صورة لرجل الدين محمود الصرخي في أحد المساجد التابعة له
صورة لرجل الدين محمود الصرخي في أحد المساجد التابعة له

ما تقوم به أجهزة الأمن والقضاء الرسمية العراقية بحق أنصار رجل الدين الشيعي العراقي، محمود الصرخي، منذ أيام، بعد خطبة "عادية" لأحد مُقلديه، هو إثبات جازم للطبيعة الدينية للدولة العراقية، تطال الهوية والشرائع ومختلف السلطات والأجهزة والمؤسسات العراقية، وتؤكد على أن مجموع الادعاءات والقوانين، بما في ذلك ما يرد في الدستور، من تأكيد على الهوية المدنية للعراق، إنما هي مجرد هباء خطابي ليس إلا، وأن الكيان العراقي المعاش راهناً، هو أقرب لنظم الحُكم السياسي الدينية القروسطية، منه لأية طبيعة للدولة الحديثة.

صحيح، ثمة تناقض تأسيسي ما في الدستور العراقي، ومثله في باقي القوانين والأنظمة الأقل مرتبة، من حيث منح الدين ومؤسساته ورجاله أشكالا من القداسة والتمييز عن باقي الطيف الوطني، والتأكيد من طرف آخر على الهوية المدنية للدولة والمؤسسات والقوانين المعمول بها داخل الكيان. لكن حادثة الصرخي تفند ذلك التناقض والتفاوت في فهم وتطبيق القوانين في البلاد، وتؤكد على أن النصوص الحريات والدولة المدينة ليست إلا نوعا من "برستيج الدولة"، بالضبط كما هي الديمقراطية وحرمة حقوق الإنسان في دساتير وقوانين باقي الدول. 

حادثة الصرخي تُثبت أن المادة الثانية من الدستور العراق، التي تنص على إن الإسلام دين رسمي للعراق، ومصدر رئيسي للتشريع، والمادة العاشرة التي تفرض على الدولة صيانة العتبات المقدسة وحرمة المقامات الدينية، هما النصان التعريفيان للدولة العراقية. وإن عشرات المواد الدستورية والقانونية الأخرى، التي تؤكد على الهوية المدنية والحرية في ممارسة الشعائر والحق في إبداء الرأي والتعبير والتجمهر وأداء المناسك، لا تعني أي شيء فعليا. 

فكل ما قاله ويقوله الصرخي وأنصاره يتعلق بإزالة القداسة والتبجيل عن طبقة رجال الدين ومختلف أنواع مؤسساتهم في الحياة العامة، وبذا فهي تفصيلاً ضمن لائحة الحقوق الطبيعية التي نص عليها الدستور وأقرتها القوانين العراقية، فمواقف الصرخي وآراؤه هي أقوال واجتهادات في الدين، لا تتضمن أية دعوات للعنف أو للكراهية، لكن تم مواجهتها بضراوة شديدة. 

في ذلك ما يثبتُ ويُثبّت دور الطبقة والقوى الحاكمة في ترجيح كفة حيز من الدستور على الآخر، ويكشف كيف أن المصالح الأساسية لهذه الطبقة مرتبطة في الصميم مع مركزية ودور العتبات والمقامات الدينية في المجتمع، في الأحياز الرمزية والسياسية والاقتصادية، وحتى الأمنية والعسكرية. فمختلف القوى المركزية الحاكمة، مختلفة فيما بينها على كُل شيء آخر، لكنها متفقة تفصيلاً على محق حركة الصرخي ومواقفه التي مثل هذه. 

غير ذلك الجذر التأسيسي، فإن إجماع القوى السياسية الحاكمة على مناهضة الصرخي وأتباعه أنما يتأتى تفصيلين آخرين مرتبطان بذلك الجذر: 

فتوجه الصرخي هذا يلاقي نزعة جماهيرية عراقية متنامية، مناهضة لطبقة رجال الدين وروابطهم ومصالحهم غير الخفية مع نظرائهم من القوى السياسية الحاكمة. تلك النزعة التي تحمل راهنا طابعا ثأريا من قِبل الطبقات العُمرية الأصغر سنا، التي تُحمّل طبقة رجال الدين وزر تدهور مختلف أشكال الحياة في البلاد، ولا توفر جهداً للانقلاب على تلك الطبقة في أية لحظة. لذا ثمة مخاوف شديدة من نوعية الخطابات كالتي ينشرها الصرخي.

كذلك لأن الصرخي جزء من نفس فضاء طبقة رجال الدين هؤلاء، من عالمهم الرمزي والذهني والوظيفي، وحتى الفردي والشخصي. لذا فإنه من نوعية المضاد النوعي داخل الجماعات الحاكمة والمتسلطة. ذلك المضاد الذي يُستخدم عادة من قِبل المناهضين كمستمسك ذو شرعية تامة، يدل على أعمال وأدوار هذه الطبقة من رجال الدين وروابطهم ومصالحهم. 

بالتصدي الحازم للصرخي وأتباعه، عبر أدوات الدولة ومؤسساتها وقوانينها، فإن مثلثاً من الفداحة يتكون في الفضاء العراقي الراهن، يؤسس لخلق بنية سياسية واقتصادية متعامدة مع طبقة رجال الدين هؤلاء. مثلث يقف حاجزاً مانعاً أمام العديد من أشكال التغيير والتطوير المتوقعة في الأفق المنظور لهذا البلد. 

فحدوث هذا المحق، يعني إضفاء مزيد من القداسة والرهبة على الفاعلين السلطويين في البلاد، المتمثل بالتحالف المحكم بين طبقات رجال الدين والسياسة والمال. قداسة ستمنع مستقبلاً أي تيار سياسي أو مجتمعي، أو حتى إعلامي واستقصائي، من إمكانية توجيه نقد جذري لهذه البنية الحاكمة. حيث ستكون تلك الطبقة الحاكمة محمية بتجربة سابقة كرست تمايزها واستثنائها من أية إمكانية للملاحظة والملاحقة والمحاسبة. 

كذلك سيؤدي هذا الفعل إلى تشكيل ديناميكية سياسية عراقية شبيهة بنظيرتها اللبنانية، من حيث أن القوى السياسية الفاعلة مختلفة ومتصارعة فيما بينها ظاهراً في العديد من تفاصيل وهوامش الحياة السياسية، لكنها متفقة ومتعاضدة فيما بينها لمواجهة أية جهة قد تهدد مصالحها ومواقعها السلطوية، وإن عبر النقد والخطاب. 

فالمواجهة الشاملة التي يحظى بها الصرخي وأتباعه، من مختلف قوى الإسلام السياسي الشيعي، وعبر صمت من المراجع الدينية والقوى السياسية العراقية غير الشيعية، يكشف ذلك بوضوح، ويكشف كيف أن معظم الخلاف واللعبة السياسية إنما تجري في الطبقة الأعلى والأكثر هامشية من الحياة العامة فحسب. 

فوق ذلكم الأمرين، فإن سحق الصرخي وآرائه ومؤيديه، إنما يعني استئصال أية إمكانية للـ"الإصلاح الديني". فبغض النظر عن الاتفاق مع آراء الصرخي الدينية أو الاختلاف معها، فإنها في المحصلة تعني منح سمة التنوع والتباين ضمن العقل الديني وخطابه ومجاله ومرتاديه، هذه السمة التي هي المقدمة الطبيعية لأي تطور تاريخي قد يحدث في ذلك الفضاء. وحيث أن سحقها بالمقابل، كان يعني على الدوام تكريس أعتى أشكال التفكير الديني السلطوية والمركزية والمنغلق. 

فيما تأخذ الحملة الأمنية والسياسية والإعلامية على الصرخي وأتباعه بُعداً "نضالياً"، تساهم فيه مختلف القوى السياسية الحاكمة، وعبر أجهزة الدولة ومؤسساتها، فإن طيفاً واسعاً من القضايا الحياتية العراقية المُلحة تدخل في باب النسيان، من شح مياه الشرب والكهرباء، مروراً بالعنف الأهلي والزيادة الهائلة للسكان وتفاقم التصحر والاستعصاء السياسي، وليس انتهاء بقضايا مثل عسكرة المجتمع وهيمنة الميليشيات المسلحة على الاقتصاد والتدخلات الخارجية.. الخ من القضايا التي لا تُعد. لكنه نموذج الدولة الدينية، حيث قداسة الأشخاص والأماكن أعلى مرتبة وأكثر قداسة من حق الناس في حياة كريمة.

الدفاع عن الصرخي هو دفاع عن حقه في الكلام، لا دفاع عن آرائه وموقفه، بذا هو دفاع عن الحرية.   

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.