بقلم حسن عبّاس:

شهد نهار الإثنين، 22 آب/أغسطس، حدثاً فائق الأهمية لم تتوقّف عند أبعاده كثيراً وسائل الإعلام العربية. ففي ذاك النهار، بدأت محاكمة المالي أحمد فقيه المهدي أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة الإرهاب.

والمهدي الذي كان يرأس "شرطة الأخلاق" في جماعة "أنصار الدين" التابعة لتنظيم القاعدة هو مرتكب جرائم حرب تتمثل في تدمير معالم تاريخية ودينية في مدينة تمبكتو في مالي، في الفترة بين نهاية حزيران/يونيو وبين 11 تموز/يوليو من عام 2012، حين أمر بمهاجمة أماكن مقدسة مما أدى إلى تدمير تسعة أضرحة لصوفيين وباب مسجد.

وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت أمر اعتقال بحق المهدي في سبتمبر 2015، فقام بتسليم نفسه في الشهر نفسه ليصير معتقلاً بعهدة المحكمة نفسها. وبعد ذلك، أعلن أمام القاضي رغبته في الاعتراف بذنبه عن الجرائم المتهم بارتكابها.

والهام في ما حصل هو أن ما جرى سابقة. فلأول مرّة، تُعقد محاكمة دولية تركّز بشكل حصري على تدمير الممتلكات الثقافية.

وقال المتحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية فادي العبد الله "هذه المحاكمة ترسل رسالة قوية إلى أهالي تمبكتو ومالي بأن العدالة تأخذ مجراها وأن الاعتداءات ضدهم وضد رموزهم ورموز هويتهم وإرثهم الثقافي لن تمرّ بدون عقاب".

وتابع "هي أيضاً رسالة تذهب إلى أبعد من حدود مالي وتقول إن مثل هذه الاعتداءات تشكل جرائم خطيرة لا يجوز غض النظر عنها".

للأسف، لا يمكن للمحكمة أن تتحرّك بشكل تلقائي ضد مدمّري الإرث الحضاري لسورية والعراق لأن الدولتين لم تنضما إلى نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة، ما يعني أن لا اختصاص للمحكمة في الجرائم المرتكبة على أراضيهما بدون طلب من مجلس الأمن.

ليست قضية حجارة

في مذكرة وجّهتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى مؤتمر دولي انعقد لمناقشة موضوع "الخطر الداهم على التراث والتنوع الثقافي في العراق وسورية"، لخّصت اليونسكو مختلف أبعاد قضية الاعتداء على الممتلكات الثقافية.

وحذّرت المنظمة من أن التنوع الثقافي الذي "يتجلّى في أصالة وتعدد الهويات المميِّزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية" يحدِق به الخطر في كل من العراق وسورية، حيث تهدده أجندات مذهبية وتعصّب ديني.

واقتبست المذكرة جملة معبّرة لرئيسة اليونسكو إيرينا بوكوفا تغني عن الكثير من الكلام وتقول فيها "ليست الثقافة ولا التراث قضية حجارة ومبانٍ بل قضية هويات وانتماءات. إنهما يحملان قيماً من الماضي هامة عند مجتمعات اليوم والغد... يتوجّب علينا صون التراث لأنه يجعلنا جماعة، إذ هو الرابط بيننا ضمن مصير مشترك".

وتُعتبر الاعتداءات على التراث الثقافي اعتداءات على الهوية المشتركة، في اتفاقيات دولية عدّة. وأتى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ليعتبر جرائم حرب "تعمّد توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو الخيرية، والآثار التاريخية"، شريطة ألا تكون أهدافاً عسكرية.

تطهير ثقافي

تعتبر اليونسكو أن الاعتداءات على التراث الثقافي في العراق وسورية، تمثّل شكلاً من أشكال التطهير الثقافي، الساعي إلى هدم شرعية وجود "الغَيْر" من حيث هو مغاير، خاصةً أنها مقترنة باضطهاد الأقليات.

وشرحت أن المعتدين يعملون على "تطهير" المجتمع من أي شكل من أشكال التنوع، وكذلك من كل الأمكنة والوسائل المتعلقة بالممارسات الثقافية وبحرية التفكير.

وتفاقم من خطورة ما يحدث عمليات النزوح القسري، في سورية والعراق، ما يهدّد "بتعديل لا رجعة عنه للنسيج الاجتماعي وتماسكه فيهما".

فـ"الجماعات السكانية المتضررة تعاني من ظروف معيشية صعبة للغاية، يفاقمها كون أبنائها بعيدين عن منازلهم، والأماكن التي ألفوا فيها التعبير عن ثقافتهم، وممارسة شعائرهم الدينية"، بحسب المذكّرة المذكورة.

وحذّرت المذكّرة من أنه "إذا تُركت هذه الجماعات السكانية بدون أمل الرجوع الآمن إلى ديارها، فإن التنوع الثقافي في كلا العراق وسورية سيضيع بلا رجعة".

الإجرام الدولي يستفيد

إضافة إلى الأضرار اللاحقة بالمجتمعات وبالعلاقات بين مكوّناتها، فإن الاعتداءات ترتبط بنهب القطع الثقافية والإتجار غير المشروع بها، ما يساهم في تنظيم الإجرام على مستوى عالمي، ويعود على النزاع المسلح بما يغذّيه من وقود.

ويُقدّر مردود منظومة الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية بما بين سبعة و15 مليار دولار سنوياً.

آثار خطيرة على المستقبل

يؤدي نهب مواقع التراث الثقافي إلى فقدان قطع ثقافية قيّمة جداً، و"معها فقدان معلومات لا بديل عنها عن تاريخ البلدان المعنية. وهكذا يحرم النهب الجماعات المعنية من نقاط مرجعية هامة تستند إليها هويتها، ويقوّض الإسهام الممكن للتراث الثقافي في تنميتها الاقتصادية والاجتماعية"، بحسب اليونسكو.

ويضعف تدمير التراث الثقافي قدرة المجتمعات على التعافي من آثار النزاعات، بينما يمكن أن تؤدي إعادة تأهيل التراث الثقافي، في مرحلة ما بعد النزاع، دوراً حاسماً في إعادة بناء النسيج الاجتماعي، ووضع الأسس لسلام وأمن دائمين، بحسب اليونسكو.

وتشرح المذكرة أنه "في ظروف ما بعد النزاع، كثيراً ما يصير التراث الثقافي رمزاً كبيراً وأداة قوية لإعادة بناء المجتمعات، إذ يساعدها على كسر دورة العنف والتعالي على الجراح ومداواتها".

*الصورة: آثار ثياب إنسان وآثار الطبيعة في صحراء سورية/Shutterstock

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

مواضيع ذات صلة:

بغداد – بقلم دعاء يوسف:

حين افتتحت المدينة السياحية في الحبانية في نيسان/أبريل 1979، كانت السياحة في العراق قد شهدت انتقالة واسعة تمثلت بالاستعانة بخبرات شركة فرنسية عريقة في مجال الخدمات السياحية؛ بدءا من المعمار وصولا إلى التجهيزات الراقية واعتماد إدارة متقدمة، مما جعلها قبلة عراقيين كثر بدأوا يتعرفون على مستويات ترفيه راقية في بلادهم. وقد حصلت المدينة السياحية على كأس منظمة السياحة الدولية كأفضل مرفق سياحي في الشرق الأوسط عام 1986.

هذا المرفق السياحي بدأ بالانهيار تدريجياً بعد العام 2003، نظراً للأحداث الأمنية في البلاد. وساء الوضع بعد سيطرة تنظيم داعش على مدينة الفلوجة، التي تقع الحبانية السياحية جنوب غربها، وباتت وجهة للنازحين.

الفراغ الأمني

ويقول الخبير الأمني منعم الموسوي في حديث لموقع (إرفع صوتك) إن وجود قاعدة عسكرية وجوية على بعد 18 كيلومتراً غرب مدينة الفلوجة أثّر بشكل ملحوظ على إقبال السياح.

اقرأ أيضاً:

تعرّف على قصبة الجزائر وقسنطينة

الحرب في اليمن تدمر التاريخ العريق

ويشير الموسوي إلى أن أوضاع مدينة الحبانية ساءت أكثر "عندما منح الفراغ الأمني في العام 2004 فرصة للمتمردين في مدينة الفلوجة إلى اقتناء السلاح فتزايدت معها عمليات القتل والاختطاف والسلب".

ويضيف أنّ هذه الأوضاع وخاصة مع انطلاق العمليات العسكرية في الفلوجة أدت إلى فرار وهجرة الكثير من العوائل إلى مدينة الحبانية. "لكن الأمر لم يكن بسيطاً، إذ أثر على خدمات هذه المدينة وبنيتها التحتية بشكل سلبي كبير".

الصراع الطائفي

تمتدّ المدينة السياحية في الحبانية على مساحة مليون متر مربع، وكانت تعتبر في الثمانينيات من أكبر وأبرز المرافق السياحية في منطقة الشرق الأوسط. وضمّت فندقا كبيرا فيه 300 غرفة ومئات الشاليهات وصالة سينما وملاعب رياضية ومطاعم. وسجّلت ذاكرة جميلة لأجيال متعاقبة من العراقيين.

وأثّر وضع الاقتتال الطائفي في البلاد كثيراً على مدينة الحبانية السياحية. فمع تصاعد حدة الصراع الطائفي في العام 2007، كان هناك الكثير ممن اختار هذه المدينة كمأوى له للاحتماء من الجماعات المسلحة التي كانت تخطف وتذبح الناس في الشوارع والطرق السريعة، يقول الخبير الأمني أحمد جاسم في حديث لموقع (إرفع صوتك).

ويضيف أن مدينة الحبانية السياحية كانت عبارة عن مخيمات لهؤلاء الناس الذين تجاوزت أعدادهم طاقتها الاستيعابية والخدماتية. "وبالمقابل لم تظهر إجراءات حكومية تهتم بداخل أو في محيط هذه المدينة ما يعكس انهيار كل مرافقها وحدائقها ومبانيها".

استقرار الأوضاع الأمنية

وفي العام 2009 بدأت الجهات الحكومية بإعادة إعمار مدينة الحبانية وترميمها وإصلاح الدمار الذي لحق بها، وتحديداً بعدما استقرت الأوضاع الأمنية وبدأت العوائل المهجرة بمغادرتها. ويقول الحاج خليل الذي يعمل سائق سيارة أجرة ببغداد إنّه  كان يحاول إيصال مجموعة من العوائل في رحلة ليوم واحد لمدينة الحبانية في العام 2010 بعد أن فتحت أبوابها للزوار مرة أخرى.

ويضيف في حديث لموقع (إرفع صوتك) “لم تكن الخدمات المقدمة بالمستوى المطلوب. كان شاطئ بحيرة الحبانية يعج بأكوام القمامة وأغلب المرافق الترفيهية مغلقة. أيضا كان أكثر ما يقلقنا في وقتها هو الخروج من المدينة والعودة إلى ديارنا قبل حلول الظلام".

العمليات العسكرية

وبعد أنّ سيطر تنظيم داعش على بعض المدن العراقية منها الفلوجة والرمادي في العام 2014، حاول التنظيم التوسع إلى مدينة الحبانية ومناطق أخرى، وبدأت القوات الأمنية والعشائر بصد هجمات التنظيم حتى انطلاق العمليات العسكرية لتحرير المدن من سيطرة داعش، حسب حديث العراقي فارس رشيد لموقع (إرفع صوتك)، وهو خبير في الشأن السياحي.

ويضيف فارس "وهكذا عادت الحبانية مرة أخرى مليئة بالنازحين القادمين من المدن التي دارت وتدور فيها معارك التحرير".

ويشير إلى أن هذه المدينة واحدة من أكثر المدن السياحية تضرراً. "فهي أما أن تكون ملاذا للفارين والمهاجرين والنازحين إبان الأزمات السياسية والأمنية، وأما أن تفتقر للخدمات السياحية والترفيهية عند هدوء وتيرة هذه الأزمات. في كل الحالات تبدو هذه المدينة غير مؤهلة لاستقبال السائحين"، على حد قوله.

*الصورة: جانب من مدينة الحبانية السياحية/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659