Kenneth Branagh arrives at the premiere of "Belfast" on Monday, Nov. 8, 2021, at the Academy Museum of Motion Pictures in Los…
مخرج العمل كينيث براناغ

تهيمن آفة الطائفية على مناح عدة في حياتنا اليومية، تتسرب مثل لوثة أبدية في السلوكيات الخاصة والعامة بشكل مباشر أو غير مباشر، يجرب البعض سترها أو التبرؤ منها أو إدعاء شفاؤه منها تحت غطاء التعايش والانفتاح، لكنه في مواجهةضغ بعض القضايا الطارئة، تجده يفشل في امتحانها، وتصحو في داخله فجأة مايسمى بـ" النعرة" الطائفية، مثل سمّ كامن زرع عميقاً على مدى سنوات في اللاوعي، حتى كأنه يسري في الدماء. 

تطال الطائفية الأحوال الشخصية ومفاصل الحكم والاقتصاد والتجارة والمال من خلال المحاصصات ومنح الامتيازات لأبناء طائفة دون غيرها وخلق المظلوميات أو بالأحرى تكريسها أكثر فأكثر. وبتماسها المباشر مع الحياة العامة والخاصة، تشكل البيئات القابلة للانفجار في أي وقت، وأحد أهم أسباب العنف والحروب والتفكك، كمثل مانشهده في كثير من الدول العربية، من أبرزها لبنان كأنموذج شديد النكبة والوضوح. 

هل نحن الوحيدون في هذه البلاد المنكوبون بآفة الطائفية وتجلياتها البغيضة آنفة الذكر؟   

سؤال يجيب عليه المخرج البريطاني الايرلندي السير كينيث براناغ بفيلمه الجديد (بلفاست Belfast ) الذي أطلق في شهر نوفمبر 2021 الفائت، وحصد عدداً من الجوائز العالمية ورشح مؤخراً للمشاركة في مسابقة جوائز الأوسكار القادم لهذا العام، ويتضمن في محتواه رسالة مباشرة للعالم أجمع عن تلك الأثمان الباهظة التي دفعها مجتمعه في الأرواح والدمار المادي والنفسي جراء آفة الطائفية واعتبارها أحد أسباب الهجرة القسرية. 

يعود المخرج بفيلمه الذي ينتمي إلى فئة أفلام السيرة الذاتية إلى صيف العام 1969، ليروي ما احتفظ به بذاكرته كطفل بروتستانتي في التاسعة من أحداث طالته وأسرته في الحي الذي كان يقطنه في بلفاست آنذاك. وهو حي بسيط للطبقة العمالية تتقاسمه أغلبية كاثوليكية مع عدد قليل من الأسر البروتستانتية، يتعرض لهجوم وأعمال عنف شرسة من قبل متشددين بروتستانت يطالبون بتنظيف الحي من قاطنيه الكاثوليك.  

حالة التعايش الاجتماعي السلس والعفوي وغير المفتعل التي كانت سائدة بين الجيران ستصاب ببعض الارتجاج جراء أحداث العنف والشغب هذه وإن حرص المخرج أن لايظهرها بشكل واضح ومباشر، إذ بدا أن هدفه التركيز بشكل أكبر على الارتجاج الذي حدث داخل أسرته بحد ذاتها، والتي دافعت بقوة عن وجودها وأعنت عن رغبتها الصادقة بالاستمرار في هذا التعايش مع الجيران الكاثوليك الذين يحيطون بها بمثابة مظلة عائلية وعاطفية راسخة في جذورها. 

الأسرة البروتستانتية الصغيرة التي تعاني من ضغوطات مادية كبيرة، سيضاف إلى أعبائها أكثر من سواها الضغوطات الطائفية المستجدة، لكنها ضغوطات لن تمارس من طرف جيرانها الكاثوليك، بل من أبناء الطائفة البروتستانتية ذاتها، الذين قيّم متشددوها المتعصبون هذه الأسرة البروتستانتية بأنها مارقة بل وخائنة لرفضها المشاركة في تحقيق التطلعات البروتستانتية ضد الأعداء الكاثوليك. 

وستبدو محاولة حماية الوجود عبر سلوكيات التعقل والانفتاح والمحبة التي تبديها الأسرة اتجاه محيطها الكاثوليكي، غير مقبولة لدى أصحاب العقلية الطائفية ضيقة الأفق، والتي ستعتبرها استفزازاً لها بل وتمرداً صريحاً وخروجاً عن عباءة الطائفة يستدعي العقاب الشديد الذي يصل إلى محاولة القتل، وهو أمر كثيراً ماشهدنا مثله في منطقتنا، مورس ضد بعض الأفراد من قبل أولياء أمر طوائفهم، بسبب رفضهم الانصياع لهم ولسياسة القطيع الطائفية المتشددة. 

لن يسهو المخرج أن يتوقف بذاكرته عند الدور الخبيث الذي يلعبه بعض رجال الدين التابعين لطائفة ما- أسقف الكنيسة البروتستانتية الجشع للمال هنا في الفيلم-  من شحن مركز ونشر ثقافة الكراهية ضد الآخر والادعاء بامتلاك طائفته لطريق النجاة الالهي القويم عن سائر الطوائف الأخرى المارقة والتي ستنتهي حتماً في الجحيم. 

كما لن يسهو عن رية ما يحدث في العالم في ذلك الوقت، عبر إبراز مفارقات العصر الحادة بين دول عصرية تتقدم علميا وفكريا وتنتج السينما الجميلة ذات السيارات المجنحة والبدء بغزو الفضاء عملياً، وبين مجتمع مازال أسيراً لأيديولوجياته الطائفية والعقائدية، مقيداً بخوفه ومحاطاً بالحواجز ذات الأسلاك الشائكة، يُغذّى أبناؤه ويشحنون لأجل مزيد من سفك الدماء وتبادل العنف الطائفي والكراهية. 

بحنين آسر لملعب الطفولة وجدّيه الراسخين في تجذرهما في المكان والزمان، وحبه الأول لكاثرين، الطفلة الكاثوليكية المتفوقة، وبلغة سينمائية مزجت الشاعرية بالواقعية، لجأ المخرج لإبراز تناقضهما وحميمية المرحلة عبر تقنية اللونين الأبيض والأسود الموشحة ببعض المشاهد الملونة المتعلقة بالرؤى المستقبلية، خاتماً فيلمه المميز بتحية إلى من رحلوا  قسراً عن بلفاست، ومنهم هو وأسرته، وإلى من بقي فيها، وإلى من فقدوا جراء أحداث العنف المتتالية. 

بلفاست، فيلم ينضم إلى عدد من الأفلام التي روت كل منها فصلا من فصول الصراع المذهبي بين البروتستانت والكاثوليك، مثل فيلم (الرياح التي تهز الشعير) 2006 لمخرجه كين لوش، وفيلم (الأحد الدامي) 2002 لمخرجه بول غرينغراس، وغيرها. وهو صراع طويل الأمد دفع الأوربيون بسببه الملايين من الأرواح منذ أكثر من خمسة قرون (حرب الثلاثين عاماً)، تمكنت بعض الدول الأوربية من كبح جماحه بصعوبة مطلقة، لكنه ظل كالنار المستعرة التي التهمت الأخضر واليابس بين انكلترا وايرلندا الشمالية، إلى أن توقف الصراع التاريخي سنة 1998 بما عرف باتفاق الجمعة العظيمة. 

الطائفية التي جرب الغرب أن ينجو منها ببعض العقلانية واتفاقيات السلام وبناء دول القانون والمواطنة القائمة على الحرية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وعدم التمييز بكافة أشكاله، آفة لا يمكن الجزم بزوالها بالمطلق، حيث يمكن إشعال فتنتها في أي مكان وفي أي وقت من الأوقات، وما انضمام فيلم " بلفاست" إلى قائمة الأفلام المشار إليها أعلاه، إلا محاولة سينمائية جديدة وهامة للغاية لتذكير العالم بتلك الأثمان، وحث الفرد على نبذها واستثارة وعيه، ورسالة لأولئك الذين مازالوا منغمسون في حروبهم ومخاضاتهم الطائفية مثل أحوال بلادنا، والتي هي في عمقها مشاريع سياسية كبرى تلبس باستمرار لبوس الطائفية البغيضة.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.