بينما مرت الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، الحاكم لسوريا منذ قرابة ستين عاماً، بقي السؤال الأكثر حراجة وصميمة في عالم الاجتماع السياسي السوري معلقاً دون جواب، وحتى دون طرح أساساً.
هل سوريا الراهنة، بكامل طيف فظاعاتها وتدهور أحوالها، بالطبائع العمومية لمجتمعها واقتصادها ومسيرتها المعاصرة، هل هي نتيجة أفعال حزب البعث واستراتيجياته وعقليته وأيديولوجيته؟ أم أن سوريا بخصائصها الكيانية وطبيعة نخبها ونوعية ظرفها التاريخي وتاريخ العلاقات بين جماعاتها الأهلية، هي التي أنتجت وأفرزت حزب البعث؟ وحيث أن حزب البعث هذا، بكل أفعاله وخصائصه، ليس إلا منتجاً موضوعياً لهذه البنية السورية الأعمق والأكثر موضوعية؟
بقاء هذه السؤال مقموعاً ومهمشاً طوال ستة عقود من حُكم حزب البعث للدولة السورية، يُعطي أكثر من نصف الإجابة على ذلك السؤال.
وما يؤكد على ذلك القمع والتهميش للسؤال يأتي من مدى ما يتسبب به من جرح للذات الجمعية للسوريين وعقلية نخبهم السياسية والاجتماعية والأهلية، الرافضين للاعتراف بجذرية العقل والروح البعثية في هذه الذات.
ويشير السؤال بوضوح إلى أن البعث في التاريخ السوري كان على الدوام أكبر وأكثر حضوراً من أن يكون مجرد حزب سياسي فحسب، وأن البعثيين الحقيقيين ليسوا مجرد ملايين المتملقين لسلطة الحزب الحاكم.
إلى جانب الدلالة، ثمة مؤشرات معيارية مباشرة لا تُحصى، يدل كل واحد منها بوضوح إلى أن البعث في سوريا كان على الدوام هيكلاً راسخاً في الفضاء السوري، البعث بما يعنيه نوعية الأفكار القومية الحادة ووعي الذات الجماعية بنزعة عُصبوية وفهم التاريخ بفوقية فجة والتعامل مع المحيط الجغرافي والثقافي، الإقليمي والعالمي، على أساس ذلك الاستبطان للتاريخ، وتالياً للحاضر.
إذ لم تقدم مثلاً أي من القوى السياسية السورية الأخرى، من غير البعث، ما هو أكثر رحابة واعتدالاً من البعث، من الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى جماعة الإخوان المسلمين السورية، من الاتحاد الاشتراكي الناصري إلى الحزب الشيوعي السوري نفسه، مروراً بشبه الحزبين اللبراليين التقليديين في مرحلة ما قبل انقلاب حزب البعث، أي الكتلة الوطنية وحزب الشعب.
فهذه القوى كلها، كانت في عقلها الأيديولوجي مثلاً "ما فوق سورية". أي تسعى في توجهها الاستراتيجية لإحلال سوريا في كيانات أوسع منها، وتفهم الشعب السوري ككتلة قومية صماء، منذورة لحكاية كُبرى، والأهم من كل ذلك كان كامناً في قدرتها على التحشيد والشعبوية، وما البعث غير ذلك!
أحزاب المعارضة السورية مثال آخر على ذلك، إذ طوال ستة عقود كاملة ماضية، كان من المفترض أن تنضح الأحزاب المعارضة لحزب البعث بما يناقض إيديولوجية وخطاب وبنية حزب البعث. لكن ليس ثمة شيء من ذلك.
أحزاب المعارضة هذه لا تملك أي أدبيات ونصوص وتوجهات لنقد البعث في العمق، بالذات لنوعية الأفكار والرؤى البعثية التي أوصلت البلاد لهذا الخراب. بل تركز على الدوام في نوعية معارضتها على رأس الحكم.
تفعل ذلك، لأنها في الجوهر لا تعتبر ولا ترى في أفكار ورؤى وديناميكية عمل حزب البعث ما يجرح وجدانها. على العكس تماماً، فإنها لا تتوانى عن اتهام بشار الأسد بتحطيم حزب البعث وتهميشه، أي ترى في الأسد الخطأ الذي عكر نظرية البعث "المجيدة والمجدية".
ما تفعله المعارضة السورية في المناطق التي تُسيطر عليها في بعض البقاع السورية، أو ما تسكت عنه على الأقل، يُثبت نزعتها وميولها البعثية تلك.
ومثلها أيضاً مواقف هذه المعارضة من المسائل السياسية الحساسة في البلاد، وعلى رأسها الموقف من تغير اسم الكيان السوري، من كونه جمهورية عربية سورية، لأن يكون فقط جمهورية سورية، أي الرفض المطلق لإمكانية حياد وسمو وعادية هذا الكيان، والإصرار الدائم على إرجاعه لأن يكون كياناً قومياً يخوض حرباً أهلية داخلية باردة من جزء من مكونات مجتمعه. وما البعث غير ذلك!.
على نفس هذا الميزان والمعيار، يُمكن قياس الغالب الأعظم لنوعية وعي النُخب الثقافية والفنية والاقتصادية والأهلية السورية، تلك التي يصعب على المرء أن يعثر لها على مواقف ونوازع مفارقة تماماً للوعي البعثي، بالذات في القضايا الأكثر إشكالية وصداماً بالعقل البعثي، مثل مسألة قضية السلام مع إسرائيل أو مستقبل النظام المركزي في سوريا أو حقوق الجماعات الكردية والعلوية الدرزية في سوريا القادمة، لو أرادت أن يكون لها وضع خاص، أو حتى مستقبل الكيان السوري نفسه، أو حتى موقفها من نوعية القضاء والتعليم في سوريا، شديدا القومية العربية والمذهبية السُنية.
حيث من المفترض ألا لدى النُخب أي رهبة من طرح الأسئلة الكبرى بكل جرأة، دون أي اعتبار لأي قداسة أو بداهة. لكن النُخب السورية هذه، ولأسباب تتعلق بما تشترك به مع طروحات حزب البعث من رؤى، تجاسرت على الدوام لقول شيء مخالف عن ذلك، إلا ما ندر.
أربعة عوارض كبرى ألمت بالسوريين في تاريخهم الحديث، يمكن عبرها تفسير أشكال نزوعهم هذه، ولأن يكونوا أنسب بيئة وفضاء عمومي صالح ومُنتج لنوعية من العقل سياسي والروح الأيديولوجية مثل التي لحزب البعث.
فالنخب التأسيسية لسوريا، بالذات في سلسلة المدن التاريخية التقليدية، من حلب إلى دمشق، مروراً بحماة وحمص، كانوا الرواد المؤسسين للنزعة السياسية الأيديولوجية المناهضة للعثمانية التتريكية.
تلك النخب التي أجرت إحكاماً قويماً بين السياسة والقومية العربية، بالذات بأكثر صورها عصابية وكلانية. وإحكاماً آخر بين الهوية والقومية العربية، وثالثاً بين القومية العربية والمظلومية التاريخية، المتأتية حسبها منذ أواخر العصر العباسي.
المنشأ الثاني متأتي الجرح الذي أصاب الذات الجمعية للسوريين طوال النصف الأول من القرن العشرين.
فالسوريون في وعيهم الباطن، وحسبما رسخته تلك النُخب القومية التأسيسية في وعيهم الباطن ذاك، كانوا يعتقدون أن سوريا الطبيعية والبديهية، إنما هي تلك الجغرافيا الممتدة من جبال طوروس وحتى خليج العقبة، وأن لبنان والأردن وفلسطين ولواء الإسكندرون هي أجزاء من الكيان الأم الذي مزقته القوى الكبرى، المتآمرة والمناهضة للسوريين وسوريتهم الطبيعية، فتضخمت ذاتهم القومية تبعاً لما شعروا به من جرح عميق وغدر أكثر عمقاً من القوى العالمية، فتكوروا على ذواتهم.
الصراع العربي الإسرائيلي والهزائم التي تلقاها السوريون في ذلك المضمار، في النصف الثاني من نفس القرن، خلق مزيداً من الضغوط على تلك الذات.
زادت الهزائم من الجرح الذي كان، ورفعت مستويات العسكرة والنزعة الشعبوية، التي تنمو في ظلال الحروب وروحها، وقطعت إمكانية أن تكون سوريا كياناً طبيعياً وعادياً، قادراً على التصالح مع حقائق التاريخ.
الصراع الطائفي والقومي المستتر كان العارض الرابع والأكثر فاعلية. فنوعية العلاقة التاريخية بين سُنة المُدن التاريخية في سوريا، وسُكان جبلي العلويين والدروز، وما يوازيها من نزعة قومية كردية في شمال البلاد، كثفت في ذات السوريين شعوراً بأنه ليس من شيء يُمكن له أن يُجبر تلك الشروخ السورية إلا النوازع القومية المُطلقة، مثل التي يقوم عليها حزب البعث.
بشيء من القسوة، يُمكن القول إن واحداً من أهم أسباب هذا الشقاء السوري المريع الراهن، كامنٌ في أن سوريا لا يمكن لها إلا أن تكون بعثية، تاريخاً وراهناً، وغالب الظن مستقبلاً.