لم يسلم النشاط الثقافي وصناعة الترفيه في جميع دول العالم من التداعيات الكبرى التي خلفتها جائحة كورونا في العامين الفائتين. أضرار مزدوجة اتخذت حينا أثرا معنويا مباشرا تمثل بفقدان عدد كبير من مشاهير الفن العالميين إثر إصابتهم بالوباء، وأخرى اقتصادية بليغة طالت أكبر المراكز العالمية المنتجة لهذه الصناعة.
لم يختلف الوضع في عدد من الدول العربية المنتجة للفنون، وفي مقدمها مصر التي تتبوأ مركز الصدارة العربية في صناعة الترفيه والإنتاج الفني في العالم العربي، والتي لم تخسر عددا من نجومها الكبار فقط، بل عانت من تراجع نشاط هذا القطاع الحيوي فيها، وبشكل خاص ما يتعلق بالإنتاج الدرامي التلفزيوني المخصص لشهر رمضان.
في محاولة للتعافي السريع والتعويض مع تراجع الجائحة في الأشهر القليلة الفائتة، لوحظ هذا العام الارتفاع الملفت لعدد الإنتاجات الدرامية التلفزيونية العربية التي تبث على القنوات المحلية والعربية في ما يعرف بالموسم الرمضاني النشط، وبشكل خاص الإنتاج الدرامي المصري، رغم أن بعض الأرقام أشارت إلى أنه لم يتجاوز نصف عدد الإنتاجات مقارنة بغزارة السنوات السابقة.
من البدهي أن ضحايا الأزمات الاقتصادية الكبرى هم في الغالب من الفئات الفقيرة والهشة اقتصاديا وذوي الدخل المحدود. وفي مواجهة جائحة كورونا وتراجع الإنتاج، في الحالة المصرية بشكل خاص، أصيبت هذه الفئات بالأضرار المباشرة. وهي فئات تشكل النسبة العظمى من عدد العاملين في قطاع الإنتاج وصناعة الترفيه، مثل الفنيين وعمال الديكور والكومبارس أو غيرهم ممن قد لاتشملهم التعويضات النقابية أو أي شكل من أشكال الحماية.
غلاء المعيشة وارتفاع نسبة العوز لدى مثل هذه الفئات الضعيفة، في بلد يعاني من مشكلة التضخم السكاني وارتفاع نسبة الفقر، تبدو وكأنها قضايا غير ذات أهمية أو تستدعي اللطف في العباد، ولاتستثير وجدان دعاة مناهضة الفن وتحريمه من المتشددين أو تستدعي إيجاد الحلول والتعويضات والبدائل الاقتصادية المستدامة الأخرى، وكأن مهمتهم تنحصر فقط بالترهيب الممنهج وقطع الأرزاق.
المتشددون الذين يبدون مثل "المتربصين"، وتنشط ماكينتهم المضادة كلما شهدت المجتمعات بعض التعافي والوفرة، وفي الحالة المصرية التي تعاني كل حين من هذه الهجمات، لوحظ أنها لم تعد تنحصر ضد بعض مواضيع الانتاجات الدرامية التي يرونها "مستفزة" لأيديولوجياتهم فقط، بل باتت حربا مفتوحة ومعلنة تتوجه مباشرة ضد الفن كمفهوم حضاري، وكل من يعمل، أو مايتعلق به.
بحسب آخر تحديثاتهم، الفن "يشوه صورة الدين الإسلامي، ويروج للحياة الغربية ويدعو إلى الدولة العلمانية"، والمسؤولية الكبرى تقع على الكتاب الذين يتهمون "بالإلحاد والفكر الشيوعي"، وهم الذين يروجون بكتاباتهم لمثل هذه الأفكار "الشيطانية" التي تسمم المجتمعات، ويورطون معهم الممثلين والمغنيين وكل من يعمل في الفن.
وسبق لأحد الدعاة أن اتهم كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، أحد أبرز رموز مصر والعالم، ومعها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد وغيرهم أنهم يدعون في أغانيهم إلى "الإباحية والكفر والحرام"، مع إعادة التأكيد على مسؤولية ودور الشعراء والكتاب في نشر هذه الأفكار "المحرمات".
بمعنى وضع الكتاب، كمصدر رئيس للفكر، باستمرار في خانة الاتهام الأبرز الذي قد يصل إلى مرحلة "التكفير" وترجماته اللاحقة، ومايشهده اليوم الكاتب إبراهيم عيسى ضد المسلسل المصري الدرامي الملفت (فاتن أمل حربي) الذي يعالج أحد أبرز مفاصل قانون الأحوال الشخصية ومظلومية المرأة، دليل آخر مضاف على استهداف مايعتبرونه "رأس الفتنة".
من المؤسف أن يحدث هذا في مصر العريقة، أم الدنيا ورائدة الفنون وأحد أبرز منارات العالم العربي التي خرج منها الفكر والحضارة والتنوير. في الوقت الذي تشهد فيه بعض دول المنطقة تغييرات جوهرية وإيجابية في قوانين الأحوال الشخصية، لاشك أن الدراما ساهمت من جانبها-بتراكم الأثر- ولعبت دورها في القبول الاجتماعي المنفتح على مثل هذه التعديلات.
كما تشهد دول انفتاحا ملفتا على الفنون بعد طول تحريم، من أبرزها السعودية التي ذكرت أحد التقارير التي نشرت في "الحرة" في بداية العام الجاري أن نسبة إيرادات شباك التذاكر ارتفعت فيها بنسبة 95 بالمائة خلال عام 2021 مقارنة بالعام الذي سبقه، وأن فيلما مصريا حصد أكثر من 15 مليون دولار مما يجعله أكثر الأفلام دخلا.
فيلم مصري يحصد في دولة واحدة فقط مثل هذه الأرقام، أي أنه في النتيجة حقق أرباحا طائلة ستعود بالنفع على الجهة المنتجة للفيلم، وعلى الدخل القومي المصري، وعلى العاملين في قطاع الفنون الذين توفر لهم السيولة النقدية فرصا جديدة للعمل وتبعد شبح البطالة الذي يتنامى في معظم دول العالم.
أبو خليل القباني، رائد المسرح السوري، الذي حورب في موطنه قبل أكثر من مائة عام لأسباب مشابهة، قال عنه قريبه الشاعر نزار قباني:" طار صواب دمشق وأصيب مشايخها بانهيار عصبي وألفوا وفدا قابل الباب العالي وأخبره أن أبا خليل يشكل خطرا على مكارم الأخلاق والدين والدولة العليا، وأنه إذا لم يغلق مسرحه فسوف تطير دمشق من يد آل عثمان وتسقط الخلافة".
"صدر فرمان سلطاني بإغلاق أول مسرح طليعي عرفه الشرق، وغادر أبو خليل إلى مصر، وودعته دمشق كما تودع كل المدن المتجبرة موهوبيها، أي بالحجارة والبندورة والبيض الفاسد. وفي مصر التي كانت أكثر انفتاحا على الفن وأكثر فهما لطبيعة العمل الفني، أمضى أبو خليل بقية حياته ووضع الحجر الأول في بناء المسرح الغنائي المصري. أنا أيضا ضربتني دمشق بالبندورة والبيض الفاسد، والذقون المحشوة بغبار التاريخ التي طلبت رأس أبي خليل، طلبت رأسي".