فيلم "أصحاب ولا أعز" يثير الجدل فنيا ومجتمعيا
فيلم "أصحاب ولا أعز" يثير الجدل فنيا ومجتمعيا | Source: Social media

إلى اليوم، ما زلنا نسمع عن حجب موقع إلكتروني ما في بلد ما، أو التشويش على بعض مواقع البث الفضائي، أو منع عمل قناة أو أية وسيلة إعلامية على الأرض وسجن مراسلها في بعض الأحيان، تحت ذرائع عدة من بينها أن هذه الوسيلة الإعلامية معادية أو غير مرخصة أو غيره.  

قد تكون هذه الذرائع محقة وتطال السيادة أحيانا، لكن ما تبين في كثير من الحالات، أن بعض الوسائل الإعلامية المغضوب عليها كشفت في الغالب ما لا يجب كشفه للعامة، وأغضبت سلطات دولة ما، وأحرجت سياساتها التي رُسمت على أساس استراتيجيات ممنهجة تسعى لتغييب الحقائق عن شعبها. 

كما أن بعض هذه الدول المتمرسة في حجب الحقائق، لاتكتفي فقط بهذا الحجب، بل تجتهد لتقديم روايات مغايرة تتلاعب بها بالحقائق وتزييفها أمام شعوبها عبر وسائل إعلامها المحلية، لتثبت دوما أن السماء صافية والعصافير تزقزق، وكل الأمور عل خير مايرام.  

في بعض هذه الدول، لا تنحصر هذه العقلية بالسلطة السياسية، بل تتماهى معها بعض السلطات الدينية والاجتماعية، التي تبدو في مواجهة بعض الوقائع ومكاشفاتها، أكثر قسوة وتطرفا من بعض السلطات الرسمية، وهو ما حدث تقريبا مع هذه الفوضى العارمة من عقلية التحريم التي رافقت فيلم "أصحاب ولا أعز" الذي أنتجته Netflix بنسخته العربية. 

تكذيب الحقائق أو إنكارها هو فحوى الفيلم الذي يتمحور في عمقه عن الحقائق الصادمة التي كشفتها لعبة الهواتف النقالة لشخصيات الفيلم. أي أننا - على سبيل المثال - إذا استبدلنا المشاهد الجريئة التي تسببت بكل هذه الصدمة بلعبة أخرى تكشف فيها الهواتف عن شخصية تاجر مخدرات متنكر بزي تقي، وموظفة مختلسة، وابن عاق، وثالث لص، ورابع لديه زوجة أخرى سرا، و.. الخ. هل يتغير وقع الصدمة اجتماعيا؟ 

في الواقع، كل ما تقدم في الفيلم، أو في المثال المرافق، هي قضايا موجودة في عمق مجتمعاتنا، وليست مؤامرة يحيكها الغرب ويسعى لإيقاع مجتمعاتنا الطاهرة في حبائلها. أضف إلى ذلك، أن مثل هذه القضايا موجودة في جميع مجتمعات العالم، الفارق بينها أن بعض المجتمعات لا تطالب بطمس الحقائق حال معرفتها بها، بل تسعى إلى المعالجة والمحاسبة بحسب طبيعتها إن اقتضى الأمر. 

على سبيل المثال، يحقق في مثل هذه الأوقات مع رئيس الوزراء البريطاني بسبب غضب المجتمع بعد علمه بقصة الحفل الذي أقامه في بيته مع بدء انتشار جائحة كورونا. كما يحاسب أي مسؤول غربي ونجوم المجتمع وكافة رموزه دون استثناء، لقضايا فساد أخلاقي أو لفضائح جنسية (الرئيس كلينتون مثالا)، أو لأي تجاوزات مسلكية أخرى، دون أن نسمع مرة واحدة عن مسؤول أو رمز عربي حوسب باتهامات مماثلة رغم معرفة مجتمعه بقصصه والتهامس حولها سرا. 

الحفاظ على القيم ليس شأنا عابرا يخص مجتمعات دون غيرها، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف الثقافات وهوامش الحريات العامة والفردية المتاحة في دساتير الأمم. لكن الجوهر العام الذي يتلخص في الحفاظ على البنية الأخلاقية الاجتماعية يبقى واحدا ومتشابها في كل مكان، بحيث لا يقل من حيث المبدأ حرص الأسرة الغربية على سلوكيات أبنائها عن حرص الأسرة العربية أو غير العربية على أبنائها، وإن اختلفت أساليب المعالجة والمكاشفة اختلافا جوهريا. 

في ما يتعلق بما أثير ضد فيلم "أصحاب ولا أعز" ونجومه، لابد من التساؤل إن كانت من القيم الرفيعة مطالبة بعض الغاضبين الفنان أحمد حلمي تطليق زوجته النجمة منى زكي؟ وهل سيستريح ضمير المجتمع الذي يخشى التفكك حين يدعو أو يساهم في تفكك أسرة وخرابها، كما طالبوا سابقا في دعوى التفريق ضد المفكر الإسلامي الراحل نصر حامد أبو زيد؟ وعلى أية قيمة وعادات تستند مثل هذه المطالبات التي تمارس مثل هذه الفاشية الفاضحة ضد حياة الآخرين؟  

يحق للمجتمعات الحفاظ على قيمها وعاداتها عبر الوعي وليس عبر إخفاء الرأس مثل النعامة. وأحد أبرز السبل لمعالجة المشكلات الاجتماعية تكمن اليوم في الدراما، التي لا تتآمر بخبث ضد الجماهير البريئة، ولا تسعى إلى هدم أسس المجتمعات، بل إلى تعرية بعض مثالب الواقع والإضاءة على الحقائق المسكوت عنها، لأجل الاصلاح وليس العكس. 

يحكى أن مسرحية كانت تنتقد نظام رئيس عربي راحل، ولما نقل له رجاله الأمر وانتظروا إيعازه لإيقافها، طلب منهم عدم التدخل أو مضايقة صناع المسرحية بقوله لهم: "إن كانت مسرحية ستهز أركان نظامي، فما مدى هشاشة هذا النظام"؟  

ينطبق الأمر بالمثل على ما يتكرر كل حين في مجتمعاتنا من غضب كاسح بسبب بعض مقاطع الفيديو في السوشال ميديا، أو المشاهد التي تظهر في بعض أعمال الدراما، وتستدعي سؤالا جديا حول مدى الحصانة التربوية والأخلاقية الأسرية التي يكتسبها المرء وتمنحه ذخيرة وقوة الاختيار في اختبارات الحياة، والتي تفترض قوة قيمه وعاداته بحيث لا تعاني كل حين من هشاشة تستدعي التنبه الحقيقي وعلاجها وإعادة النظر في مكامن ضعفها.  

من حسن الحظ أن المشاهدة الحديثة أباحت تعددية القنوات وتعدد محتوياتها وتعدد الجماهير المستهدفة، وهي ميزة علينا أن نتشبث بها، فمن لا يعجبه محتوى ما، يمتلك حريته لتغيير القناة بكبسة زر دون كثير من العصبية ومحاولة تغيير العالم. كما يمكنه عدم الاشتراك في  كل ما تقدم والتخلص من هذا القلق، أو اختيار مايلائمه من محتوى إعلامي يظهر السماء صافية والعصافير تزقزق، تطمئن له نفسه، ويطمئن على أسرته ومجتمعه، وينام سعيدا لأن كل الأمور على خير ما يرام.  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.