المناخ - الأراضي الفلسطينية - قطاع غزة
"استحالة تحطيم الأنظمة تبدو أولاً كدافعٍ لنوع من التفكير السياسي"

يبدو المشهد الإقليمي في مختلف دول المنطقة مزدحماً بعدد من الأفعال والتحركات السياسية، التي كانت ستبدو غريبة وشبه مستحيلة، لو حدثت حتى قبل سنة واحدة من الآن. 

يُمكن سرد أعداد لا تُحصى من الأمثلة على ذلك: رئيس النظام السوري، بشار الأسد، يزور الإمارات، والولايات المُتحدة تُعلن صدمتها من الزيارة. إيران تفقد كُل أملٍ بمصالحة القوى السياسية الشيعية العراقية، التي يتفق نصفها مع باقي القوى السياسية العراقية، وعلى حِساب النصف الآخر.

اجتماعات مكوكية لقادة المعارضة التركية، وإعلان حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي المعارض سعيه لحل المسألة الكُردية في البلاد. معلومات عن سعي الحكومة التركية إغلاق مكاتب الائتلاف السوري المعارض.

تصريحات لولي العهد السعودي تُشير إلى رغبة المملكة بحصول توافقات سياسية مع إيران. حضور سياسي إسرائيلي كثيف في مختلف ملفات المنطقة، ودون أي ضجة. الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، يزور الإمارات ويستقبل الرئيس الإسرائيلي... إلخ. 

في كل تلك الأمثلة، وغيرها الكثير، ثمة إشارات واضحة تدل على أن مجموع الدول والأنظمة والقوى السياسية في المنطقة صارت تعد حساباتها وتتفاعل فيما بينها بمزيج من الحذر الشديد والواقعية التامة.

مغادرة مرحلة التصعيد المطلق والنوازع الجذرية التي كانت تتبادلها. شيء يشبه المشهد الذي كان عند بوابة ماندلباوم شمال مدينة القدس القديمة في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. 

في تلك السنوات، وبعد عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، اللذين شهدا فورة من التصعيد الإيديولوجي والسياسي والعسكري بين الإسرائيليين ونظرائهم الفلسطينيين، في ظلال الانتداب البريطاني، والتي توجت بحرب عام 1948 القاسية للغاية، اكتشف الطرفان في المحصلة عدم قدرة أي منهما على فرض شروطه على الآخر، بما في ذلك إمكانية السيطرة على مدينة واحدة مثل القدس.

فضلاً عن كمية الملفات المتداخلة ومستحيلة الفصل فيما بينهما، كالسُكان والاقتصاد والأماكن المُقدسة والحقوق الدينية والوثائق البيروقراطية والحاجات اليومية والعلاقات الدولية.. إلخ. 

كانت بوابة العبور التي تأسست شمال مدينة القدس في السنوات التي تلت الحرب، والتي سُميت على اسم مالك العقار التي تأسست البوابة بالقرب من منزله "بوابة ماندلباوم"، تعبيراً واقعياً عن ذلك التموضع الذي تشكل بناء على مجموع الحقائق التي كانت على أرض الواقع وقتئذ. 

إذ كان ثمة كراهية ثقافية واجتماعية وصراع سياسي وحرب عسكرية متبادلة من طرف، لكن أيضاً حاجات وأشكال من المصالح المتبادلة واعتراف باستحالة القضاء الجذرية على الند المقابل، من طرف آخر.

لذا، وإن كان ثمة استبعاد للمصالحة والسلام والوئام الناجز، إلا أن البوابة الفاصلة كانت تشهد أشكالاً من التواصل والاعتراف والتهدئة المطولة، واعترافاً بأولوية الوقائع على الأفكار والأيديولوجيات والنوازع. فمن تلك البوابة مرّ رجال الدين والإعلاميون والموظفون الأمميون والسياسيون وقوافل المساعدات الاقتصادية والحجاج، كانت كلها أشياء مبنية على توافقات غير مُعلنة، وعلى قبول متبادل بتخفيض مستويات المواجهة، وعلى طرفيها تبادل الجنود نظرات الاحتقار دون أي إمكانية لفعل شيء، وتعاون الطرفان لتسهيل الأوراق والاستجابة للكثير من الوقائع الإنسانية والحاجات المُلحة المتبادلة.

اليوم، في منطقتنا ثمة الكثير منذ ذلك.

إذ ثمة إحساس جماعي باستحالة بعض الديناميكيات التقليدية التي كانت طوال العقدين الماضيين من إحداث تغيرات دراماتيكية واضحة في المشهد الإقليمي. تلك التي كانت فاعلة طوال السنوات الماضية، وصارت عديمة الإنتاجية، وليس من أي آمال معقودة عليها راهناً، تلك التي يُمكن ضبطها بأربعة مستويات على الأقل، تعرفها مختلف القوى والأنظمة والفاعلين في المنطقة، وتأخذها تفصيلاً في حساباتها وسلوكياتها السياسية.

فمن طرف تبدو الأنظمة السياسية شديدة الرسوخ في وقائع دولها وتفاصيل مجتمعاتها وحقائق الحياة العامة في بلدانها، لم يعد التفكير بإمكانية تغييرها مُتاحاً بسهولة، خصوصاً وأن مختلف التجارب فشلت في تنفيذ وإحداث شيء من ذلك طوال العقدين الماضيين. فحتى البلدان التي سقط رؤساءها، رجعت وأعادت هيكلة بنيانها من جديد. 

يمتد قوس الاستحالة هذا من الجزائر إلى إيران، مروراً بسوريا ومصر والسودان وغيرها من البلدان. لكن استحالة تحطيم الأنظمة تبدو أولاً كدافعٍ لنوع من التفكير السياسي الذي ما عاد يأخذ في حساباته مثل تلك الإمكانية، وصار أكثر واقعية في التصرف مع أنماط الأنظمة الراهنة، أياً كان العداء لها من قبل، وأياً كانت وحشية وسلوكيات هذا النظام.

كذلك يبدو التناحر الهوياتي، الطائفي تحديداً، والشيعي السُني منه بالذات، دون أي طائل أو قيمة مضافة، حتى بالنسبة لأكثر المستثمرين فيه والساعين لاستخدامه. الأمر نفسه ينطبق على باقي خيارات صراعات الهوية التي كانت في المنطقة. 

فالجملة التي قالها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، خلال مقابلته الأخيرة مع مجلة "ذا أتلانتيك" تبدو اختصاراً شديداً للمحصلة السياسية لمثل تلك النوازع، إذ قال: "ليس بإمكاننا التخلص منهم، وليس بإمكانهم التخلص منا". الشيء نفسه ينطبق على ثنائية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني/العربي، وعلى المسألة الكُردية في تركيا، وإلى حد كبير على صراع الجماعات اليمنية ونظيرتها اللبنانية. 

البعد الثالث يتعلق بالوهن الشديد الذي صار يُصيب المجتمعات في مختلف دول المنطقة. ذلك الوهن المتأتي من شبكة ضخمة من أشكال القنوط، السياسي والاقتصادي والبيئي والأيديولوجي. صار الناس في مختلف هذه البلدان أقل استعداداً للاستماع للحكايات الكُبرى والتطلعات العابرة للحدود، وأكثر ميلاً للانشغال بالمساحات الأضيق لأشكال حياتهم الداخلية واليومية. 

يشكل العراق مثالاً واضحاً عن ذلك المعطى، وكيف أن الاستراتيجيات الكبرى وصراعات الهوية غدت أشياء غير ذي معنى أمام سعي الناس لتغيير ظروف حياتها الأكثر مباشرة، الأمر نفسه ينطبق على السوريين واللبنانيين واليمنيين، وبنسب متفاوتة مختلف المجتمعات التي عانت سنوات الحرب والإصرار على نوع من الميول السياسية القطعية.

هذا القنوط هو دافع للقوى الحاكمة والفاعلة لأن تكون أكثر وضوحاً ومباشرة في سياساتها وخياراتها الاستراتيجية، وأقل مواربة ومبادلة للأكاذيب المتفق عليها مع مجتمعاتها هذه.  

أخيراً، فإن الفشل الروسي في المعركة الأوكرانية يبدو فاعلاً قوياً ودافعاً في هذه الأوقات بالذات. 

فالفشل الروسي يأتي عقب الانسحاب والفشل الأميركي في أفغانستان، وتالياً هو نوع من الإقرار والتأكيد على دخول العالم مرحلة من استحالة قدرة أي دولة عالمية، أياً كانت قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، على إحداث تغيرات جذرية في دواخل الدول وفي شبكة علاقاتها وتوازنات القوى داخلها، بشكل سريع وفعال.

وهو ما يدفع مختلف قوى المنطقة لأن تعيد حساباتها وكأن هذه القوى الخارجية غير موجودة. تلك القوى الخارجية التي كانت حتى قبل سنوات قليلة الفاعل المهمين الأول، في مختلف مناطق العالم، لكن بالذات في منطقتنا.  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.