بقلم حسن عبّاس:
في أحد أعداد مجلته "دابق"، تفاخر داعش بأن تدمير آثار نينوى "أغضب الكفار، وهذا بحد ذاته أمر محبّب لله". لكن التنظيم الإرهابي أغضب في حقيقة الأمر ملايين المسلمين المتمسكين بقراءة معتدلة لأحكام شريعتهم.
تبريرات داعش لهدمه الآثار عرضها في فيديوهات تفاخر فيها بأعماله. ففي الفيديو الذي عرض فيه جريمته بحق آثار متحف الموصل، قال أحد عناصر التنظيم "أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بإزالة التماثيل وطمسها وفعل ذلك الصحابة من بعده لما فتحوا".
اقرأ أيضاً:
كيف يمكن النهوض بقطاع السياحة في الجزائر؟
الإرث الرافديني والعراقيون المولعون بالاختلاف
وأضاف "أيها المسلمون، إن هذ الآثار التي تظهر ورائي إنما هي أصنام وأوثان لأقوام من قرون سابقة كانت تُعبد من دون الله عز وجل".
لكن هذه الجريمة بحق التاريخ الإنساني لا تحظى بإجماع المسلمين على شرعيتها. فتعليقاً عليها، أصدرت دار الإفتاء المصرية بياناً أكدت فيه أن "الآراء الشاذة التي اعتمد عليها داعش في هدم الآثار واهية ومضللة ولا تستند إلى أسانيد شرعية".
وأضافت أن "الآثار تُعتبر من القيم والأشياء التاريخية التي لها أثر في حياة المجتمع، وبالتالي فإن من تسوّل له نفسه ويتجرأ ويدعو للمساس بأثر تاريخي بحجة أن الإسلام يحرّم وجود مثل هذه الأشياء في بلاده فإن ذلك يعكس توجهات متطرفة تنم عن جهل بالدين الإسلامي".
أسانيد داعش
لا ينطلق القائلون بضرورة هدم التماثيل من فراغ، بل يستندون إلى أحاديث نسبتها بعض كتب التراث إلى النبي أو الخلفاء الراشدين، برغم أن بعض علماء الحديث يشكك فيها ويعتبرها ضعيفة. ومن هذه الأحاديث:
ـ روى مسلم عن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي: بأي شيء أرسلك؟ فأجاب: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء".
ـ روى مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته.
هذا إضافة إلى مجموعة واسعة من أحاديث تحرّم التصوير ومنها أن النبي قال إن "الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم".
وواضح من الأحاديث أنه ليس فيها أي دلالة على تعميم ما كان يحصل في زمن الرسالة على عصور الأخرى، فالسياق آنذاك هو سياق عبادة بعض الناس لأصنام من دون الله.
تبرير التطرّف
عام 2014، حدث أمر غريب. طالب دراسات عليا سعودي، قام بتكسير تماثيل لبوذا في العاصمة اليابانية طوكيو ظاناً أنه يطبّق تعاليم الإسلام.
هذه ليست سوى إشارة على أن الفكر المتطرّف له مكان في نفوس كثيرة. ولكن المقلق أن البعض يعمل جاهداً على إيجاد تبريرات له، وهو ما فعله مثلاً موقع "إسلام ويب" في فتوى رقمها 7458.
فرداً على سؤال عن الحكم الشرعي حول ما تقوم به حكومة طالبان من تحطيم الأصنام والتماثيل في أفغانستان، أجاب الموقع بلا تورية أنه "دلّت الأدلة الشرعية على وجوب هدم الأوثان والأصنام، متى تمكّن المسلمون من ذلك، سواء وُجد مَن يعبدها أو لم يوجد".
وأضاف "إن ما قامت به حكومة الطالبان من تحطيم صنم بوذا الذي يعبد من دون الله عمل مشروع يؤجرون عليه، بل واجب يأثم تاركه مع القدرة".
ماذا فعل السلف؟
في بيانها المذكور، أشارت دار الإفتاء المصرية إلى أن "الآثار كانت موجودة في جميع البلدان التي فتحها المسلمون، ولم يأمر الصحابة الكرام بهدمها أو حتى سمحوا بالاقتراب منها".
وأوضحت أن "الصحابة جاؤوا إلى مصر إبان الفتح الإسلامي ووجدوا الأهرامات وأبو الهول وغيرها، ولم يصدروا فتوى أو رأياً شرعياً يمس هذه الآثار التي تعد قيمة تاريخية عظيمة".
لكن فتوى "إسلام ويب" تحاول التنظير لغير ذلك. فردّاً على تساؤل افتراضي عن كيف ترك الصحابة الفاتحون الآثار، قالت الفتوى إن هذه "الأصنام" قد تكون في أماكن نائية لم يصل إليها الصحابة، أو قد تكون غير ظاهرة، مع احتمال كونها مطمورة بالتراب في ذلك الوقت.
تراجع المسلمين
في بدايات القرن الماضي، أجاب الشيخ محمد عبده عن إشكالية هدم التماثيل والآثار ومما يلفت أنه كان متقدمّاً بفكره كثيراً عن كثيرين من معاصرينا.
فعام 1902، أي قبل 114 سنة، تحدث الإمام عبده، بعد رحلة قام بها إلى إيطاليا، عن قضية حرمة الصور والتماثيل، فقال إن النبي حرّم الصور لأنها كانت في عهده تُتّخذ لسببين: اللهو، والتبرّك بمثال مَن تُرسم صورته "والأول مما يبغضه الدين، والثاني ما جاء الاسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به".
والهام والذي يُبرز أهمية الفهم العقلاني للتراث هو تأكيد عبده أن تصوير الأشخاص لا يعود محرّماً "إذا زال هذان العارضان".
*الصورة: الملك الآشوري آشور بانيبال/Shutterstock
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659