فاتن أمل حربي يعالج أحد أبرز مفاصل قانون الأحوال الشخصية في مصر
فاتن أمل حربي يعالج أحد أبرز مفاصل قانون الأحوال الشخصية في مصر | Source: YOUTUBE

لم يسلم النشاط الثقافي وصناعة الترفيه في جميع دول العالم من التداعيات الكبرى التي خلفتها جائحة كورونا في العامين الفائتين. أضرار مزدوجة اتخذت حينا أثرا معنويا مباشرا تمثل بفقدان عدد كبير من مشاهير الفن العالميين إثر إصابتهم بالوباء، وأخرى اقتصادية بليغة طالت أكبر المراكز العالمية المنتجة لهذه الصناعة. 

لم يختلف الوضع في عدد من الدول العربية المنتجة للفنون، وفي مقدمها مصر التي تتبوأ مركز الصدارة  العربية في صناعة الترفيه والإنتاج الفني في العالم العربي، والتي لم تخسر عددا من نجومها الكبار فقط، بل عانت من تراجع نشاط هذا القطاع الحيوي فيها، وبشكل خاص ما يتعلق بالإنتاج الدرامي التلفزيوني المخصص لشهر رمضان.  

في محاولة للتعافي السريع والتعويض مع تراجع الجائحة في الأشهر القليلة الفائتة، لوحظ هذا العام الارتفاع الملفت لعدد الإنتاجات الدرامية التلفزيونية العربية التي تبث على القنوات المحلية والعربية في ما يعرف بالموسم الرمضاني النشط، وبشكل خاص الإنتاج الدرامي المصري، رغم أن بعض الأرقام أشارت إلى أنه لم يتجاوز نصف عدد الإنتاجات مقارنة بغزارة السنوات السابقة.

من البدهي أن ضحايا الأزمات الاقتصادية الكبرى هم في الغالب من الفئات الفقيرة والهشة اقتصاديا وذوي الدخل المحدود. وفي مواجهة جائحة كورونا وتراجع الإنتاج، في الحالة المصرية بشكل خاص، أصيبت هذه الفئات بالأضرار المباشرة. وهي فئات تشكل النسبة العظمى من عدد العاملين في قطاع الإنتاج وصناعة الترفيه، مثل الفنيين وعمال الديكور والكومبارس أو غيرهم ممن قد لاتشملهم التعويضات النقابية أو أي شكل من أشكال الحماية.

غلاء المعيشة وارتفاع نسبة العوز لدى مثل هذه الفئات الضعيفة، في بلد يعاني من مشكلة التضخم السكاني وارتفاع نسبة الفقر، تبدو وكأنها قضايا غير ذات أهمية أو تستدعي اللطف في العباد، ولاتستثير وجدان دعاة مناهضة الفن وتحريمه من المتشددين أو تستدعي إيجاد الحلول والتعويضات والبدائل الاقتصادية المستدامة الأخرى، وكأن مهمتهم تنحصر فقط بالترهيب الممنهج وقطع الأرزاق. 

المتشددون الذين يبدون مثل "المتربصين"، وتنشط ماكينتهم المضادة كلما شهدت المجتمعات بعض التعافي والوفرة، وفي الحالة المصرية التي تعاني كل حين من هذه الهجمات، لوحظ أنها لم تعد تنحصر ضد بعض مواضيع الانتاجات الدرامية التي يرونها "مستفزة" لأيديولوجياتهم فقط، بل باتت حربا مفتوحة ومعلنة تتوجه مباشرة ضد الفن كمفهوم حضاري، وكل من يعمل، أو مايتعلق به. 

بحسب آخر تحديثاتهم، الفن "يشوه صورة الدين الإسلامي، ويروج للحياة الغربية ويدعو إلى الدولة العلمانية"، والمسؤولية الكبرى تقع على الكتاب الذين يتهمون "بالإلحاد والفكر الشيوعي"، وهم الذين يروجون بكتاباتهم لمثل هذه الأفكار "الشيطانية" التي تسمم المجتمعات، ويورطون معهم الممثلين والمغنيين وكل من يعمل في الفن. 

وسبق لأحد الدعاة أن اتهم كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، أحد أبرز رموز مصر والعالم، ومعها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وغيرهم أنهم يدعون في أغانيهم إلى "الإباحية والكفر والحرام"، مع إعادة التأكيد على مسؤولية ودور الشعراء والكتاب في نشر هذه الأفكار "المحرمات".

بمعنى وضع الكتاب، كمصدر رئيس للفكر، باستمرار في خانة الاتهام الأبرز الذي قد يصل إلى مرحلة "التكفير" وترجماته اللاحقة، ومايشهده اليوم الكاتب إبراهيم عيسى ضد المسلسل المصري الدرامي الملفت (فاتن أمل حربي) الذي يعالج أحد أبرز مفاصل قانون الأحوال الشخصية ومظلومية المرأة، دليل آخر مضاف على استهداف مايعتبرونه "رأس الفتنة". 

من المؤسف أن يحدث هذا في مصر العريقة، أم الدنيا ورائدة الفنون وأحد أبرز منارات العالم العربي التي خرج منها الفكر والحضارة والتنوير. في الوقت الذي تشهد فيه بعض دول المنطقة تغييرات جوهرية وإيجابية في قوانين الأحوال الشخصية، لاشك أن الدراما ساهمت من جانبها-بتراكم الأثر- ولعبت دورها في القبول الاجتماعي المنفتح على مثل هذه التعديلات.

كما تشهد دول انفتاحا ملفتا على الفنون بعد طول تحريم، من أبرزها السعودية التي ذكرت أحد التقارير التي نشرت في "الحرة" في بداية العام الجاري أن نسبة إيرادات شباك التذاكر ارتفعت فيها بنسبة 95 بالمائة خلال عام 2021 مقارنة بالعام الذي سبقه، وأن فيلما مصريا حصد أكثر من 15 مليون دولار مما يجعله أكثر الأفلام دخلا.

فيلم مصري يحصد في دولة واحدة فقط مثل هذه الأرقام، أي أنه في النتيجة حقق أرباحا طائلة ستعود بالنفع على الجهة المنتجة للفيلم، وعلى الدخل القومي المصري، وعلى العاملين في قطاع الفنون الذين توفر لهم السيولة النقدية فرصا جديدة للعمل وتبعد شبح البطالة الذي يتنامى في معظم دول العالم.

أبو خليل القباني، رائد المسرح السوري، الذي حورب في موطنه قبل أكثر من مائة عام لأسباب مشابهة، قال عنه قريبه الشاعر نزار قباني:" طار صواب دمشق وأصيب مشايخها بانهيار عصبي وألفوا وفدا قابل الباب العالي وأخبره أن أبا خليل يشكل خطرا على مكارم الأخلاق والدين والدولة العليا، وأنه إذا لم يغلق مسرحه فسوف تطير دمشق من يد آل عثمان وتسقط الخلافة".

 "صدر فرمان سلطاني بإغلاق أول مسرح طليعي عرفه الشرق، وغادر أبو خليل إلى مصر، وودعته دمشق كما تودع كل المدن المتجبرة موهوبيها، أي بالحجارة والبندورة والبيض الفاسد. وفي مصر التي كانت أكثر انفتاحا على الفن وأكثر فهما لطبيعة العمل الفني، أمضى أبو خليل بقية حياته ووضع الحجر الأول في بناء المسرح الغنائي المصري. أنا أيضا ضربتني دمشق بالبندورة والبيض الفاسد، والذقون المحشوة بغبار التاريخ التي طلبت رأس أبي خليل، طلبت رأسي". 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.