مشاركة من صديقة (إرفع صوتك) حسناء جهاد بو حرفوش:
تمكّن تنظيم داعش من الخروج أولا من الإطار المحلي ليشرذم الذاكرة السورية في كل زوايا المعمورة، ويجتاح ذاكرة كل فرد منا، بالكلمات والأفعال الموثقة بأحدث أنواع التكنولوجيا. فلا يمكن الاستهانة بهذا التنظيم الذي لا يقتل ضحاياه فقط، بل يقتل في المتفرجين الإنسانية تدريجيا.
تقول الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت، في هذا الإطار، إن كل مؤرخ يدرك جيدا مدى هشاشة الحقائق في وجودنا اليومي، فهي قد تتمزق ببساطة بفعل الأكاذيب المجموعة (ولو كانت منفصلة) بفعل البروباغندا المنظمة للفرقاء والأمم والطبقات أو المشوهة بطبقات وطبقات من الخيال أو المبعدة لتدفن في النسيان..
نعم، كل ذلك يصب في خانة "الترويض على النسيان" الذي يتخذ أشكالا شتى، بحسب المتطلبات والظروف؛ السياسية منها على الأغلب. فالذاكرة اليوم لم تعد إنسانية بل باتت متصلة بما يخدم السياسة من وسائل إعلامية وتكنولوجية، وهي ذاكرة تمسح فعليا حقيقة الماضي لتكتفي بما يخدم سياستها. ولا يمكن فصل النسيان عن النكران، على أن هذا الأخير شكل من أشكال الكذب على الذات.
اقرأ أيضاً:
لماذا تدهورت مدينة الحبانية السياحية في العراق؟
تعرّف على قصبة الجزائر وقسنطينة
وتركز أرندت في مقال بعنوان "الحقيقة والسياسة"، على التحوير الحديث للكذب ليصبح "كذبا كاملا ونهائيا"، وهو أمر تشجعه التكنولوجيا التي تسمح بالتلاعب المبتكر بالأحداث الموثقة بالصور والتسجيلات الصوتية والفيديو. والكذبة الكاملة تفتح الطريق أمام النسيان الكلي عن طريق محو أسس الوقائع. وهكذا تصمت الحقيقة وتقتل، بيد السياسة كما تؤكد سلوى بولبينا في مقالها "التاريخ بين الحقيقة والنسيان".
فكيف يمنهج داعش الكذب الكامل والنهائي؟ الإجابة تكمن ببساطة في طمس الهوية (وأقول طمس ولا أقول محو لأن الجزم بمحو الحقيقة يعني الاستسلام للواقع الداعشي الجديد)، ولا يتعلق الموضوع بالهوية السورية فحسب بل يتخطاها ليشمل العالم بأسره ممثلا بعينات "الضحايا" أي كل من يلتحق، عن قناعة (لا يعلمون بماذا تحديدا) بتنظيم أبدع في استخدام التكنولوجيا وملء الفراغ في حياة الشبان.
لكن المخيف في عصرنا الحالي هو أن النسيان لم يعد متصلا بتحوير الحقائق أو إخفائها بل بما هو أكثر إجراما بحق الإنسانية، فداعش يلجأ لنقل الصورة كما هي، بكل ما فيها من رعب وصدمة، مما يؤدي في احتمالات كثيرة لحالة إنكار لدى المشاهد. وتنشأ هذه الحالة عن ملل المتفرج أولا من تكرار المشهد نفسه، ومن فراره ثانيا من المواجهة المحتمة مع الحقيقة. فلا جدوى بعد ذلك من السخط الأخلاقي. لكن ماذا عن الذكريات التي يتركها داعش للأجيال المقبلة وتآلفها مع مشاهد الإجرام؟
هل صدق الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه حين قال إن التأريخ يأسر الناس في حالة من الأرق الفردي أو الجماعي؟ فبالنسبة إليه، لم يوجد الماضي إلا ليُترك للنسيان.. وكأن التأريخ يسجن الناس في حالة دائمة من الحداد حيث الصحة البشرية ترتكز على القدرة على نسيان البعد التاريخي للأحداث..
كل هذا يفسر قدرتنا على التعايش بشكل يومي مع أصعب المشاهد ومع إدراكنا الكامل بأن النهج الداعشي يعيدنا إلى شريعة الغاب. ذلك لأننا اعتدنا على الظلام لدرجة لم نعد بعدها نبالي بالبحث عن نافذة الضوء. وكل شيء بخير طالما الخطر بعيد عنا، نعيش كما لو أن داعش غير موجود متناسين أن تغاضينا هذا لربما سيجعلنا بحق التاريخ والبشرية دواعش بوجه آخر. دواعش ربما لأننا قد نكون ساعدنا هذا التنظيم على الانتشار بسكوتنا وسلبيّتنا.
عن الكاتبة: حسناء جهاد بو حرفوش، دكتوراه في الآداب الحديثة، متخصصة في المدونات اللبنانيّة (1914-2014) في جامعة السوربون الفرنسية وجامعة بيروت العربية. حائزة على ماجستير في الأدب الفرنكوفوني. حائزة على منحة “ميد أكوي” للتفوّق العلمي. صحافية ولها عدة ترجمات. أستاذة محاضرة في عدة جامعات لبنانية في اللغات الأجنبية والكتابة الإبداعية في الإعلام الحديث والمسرح، ولها مشاركات ومنشورات في مؤتمرات ثقافية.
لمتابعة حسناء على فيسبوك إضغط هنا.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.