بقلم علي عبد الأمير:

في عام 1925، أرادت شركة "نيرن" أن توسع عملها بفتح خط جديد لنقل المسافرين بين بيروت وبغداد. وخططت أن تُدشّن هذا الخط بنوع جديد من الباصات التي وصلتها حديثاً في حينه، وهي باصات "سيفواي" الأميركية. وقامت الشركة، بحسب ما يثبته الموثق للتاريخ العراقي المعاصر بالصورة والمعلومة الدقيقة، علاء محسن الخزعلي، بتوجيه دعوة لمؤسس الدولة العراقية المعاصرة، ليفتتح الخط الجديد، غير أن الملك فيصل الأول اشترط أن تحمل الباصات العاملة اسم "بابل" أو "بابيلون" كإشارة إلى بلد الحضارة، ولأنه اسم لامع ومعروف أكثر عند الناس من اسم العراق الحديث نسبياً كدولة. وافقت الشركة على ذلك. وطبعت الاسم على الباصات، فحضر الملك وأقيم حفل الإفتتاح في 26 أيار/مايو 1927 (الصورة).

ما الذي يعنيه حدث كهذا يبدو بسيطا، وقد لا يتوقف عنده كثيرون في البحث عن معنى أن يكون الإرث الرافديني عاملا جوهريا في تشكيل الهوية الوطنية؟

خروج العراق من عزلته

لقد أصبح خط نقل الركاب هذا إشارة إلى خروج العراق من عزلته التي فرضتها السيطرة العثمانية، فضلا عن المعنى الذي حمله اسم بابل، كإشارة إلى بدء مرحلة من قراءة الموروث الرافديني على أنه مبعث فخر وعمق للدولة الجديدة. ناهيك عن ثقة في أصحاب الشركات الكبرى بمكان زاخر بإرثه مثلما هو واعد عبر تطلعاته المستقبلية ليعبر من خلال ذلك الإرث بثقة وتمكن إلى العالم المعاصر.

اقرأ أيضاً:

تعرف على آثار حلب.. المدينة التي وصفت أنها “أسوأ مكان في العالم”

كيف يمكن النهوض بقطاع السياحة في الجزائر؟

ثمة من يقول، نعم يصلح الموروث الرافديني باعتباره ذاكرة ثقافية كي تجتمع حوله الهوية الوطنية. فذلك الإرث معنى اشتركت في ترسيخه حضارات كبرى شكلت مسارات بارزة في التاريخ الإنساني، وليس كونها مجرد مراحل تاريخية مرت بها هذه الأرض الممتدة مع امتداد علامات خصبها وحيويتها: الرافدان دجلة والفرات، ومعهما صارت الأرض، "أرض الرافدين"، وإرث الحضارات هو "الإرث الرافديني".

صراعات قاسية

لكن هذا الإرث تعرض لا لمجرد التأثيرات البيئية الطبيعية لنحو ثلاثة آلاف عام، بل للصراعات القاسية والرهيبة مع حضارات وأقوام متنافسة. وكان من نتجيتها أن تعرضت معالمه الماثلة للهدم ولمرات لا تحصى، ناهيك عن الكراهية التي تحولت إلى عدوانية حضارية ومن ثم فكرية مع دخول الإسلام المتطرّف. حتى أن بابل ظلت إلى سنوات من القرن الماضي في موقع النهب والتدمير، فهي بنظر أهالي مدينة الحلة المتدينين موقع "أقوام كافرة". والعلامات الحضارية مثل "أسد بابل" كانوا يفسرونها على أنها "غضب من الله الذي خسف الأرض بأهل بابل وقلبها عاليها سافلها". وما الدعوات التي أطلقتها حركة دينية في الحلة قبل فترة من العام الجاري، نحو تغيير اسم المحافظة ومحو "بابل" منه، إلا امتداد طبيعي بين الفهم السائد عند كثير من المسلمين العاديين قبل عقود، وبين من يمثلهم الآن من أجيال يفترض أنها تنتمي إلى مفاهيم جديدة ومختلفة. وكان أمرا حسنا حين تصدت أصوات برلمانية وحكومية عراقية لمثل تلك الدعوات، مما حدا بأصحابها ليس إلى التراجع وحسب، بل إلى محاولة تبرير الدعوة وفكرتها.

وبما أن العراق شهد أكثر من ديانة فاعلة في مراحله التاريخية والمعاصرة منها أيضا، لذا كانت الهويات الدينية الفرعية، المسيحية واليهودية قبلها، تدّعي امتلاكها إرثا غير قليل في البلاد، بل إن كلدانا وآشوريين لا يخفون سرد التاريخ على نحو يبدو معه الإسلام وقد "سرق بلادهم وقتل أهلها وشردهم"، فهم يعتبرون أنفسهم امتدادا لبناة بلاد الرافدين القدامى. كما أن الصراع غير السلمي بين المسلمين واليهود ألحق الضرر البالغ بهوية وطنية عراقية قادرة على جمع أصحاب الديانات الثلاث، وهو ما وصل إلى حد إقصاء اليهود بعد أن كانوا حتى عشرينيات القرن الماضي يشكلون نحو 15 في المئة من سكان بغداد.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار نزوع الكرد إلى الاستقلال منذ قيام الدولة العراقية المعاصرة، بوصفه عاملا متعارضا مع الهوية الوطنية، فإننا نبدو حيال تهديد جدي لتلك الهوية إلى حد تكاد تصل فيه إلى التواري والفناء، وهو واقع عراقي مضطرب يلفت إليه عالم الاجتماع العراقي الدكتور فالح عبد الجبار، موضحا ما تذهب إليه هذه المقالة، وتحديدا في فقرتها الأولى، فيقول في حوار فكري مهم: "العراق ومنذ العهد الملكي كان بلدا يفتقر إلى التجانس، لكن بسبب النظام الملكي الليبرالي الديموقراطي، كان استقرار لحمة النسيج الوطني والاجتماعي أعلى منه خلال العهود والأنظمة التي تبعت إسقاط النظام الملكي. العراق اليوم يمر بحالة صعبة بسبب تسييس الفروقات بين المذاهب والأديان والإثنيات".

هنا يبدو الإرث الرافديني عابرا لكل الهويات الفرعية لأبناء الرافدين، لكنه ليس في موقع التأثير، فالقوى المتنفذة والقائمة على الإنقسامات الطائفية والعرقية، لها اليد الطولى في اعلاء شأن الهويات الفرعية حتى وإن كانت "هويات قاتلة" لوحدة البلاد ووجودها.

*الصورة: في الحفل الملكي لتدشين شركة "نيرن" العالمية خط نقل باصات حديثة في العام 1927 اشترط فيه الملك فيصل الأول على أن يحمل اسم "بابل"/أرشيف الموثق العراقي علاء محسن الخزعلي

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

مواضيع ذات صلة:

بغداد – بقلم دعاء يوسف:

حين افتتحت المدينة السياحية في الحبانية في نيسان/أبريل 1979، كانت السياحة في العراق قد شهدت انتقالة واسعة تمثلت بالاستعانة بخبرات شركة فرنسية عريقة في مجال الخدمات السياحية؛ بدءا من المعمار وصولا إلى التجهيزات الراقية واعتماد إدارة متقدمة، مما جعلها قبلة عراقيين كثر بدأوا يتعرفون على مستويات ترفيه راقية في بلادهم. وقد حصلت المدينة السياحية على كأس منظمة السياحة الدولية كأفضل مرفق سياحي في الشرق الأوسط عام 1986.

هذا المرفق السياحي بدأ بالانهيار تدريجياً بعد العام 2003، نظراً للأحداث الأمنية في البلاد. وساء الوضع بعد سيطرة تنظيم داعش على مدينة الفلوجة، التي تقع الحبانية السياحية جنوب غربها، وباتت وجهة للنازحين.

الفراغ الأمني

ويقول الخبير الأمني منعم الموسوي في حديث لموقع (إرفع صوتك) إن وجود قاعدة عسكرية وجوية على بعد 18 كيلومتراً غرب مدينة الفلوجة أثّر بشكل ملحوظ على إقبال السياح.

اقرأ أيضاً:

تعرّف على قصبة الجزائر وقسنطينة

الحرب في اليمن تدمر التاريخ العريق

ويشير الموسوي إلى أن أوضاع مدينة الحبانية ساءت أكثر "عندما منح الفراغ الأمني في العام 2004 فرصة للمتمردين في مدينة الفلوجة إلى اقتناء السلاح فتزايدت معها عمليات القتل والاختطاف والسلب".

ويضيف أنّ هذه الأوضاع وخاصة مع انطلاق العمليات العسكرية في الفلوجة أدت إلى فرار وهجرة الكثير من العوائل إلى مدينة الحبانية. "لكن الأمر لم يكن بسيطاً، إذ أثر على خدمات هذه المدينة وبنيتها التحتية بشكل سلبي كبير".

الصراع الطائفي

تمتدّ المدينة السياحية في الحبانية على مساحة مليون متر مربع، وكانت تعتبر في الثمانينيات من أكبر وأبرز المرافق السياحية في منطقة الشرق الأوسط. وضمّت فندقا كبيرا فيه 300 غرفة ومئات الشاليهات وصالة سينما وملاعب رياضية ومطاعم. وسجّلت ذاكرة جميلة لأجيال متعاقبة من العراقيين.

وأثّر وضع الاقتتال الطائفي في البلاد كثيراً على مدينة الحبانية السياحية. فمع تصاعد حدة الصراع الطائفي في العام 2007، كان هناك الكثير ممن اختار هذه المدينة كمأوى له للاحتماء من الجماعات المسلحة التي كانت تخطف وتذبح الناس في الشوارع والطرق السريعة، يقول الخبير الأمني أحمد جاسم في حديث لموقع (إرفع صوتك).

ويضيف أن مدينة الحبانية السياحية كانت عبارة عن مخيمات لهؤلاء الناس الذين تجاوزت أعدادهم طاقتها الاستيعابية والخدماتية. "وبالمقابل لم تظهر إجراءات حكومية تهتم بداخل أو في محيط هذه المدينة ما يعكس انهيار كل مرافقها وحدائقها ومبانيها".

استقرار الأوضاع الأمنية

وفي العام 2009 بدأت الجهات الحكومية بإعادة إعمار مدينة الحبانية وترميمها وإصلاح الدمار الذي لحق بها، وتحديداً بعدما استقرت الأوضاع الأمنية وبدأت العوائل المهجرة بمغادرتها. ويقول الحاج خليل الذي يعمل سائق سيارة أجرة ببغداد إنّه  كان يحاول إيصال مجموعة من العوائل في رحلة ليوم واحد لمدينة الحبانية في العام 2010 بعد أن فتحت أبوابها للزوار مرة أخرى.

ويضيف في حديث لموقع (إرفع صوتك) “لم تكن الخدمات المقدمة بالمستوى المطلوب. كان شاطئ بحيرة الحبانية يعج بأكوام القمامة وأغلب المرافق الترفيهية مغلقة. أيضا كان أكثر ما يقلقنا في وقتها هو الخروج من المدينة والعودة إلى ديارنا قبل حلول الظلام".

العمليات العسكرية

وبعد أنّ سيطر تنظيم داعش على بعض المدن العراقية منها الفلوجة والرمادي في العام 2014، حاول التنظيم التوسع إلى مدينة الحبانية ومناطق أخرى، وبدأت القوات الأمنية والعشائر بصد هجمات التنظيم حتى انطلاق العمليات العسكرية لتحرير المدن من سيطرة داعش، حسب حديث العراقي فارس رشيد لموقع (إرفع صوتك)، وهو خبير في الشأن السياحي.

ويضيف فارس "وهكذا عادت الحبانية مرة أخرى مليئة بالنازحين القادمين من المدن التي دارت وتدور فيها معارك التحرير".

ويشير إلى أن هذه المدينة واحدة من أكثر المدن السياحية تضرراً. "فهي أما أن تكون ملاذا للفارين والمهاجرين والنازحين إبان الأزمات السياسية والأمنية، وأما أن تفتقر للخدمات السياحية والترفيهية عند هدوء وتيرة هذه الأزمات. في كل الحالات تبدو هذه المدينة غير مؤهلة لاستقبال السائحين"، على حد قوله.

*الصورة: جانب من مدينة الحبانية السياحية/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659