جابر عصفور
جابر عصفور

لم يكتف العام 2021 بأحزاننا اللبنانية، فخصنا والوسط الثقافي العربي، برحيل الصديق المفكر والناقد والمعلم الكبير جابر عصفور.

عندما وصلني بريدا إلكترونياً من مختبر السرديات بالدار البيضاء نصاً أعدّه بعنوان:"جابر عصفور ومشروع البناء الثقافي"، قبل يومين أو ثلاثة من وفاته، قلقت، إذ اعتقدت قبل أن أفتح البريد أنه سيحمل الخبر المحزن؛ خصوصاً أن المرض كان قد أثقل عليه مؤخراً. لكنه كان تحية للراحل، وعرضاً لإنجازاته، وكأنهم كانوا يهجسون به.

تعرفت على الراحل في العام 1999، عندما جاءتني دعوة من المجلس الأعلى للثقافة، الذي كان يترأسه، للمشاركة بفعاليات مئوية قاسم أمين.

اكتشفت شخصية تبدّل رأيك وآرائك المسبقة حول المسؤول الحكومي العربي. تجد قبالتك مثقفاً قبل أي شيء آخر، حيوي ودمث، موسوعي المعرفة، له مواقف نضالية تجاه التعصب، ديني وغير ديني، ملتزم بقضايا الثقافة والمثقفين والقضايا العربية.

أذكر يومها أنني التقيت لأول مرة، بمن أصبحوا أصدقاء لي، من فلسطينيي إسرائيل، ولمست مقدار سعادتهم بدعوتهم للمشاركة لأول مرة بفعالية ثقافية في بلد عربي سمح لهم بالتعرف والتواصل مع مثقفين عرب. وكأن الدعوة أعادت لهم هويتهم العربية المشكوك بها حتى الآن. كان تعطشهم للتعرف علينا لا يوصف، وكان انتماؤهم إلى العالم العربي حلماً تحقق  أخيراً وانتظروا أن يتم التعامل معهم كفلسطينيين وكعرب صمدوا في وطنهم وليس كعملاء لإسرائيل. لكن عبثاً، فوجئت يومها بأن الراحل هوجم في صحيفة أخبار الأدب المصرية وتهمته أنه دعا إسرائيليين إلى المؤتمر وأنه من المطبّعين مع إسرائيل!!

عندما عاتبت لاحقاً صديقي عزت القمحاوي، الذي كان يعمل بالصحيفة على هذ الموقف، نفى صلته بالموضوع.  يبدو أن الراحل جمال الغيطاني كان المسؤول عن تلك الحملة الظالمة لجابر عصفور ولضيوفه الفلسطينيين، الإسرائيليين بسبب تمسكهم بأرضهم. فوجودهم وحده الآن يؤكد فلسطينية الأرض المحتلة.

أشير إلى هذا الموضوع لألقي الضوء على اختلاف جابر عصفور وسعة أفقه ورحابته في فهم الأمور، مقابل فئة من الصحفيين والمثقفين العرب، الذين يغلب عليهم الجمود والتعصب والآراء المسبقة.  فالمثقفين العرب الممانعين والتقليديين يشتهرون باستسهال إدانة الآخر واتهامه بالخيانة، كوسيلة وحيدة لتبرئة أنفسهم، في الوقت الذي يتنعمون به في قصور الاستبداد العربي.

إن من أسهل الأمور الالتحاق بالقطيع وجلد كل من  يستقل بقناعاته عنهم. فهذا أقل كلفة ويعفي من تحمل مسؤولية الخيارات.

ولقد أشار الزميل حازم الأمين في مقالته "فلسطينيوهم وإسرائيليونا" إلى نموذج عن تلك الحادثة في "الحكم الجائر وغير المفهوم الذي أصدره قاضٍ عسكري لبناني بحق المواطن محمد بنوت، وتهمته أنه أحب وتزوج من حلا وهي من عرب إسرائيل وتعمل ممرضة في ألمانيا، هو مناسبة أخرى لاستعراض واقع الأقلية العربية في إسرائيل..".

إشكالية أخرى حصلت مع جابر عصفور عندما تولّى منصب وزير ثقافة بعد اندلاع ثورة يناير 2011. وقتها أصدر مثقفون مصريون بياناً أدانوا فيه "الموقف المخزي لعصفور لقبوله تولي حقيبة وزارة الثقافة في نظام لفظه الشعب بكل أطيافه".

أذكر أنني احترت في تفسير قبوله الوزارة في اللحظات الأخيرة من حكم حسني مبارك عام 2011. يبدو أن التفسير الوحيد لذلك علاقته الإنسانية والشخصية بالرئيس مبارك. إنه نوع من حفظ الود وعدم التخلي، في اللحظات الصعبة، عن مسؤول كان قريباً منه وعمل معه طويلاً، إذ يبدو أن حفظ الود كان من سمات الراحل. فالملفت أن كلمات العزاء في رحيله عبّرت عن الاعتزاز بالمودة رغم الخلاف. فلقد سبقت الكثير من الكتابات الوداعية جملة "رغم اختلافي مع بعض مواقفه". لقد استطاع الراحل أن يحتفظ بالاحترام والمودة مع الجميع رغم الخلافات العميقة. لذا أجدني أميل لوضع قبوله تحمل مسؤولية تلك الوزارة في سياق شخصيته المحبة. ومع أنه لم يبق في منصبه سوى عدة أيام استقال بعدها، إلا أنها كانت معركة خرج منها خاسراً. 

جابر عصفور لم يشتبك فقط مع المثقفين، كانت له أيضاً معارك مع الجماعات الدينية المتطرفة وحتى مع الأزهر نفسه في 2014 عندما حظرت المؤسسة الدينية عرض فيلم "نوح" لأن تجسيد شخصية النبي نوح، خالف تعليمات الشريعة. "الأزهر لا يسيطر علينا. بل نخضع للدستور"، قال عصفور. "لا يوجد في الشريعة ما يمنع تجسيد شخصية الأنبياء. وفقهاء الأزهر لا يعرفون ما يتحدثون به". في السنة نفسها، نشر مقالاً في صحيفة "الأهرام" كتب فيه: "الخطاب الديني ليس هو الدين، ونصوصه غير مقدسة. هذا الخطاب هو ترجمة لفهم الإنسان للكتابات المقدسة".

ولقد تظهّر نشاطه الاصلاحي في ندوات مؤتمرات الاصلاح التي عقدت في مصر طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ولعلّ افضل وصف له ذلك الذي قدمه سيد ضيف الله، أستاذ النقد الأدبي: "بأنه كان في كل مكان حلّ فيه بمثابة رُمانة ميزان... كان بشخصيته القوية ومعرفته الموسوعية ورؤيته الواقعية جسرًا بين أحلام المثقف الثوري والواقع السياسي والاجتماعي لمصر".

أذكر أني عندما دعيت للكتابة عن السيد هاني فحص عند وفاته، كتبت أنه كان السيد الذي صالحني مع فكرة رجل الدين بتقديمه نقيض النموذج التقليدي الجامد - المتزمت والرافض لتطوير الفهم الديني. وعلى هذا المنوال أجد أن جابر عصفور صالح بشخصه المثقف مع السلطة السياسية. فلقد استطاع أن يكون كما وصفه مختبر السرديات في الدار البيضاء:"واحداً من من كبار النقاد والفاعلين الثقافيين في مصر والعالم العربي ، أستاذا جامعيا وباحثا أكاديميا ومشرفا ومسؤولا ووزيرا وإنسانا استطاع أن يؤسس لتجارب جديدة وينهض بالثقافة والتنوير ويدافع عن حرية التعبير."

وكأنني به في قبوله بتلك المهمة الصعبة، التي فشل فيها وأبدى ندمه عليها كل من ريجيس دوبريه وأندريه مالرو، حاول التصدي لواقعنا العربي ووجد أنه كمثقف متنور وحامل للقضايا العربية سيكون أكثر فائدة في تحمّل تلك المهمة الشاقة. بينما كان باستطاعة ريجيس دوبريه ومالرو تقديم ما هو أفضل بتفرغهما للانتاج الفكري والأدبي. 

لقد استطاع جابر عصفور في منصبة كأمين عام المجلس الأعلى للثقافة أن ينشّط كياناً تقليدياً جامداً وينطلق في نشاطات على وسع المنطقة العربية، بحيث جعل منه بيت الثقافة العربية الذي يجمع بين المثقفين والمبدعين العرب، إلى جانب الانفتاح على أبرز مفكري العالم ومثقفيه من أمثال: مارتن برنال، وبيتر جران، وجوست سمايرز، وجاك دريدا، وآلان روب جرييه، وميشيل فيفيوركا، وموريس جودلييه، وميشيل بوتور، وأندريه ريمون، وروجر ألن، وأمبرتو إيكو وغيرهم كثر...

أما أهم إنجازاته فيبقى المشروع القومي للترجمة، الذي نجح بعد عشر سنوات بإصدار أكثر من ألف عنوان، قدم من خلاله نصوصاً من أكثر من ثلاثين لغة مختلفة.

ناهيك عن إنجازاته الشخصية طوال أكثر من أربعين عاما أغنى خلالها بكتاباته المجلات الثقافية والصحف، وقدم دراساته النقدية الأكاديمية والكتب التي تناولت موضوعات متنوعة ما بين قضايا الأدب العربي القديم والحديث والمعاصر، والتعريف بالاتجاهات النقدية العالمية الى جانب اهتمامه بقضايا المرأة.

إن رحيله خسارة كبيرة للثقافة العربية.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.