر العبادي إلى أن يكون "أكثر جرأة وشجاعة" في مكافحة الفساد.

وقد تفاعل رئيس الحكومة حيدر العبادي مع مطالب المتظاهرين ووضع خطة إصلاحية عُرفت بـ"حزمة الإصلاحات" وتضمنت قرارات إلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية والحكومة، وإلغاء المخصصات الاستثنائية للرئاسات والهيئات والمؤسسات، وتقليص أعداد عناصر حماية المسؤولين، إضافة إلى فتح ملفات الفساد. وقد وافق مجلس النواب العراقي على خطة مجلس الوزراء وأضاف إليها وثيقة إصلاحات تكميلية. لكن لم ترَ جميع الإصلاحات النور إلى الآن.

ويروي عبد الرزاق علي أن مراجع كبار ومقربين من السيد السيستاني أخبروه، في زيارة قام بها مع وفد إلى النجف، "بالحرف الواحد إنّه لولا الاحتجاجات لما بدأت الإصلاحات".

"الحراك الذي تشهده البلاد الآن هو خطوة أولى نحو إيجاد طريق لإخراج البلاد من هذا المأزق"، يقول الناشط الشاب مصطفى سعدون لموقع (إرفع صوتك)، متحدثاً عن "خوف وقلق السياسيين على مناصبهم من الناشطين الذين كسروا كل الحواجز وهدموا الأصنام التي أريد لها أن تكون خطاً أحمر لا يُسمح لأحد بتخطيه".

لكنّ "الإصلاحات الحكومية تضرب أطراف الفساد بينما المطلوب ضرب قلب الفساد"، برأي المالكي الذي يعتبر أن "رئيس الحكومة هو جزء من منظومة قائمة على الفساد والتقاسم الطائفي والقومي للكعكة العراقية".

وهذا ما ذهب إليه عبد الرزاق علي، الذي يصف حزمة الإصلاحات بـ"الترقيعية" برغم كونها بداية هامة. ويشير إلى أنّ "العبادي يسير خطوة إلى الأمام خطوتين إلى الوراء"، عازياً سبب التردّد إلى كون رئيس الحكومة "مكبّل بمجموعة عوامل تحدّ من قدرته على السير بالإصلاح قدماً، فهو أساساً تقلد منصبه بتوافق بين قوى سياسية متورطة في الفساد والطائفية، وهو جزء من حزب الدعوة الذي ينتمي إليه سلفه المالكي".

ماذا عن المستقبل؟

ويشدّد المالكي على أنّه "لا بد من الأمل". ويقول "الشعوب قد تنتكس، لكنّها هي التي ستنتصر أخيراً"، لافتاً إلى أن "الفاسدين بدأوا يفكرون كثيراً قبل عقد أيّة صفقة فيها فساد وهذا هام جداً. فخوف الحكومة والفاسدين هو أعظم مكسب للتظاهرات".

*الصورة: مظاهرات في بغداد تطالب بالإصلاح/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق "واتساب" على الرقم 0012022773659