بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا من حيث انتهى سلفه السوفياتي لأفغانستان، ويبدو أن نهاية الحرب الثانية (الأوكرانية) التي بدأت تظهر ملامحها لن تكون أقل كارثية من الأولى (أفغانستان). فالمشهد الأوكراني لا يختلف عن الأفغاني إلا بسرعة استجابة الدول الغربية لمطالب الأوكران و إمدادهم بالسلاح الفتاك الذي ساعد سريعا في فرض متغيرات ميدانية أفشلت أهداف الغزو، وكان له دور في تمكن الجيش والمقاومة الأوكرانية من استعادة المبادرة.
في المشهد الأفغاني الجديد، سقطت أوهام فلاديمير بوتين ليس فقط بالحسم السريع بل حتى في إمكانية تحقيق نصر ولو جزئي، والواضح أن أولوياته قد تراجعت تدريجيا من احتلال كييف إلى محاصرتها ومن التوغل غربا إلى التراجع شرقا، بعد فشل جميع محاولات التقدم نحو المدن الكبرى، أو تحقيق منجز ميداني استراتيجي يوقف مسلسل الفشل العسكري المتتالي على الجبهات كافة.
في أفغانستان تمكن جيش الأربعين السوفياتي (120 ألف جندي) مع ترسانة ضخمة من الدبابات والآليات ودعم جوي كامل، من احتلال أفغانستان خلال أيام، كما استطاع حينها 54 فردا من وحدات العمليات الخاصة (الفا و زينيث) السيطرة على عدد من المباني الحكومية في كابل خلال ساعات واغتيال الرئيس الأفغاني (حفظ الله أمين)، وهذا ما فشل فيه جيش بوتين الجرار الذي دفع بأكثر من 170 ألف جندي مع ترسانة ضخمة من الدبابات و الطائرات إضافة إلى استخدام صواريخ استراتيجية في المعركة، إضافة إلى أن وحداته الخاصة لم تتمكن من تحقيق أي هدف بل أن هناك تسريبات صحفية عن وقوع الوحدة الخاصة بكمين في مطار قرب العاصمة كييف وبأن الجيش الأوكراني تمكن من ضرب الطائرة التي كانت تقل 22 فردا من مقاتلي (الالفا).
المفارقة القاتلة في المقارنة بين الغزوين، أن السوفيات سيطروا على 80% من أراضي أفغانستان وكانت المقاومة الأفغانية تسيطر على أقل من 5% من الأراضي الأفغانية، فيما يمكن القول إن 80% من الأراضي الأوكرانية لم تزل مساحة حرة للجيش والمقاومة الأوكرانية حتى في إقليم دونباس وعلى سواحل البحر الأسود حيث لم يستطع الجيش الروسي من التقدم داخل مدينة أوديسا.
إذن، يمكن القول من الناحية التكتيكية أن قواعد الاشتباك باتت لصالح الأوكران برغم تفوق الروس الاستراتيجي، هذا التحول ينذر بحرب طويلة الأمد، سيدخل عليها عامل المقاومة، أي الحرب غير النظامية التي يقودها متطوعون أوكران وأجانب يملكون كفاءات قتالية عالية جدا ويستخدمون أسلحة متطورة قادرة على الفتك بالجيش الروسي، وهذا ما يحاول الكرملين استدراكه من خلال تغير استراتيجية الغزو، لذلك فإن روسيا باتت مضطرة لتقليص عدد الجبهات المفتوحة والتراجع ميدانيا لأنها لم تعد قادرة على تأمين القوة الكافية لتغطية عمليتها المفتوحة. وهذا ما قد يكون وراء قرار الانسحاب من محيط العاصمة كييف ومدن أخرى في الشمال الأوكراني.
ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز، فإن "الوحدات الجوية والبرية والبحرية الروسية المشاركة في المعركة مفككة، وتعاني من ضعف الخدمات اللوجستية وانخفاض الروح المعنوية للجنود، إضافة إلى غياب قائد للعمليات، ما أثر مباشرة على حركة الوحدات القتالية، كما أشارت الصحيفة إلى مقتل ما بين 7-15 ألف عسكري روسي في المعركة". هذا يمكن تفسيره بأن بوتين وفريقه العسكري والأمني قد استخفوا بفكرة المقاومة الأوكرانية، وأنه امتلك صورة وهمية عن وضع أوكرانيا الداخلي وخصوصا العسكري حيث أن الجيش الذي دعاه إلى الاستسلام في أول أيام الحرب يملك الآن روحا معنوية وقتاليه فيما عدد من جنوده يفرون من ساحة المعركة، وتسيطر على العدد الأكبر منهم هواجس أفغانية.