منظومة الحكم في العراق تشبه رجلا مريضا ينازع سكرات الموت
"منظومة الحكم في العراق تشبه رجلا مريضا ينازع سكرات الموت"

اعتقد أن توصيف الأزمة السياسية بعد انتخابات أكتوبر 2021 بالانسداد السياسي، هو نوع من محاولات التجميل لواقع سياسي مشوه، لأن منظومة الحكم في العراق تجاوزت كثيرا مرحلة الانسداد بعد احتجاجات أكتوبر 2019. إذ يبدو أن بنية النظام السياسي باتت عاجزة عن احتواء التناقضات بين الأطراف السياسية من جهة، وعاجزة تماما عن الاستجابة إلى متطلبات الجمهور، من جهة أخرى. ودخلت في مرحلة (التعفن السياسي) أو (التفسخ السياسي) كما يصفها المفكر الأميركي صومائيل هنتنغتون، وقد أوضحته في مقال سابق بعنوان (العراق: من الانسداد إلى الاضمحلال السياسي). 

منظومة الحكم في العراق التي تأسست بعد 2003، باتت تشبه رجلا مريضا ينازع سكرات الموت، لكن لا أحد يريد موته الآن! لأن جميع الفرقاء السياسيين مستفيدون من بقائه على فراش المرض، كونهم يعتاشون على تقاسم ثروات وموارد الرجل المريض بطريقة تم تقسيمها بالتراضي بينهم. وفي حال موته سوف تتغير الحصص وموازين الميراث، ويبدأ الصراع الحقيقي على من يكون الوريث الشرعي صاحب الحصة الأكبر، ومن يكون الخاسر من الميراث. 

واقعا، هذا هو التوصيف الأدق للصراع بين دعاة حكومة الأغلبية، وبين المطالبين بضرورة الإبقاء على التوافقية في تشكيل الحكومة. دعاة الأغلبية يعتقدون أن بقاء الحكومة تشاركية بالمغانم لم يعد له مبرر في ضوء نتائج انتخابات تعطيهم الأولوية في سباق تشكيل الحكومة، ويجب الانتقال من الأعراف السابقة التي كانت تقوم على أساس التوافقات الشكلية، والبدء بتشكيل حكومة جديدة توسع نفوذ القوى المتحالفة ضمن مشروع الأغلبية وتحجم الخصوم. في المقابل، ترى القوى التي تصر على ضرورة الإبقاء على التوافقية، أن مشروع قوى الأغلبية هو محاولة للاستئثار بالسلطة والمناصب العليا في الدولة، وإنه يستهدف مشروعا استراتيجيا يعمل على تقليص النفوذ السياسي لخصوم تحالف قوى الأغلبية (تحالف إنقاذ وطن)، والذي يبدأ بالخطوة الأولى بتشكيل حكومة أغلبية، وتجبرهم على الذهاب نحو المعارضة.

في خضم هذا الصراع بين الرغبة بالاستئثار بالسلطة وتحجيم الخصوم، والخوف من الذهاب نحو المعارضة التي تعني في أعراف ساسة العراق خسارة النفوذ السياسي، يكون الضحية هو منظومة الحكم والعملية السياسية بمجملها، إذ نحن الآن في مرحلة الموت السريري للنظام السياسي في العراق الذي تأسس بعد 2003، فالمرتكزات أو القواعد الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام قد تم قتلها من قبل القوى السياسية وزعامتها. فالانتخابات أصبحت عاجزة عن القيام بوظيفتها، والدستور انتهت فاعليته عندما تم التجاوز على توقيتاته. وحتى الحريات العامة، التي كنا نتفاخر بعدها أهم مكاسب تغيير النظام، تحاول الحكومة والقوى المتنفذة تقليص دائرتها. 

يمكن اعتبار 6 أبريل يوم إصدار شهادة وفاة للدستور العراقي لعام 2005، لكن مراسيم دفن الدستور تمت بسرية تامة ومن دون إقامة مراسيم العزاء! ذلك أن خرق التوقيتات الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية انتُهكت مرتين؛ الأولى، كانت بعد المدة المقررة دستوريا بعد شهر من الجلسة الأولى لمجلس النواب. والثانية، بعد قرار المحكمة الاتحادية بفتح باب الترشيح لمرة واحدة. وبعد أن كانت أصوات السياسيين تصدع بالدفاع عن الدستور واحترام توقيتاته، نحن اليوم في صمت مُريب ولا أحد يتحدث عن الخروقات الدستورية، بل بات الحديث عن مدة الأربعين يوميا التي حددها السيد مقتدى الصدر لقوى الثلث المعطل بالذهاب نحو تشكيل حكومة من دون الصدريين! وبهذا يكون الدستور آخر ضحايا فشل العملية السياسية في الخروج من أزمة الصراع بين التوافقية والأغلبية. 

وبعد كل دورة برلمانية يتم توجيه سهام الموت إلى العملية الانتخابية، وبذلك فقدت الانتخابات وظيفتها الرئيسة، التي يفترض أن تمنح الشرعية لممثلي الشعب في تشكيل الحكومة ورسم السياسات العامة. لكن الذي يحدث في العراق منفصل تماما عن الوظيفة. فمن يتحكم بالبرلمان ومن يريد تشكيل الحكومة هم زعماء القوى السياسية. والصراعات بين الزعماء السياسيين اليوم يغلب عليها طابع الشخصنة أكثر من كونها تعبر عن صراع بين مشاريع أو برامج سياسية واقتصادية وخدمية، ممكن أن يستفيد منها المواطن. وبعض القيادات السياسية تصر على طرح مبادرات تقوم على أساس تجاوز نتائج الانتخابات وتشكيل الحكومة على أساس التوافقيات بين زعماء الطبقة السياسية. وبالنتيجة يبقى سؤال المواطن عن جدوى الانتخابات من دون إجابة لدى أصحاب المبادرات السياسية؛ لأنهم بالأساس يعتقدون أن رمزيتهم وزعامتهم أعلى من إرادة الناخب الذي رفض التصويت لمرشحيهم في الانتخابات. 

حتى الحريات العامة التي هي ركن أساسي في التحول نحو الديمقراطية في العراق، تحاول حكومة الكاظمي قضم مساحتها، والتقييد على من ينتقد الفساد في البرامج التلفزيونية. ولعل قضية شكوى وزارة الدفاع القضائية ضد برنامج أحمد الملا طلال في قناة الـUTV  العراقية، وقرار هيئة الإعلام والاتصالات بمنع بث البرنامج، وذلك بسبب تسليط الضوء على الفساد في المؤسسة العسكرية، هو آخر محاولات الحكومات في تكميم أفواه كل من ينتقدها أو يحاول فضح الفساد الذي بات لا يحتاج إلى دليل أو قرينة في «دولة» اسمها العراق. 

لذلك، يمكن القول أن (التعفن السياسي) قد تمكن فعليا من قتل الركائز الأساسية للنظام السياسي في العراق، فالدستور والانتخابات قد تم قتلهما على يد التوافقات السياسية ومن يريد الإبقاء عليها. وتقليص الحريات العامة بات من مهمات الحكومة بعد أن كان من المفروض أن تقوم بحمايتها من قوى اللادولة والسلاح المنفلت. لذلك لم يبق سوى شجاعة في اتخاذ قرار القتل الرحيم لهذا النظام السياسي، وهذا يتم من خلال المضي بحكومة الأغلبية أو الاتفاق على تعديل الدستور حتى يكون بمثابة الصدمة الكهربائية التي تعيد الحياة للنظام السياسي الذي بات ميتا سريريا. 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.