تهيمن آفة الطائفية على مناح عدة في حياتنا اليومية، تتسرب مثل لوثة أبدية في السلوكيات الخاصة والعامة بشكل مباشر أو غير مباشر، يجرب البعض سترها أو التبرؤ منها أو إدعاء شفاؤه منها تحت غطاء التعايش والانفتاح، لكنه في مواجهةضغ بعض القضايا الطارئة، تجده يفشل في امتحانها، وتصحو في داخله فجأة مايسمى بـ" النعرة" الطائفية، مثل سمّ كامن زرع عميقاً على مدى سنوات في اللاوعي، حتى كأنه يسري في الدماء.
تطال الطائفية الأحوال الشخصية ومفاصل الحكم والاقتصاد والتجارة والمال من خلال المحاصصات ومنح الامتيازات لأبناء طائفة دون غيرها وخلق المظلوميات أو بالأحرى تكريسها أكثر فأكثر. وبتماسها المباشر مع الحياة العامة والخاصة، تشكل البيئات القابلة للانفجار في أي وقت، وأحد أهم أسباب العنف والحروب والتفكك، كمثل مانشهده في كثير من الدول العربية، من أبرزها لبنان كأنموذج شديد النكبة والوضوح.
هل نحن الوحيدون في هذه البلاد المنكوبون بآفة الطائفية وتجلياتها البغيضة آنفة الذكر؟
سؤال يجيب عليه المخرج البريطاني الايرلندي السير كينيث براناغ بفيلمه الجديد (بلفاست Belfast ) الذي أطلق في شهر نوفمبر 2021 الفائت، وحصد عدداً من الجوائز العالمية ورشح مؤخراً للمشاركة في مسابقة جوائز الأوسكار القادم لهذا العام، ويتضمن في محتواه رسالة مباشرة للعالم أجمع عن تلك الأثمان الباهظة التي دفعها مجتمعه في الأرواح والدمار المادي والنفسي جراء آفة الطائفية واعتبارها أحد أسباب الهجرة القسرية.
يعود المخرج بفيلمه الذي ينتمي إلى فئة أفلام السيرة الذاتية إلى صيف العام 1969، ليروي ما احتفظ به بذاكرته كطفل بروتستانتي في التاسعة من أحداث طالته وأسرته في الحي الذي كان يقطنه في بلفاست آنذاك. وهو حي بسيط للطبقة العمالية تتقاسمه أغلبية كاثوليكية مع عدد قليل من الأسر البروتستانتية، يتعرض لهجوم وأعمال عنف شرسة من قبل متشددين بروتستانت يطالبون بتنظيف الحي من قاطنيه الكاثوليك.
حالة التعايش الاجتماعي السلس والعفوي وغير المفتعل التي كانت سائدة بين الجيران ستصاب ببعض الارتجاج جراء أحداث العنف والشغب هذه وإن حرص المخرج أن لايظهرها بشكل واضح ومباشر، إذ بدا أن هدفه التركيز بشكل أكبر على الارتجاج الذي حدث داخل أسرته بحد ذاتها، والتي دافعت بقوة عن وجودها وأعنت عن رغبتها الصادقة بالاستمرار في هذا التعايش مع الجيران الكاثوليك الذين يحيطون بها بمثابة مظلة عائلية وعاطفية راسخة في جذورها.
الأسرة البروتستانتية الصغيرة التي تعاني من ضغوطات مادية كبيرة، سيضاف إلى أعبائها أكثر من سواها الضغوطات الطائفية المستجدة، لكنها ضغوطات لن تمارس من طرف جيرانها الكاثوليك، بل من أبناء الطائفة البروتستانتية ذاتها، الذين قيّم متشددوها المتعصبون هذه الأسرة البروتستانتية بأنها مارقة بل وخائنة لرفضها المشاركة في تحقيق التطلعات البروتستانتية ضد الأعداء الكاثوليك.
وستبدو محاولة حماية الوجود عبر سلوكيات التعقل والانفتاح والمحبة التي تبديها الأسرة اتجاه محيطها الكاثوليكي، غير مقبولة لدى أصحاب العقلية الطائفية ضيقة الأفق، والتي ستعتبرها استفزازاً لها بل وتمرداً صريحاً وخروجاً عن عباءة الطائفة يستدعي العقاب الشديد الذي يصل إلى محاولة القتل، وهو أمر كثيراً ماشهدنا مثله في منطقتنا، مورس ضد بعض الأفراد من قبل أولياء أمر طوائفهم، بسبب رفضهم الانصياع لهم ولسياسة القطيع الطائفية المتشددة.
لن يسهو المخرج أن يتوقف بذاكرته عند الدور الخبيث الذي يلعبه بعض رجال الدين التابعين لطائفة ما- أسقف الكنيسة البروتستانتية الجشع للمال هنا في الفيلم- من شحن مركز ونشر ثقافة الكراهية ضد الآخر والادعاء بامتلاك طائفته لطريق النجاة الالهي القويم عن سائر الطوائف الأخرى المارقة والتي ستنتهي حتماً في الجحيم.
كما لن يسهو عن رية ما يحدث في العالم في ذلك الوقت، عبر إبراز مفارقات العصر الحادة بين دول عصرية تتقدم علميا وفكريا وتنتج السينما الجميلة ذات السيارات المجنحة والبدء بغزو الفضاء عملياً، وبين مجتمع مازال أسيراً لأيديولوجياته الطائفية والعقائدية، مقيداً بخوفه ومحاطاً بالحواجز ذات الأسلاك الشائكة، يُغذّى أبناؤه ويشحنون لأجل مزيد من سفك الدماء وتبادل العنف الطائفي والكراهية.
بحنين آسر لملعب الطفولة وجدّيه الراسخين في تجذرهما في المكان والزمان، وحبه الأول لكاثرين، الطفلة الكاثوليكية المتفوقة، وبلغة سينمائية مزجت الشاعرية بالواقعية، لجأ المخرج لإبراز تناقضهما وحميمية المرحلة عبر تقنية اللونين الأبيض والأسود الموشحة ببعض المشاهد الملونة المتعلقة بالرؤى المستقبلية، خاتماً فيلمه المميز بتحية إلى من رحلوا قسراً عن بلفاست، ومنهم هو وأسرته، وإلى من بقي فيها، وإلى من فقدوا جراء أحداث العنف المتتالية.
بلفاست، فيلم ينضم إلى عدد من الأفلام التي روت كل منها فصلا من فصول الصراع المذهبي بين البروتستانت والكاثوليك، مثل فيلم (الرياح التي تهز الشعير) 2006 لمخرجه كين لوش، وفيلم (الأحد الدامي) 2002 لمخرجه بول غرينغراس، وغيرها. وهو صراع طويل الأمد دفع الأوربيون بسببه الملايين من الأرواح منذ أكثر من خمسة قرون (حرب الثلاثين عاماً)، تمكنت بعض الدول الأوربية من كبح جماحه بصعوبة مطلقة، لكنه ظل كالنار المستعرة التي التهمت الأخضر واليابس بين انكلترا وايرلندا الشمالية، إلى أن توقف الصراع التاريخي سنة 1998 بما عرف باتفاق الجمعة العظيمة.
الطائفية التي جرب الغرب أن ينجو منها ببعض العقلانية واتفاقيات السلام وبناء دول القانون والمواطنة القائمة على الحرية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وعدم التمييز بكافة أشكاله، آفة لا يمكن الجزم بزوالها بالمطلق، حيث يمكن إشعال فتنتها في أي مكان وفي أي وقت من الأوقات، وما انضمام فيلم " بلفاست" إلى قائمة الأفلام المشار إليها أعلاه، إلا محاولة سينمائية جديدة وهامة للغاية لتذكير العالم بتلك الأثمان، وحث الفرد على نبذها واستثارة وعيه، ورسالة لأولئك الذين مازالوا منغمسون في حروبهم ومخاضاتهم الطائفية مثل أحوال بلادنا، والتي هي في عمقها مشاريع سياسية كبرى تلبس باستمرار لبوس الطائفية البغيضة.