لم تعد المنطقة الخضراء في العراق منطقة محصّنة إلا أمام الاحتجاجات كما في تشرين 2019، وأمام مرور المواطنين العاديين. عدا ذلك فهي ساحة لاحتجاجات الصدريين، وساحة استعراض عسكري لفصائل مسلحة عندما تريد تحدي قرارات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. ولعل فترة حكومة الكاظمي هي أكثر الحكومات التي أصبحت فيها المنطقة الخضراء مستباحة من كل الأطراف المتخاصمة لتصفية حساباتها السياسية أو إرسال رسائل التحدي والخصومة للحكومة وللسفارات الأجنبية المتواجدة في المنطقة التي يفترض أنها "محصَّنة أمنياً"!
في الأسبوع الماضي كنا نتوقع، أن حفلة الاحتجاجات انتهت داخل البرلمان بتغريدة أطلقها السيد مقتدى الصدر باعتبارها رسالة "جرّة اذن" وشُكره أنصارَه المتظاهرين! وبظهور المالكي يحمل السلاح داخل أسوار قصره مع حمايته، وكأنما يريد القول: أنا هنا موجود ومستعد للمعركة! لكن يبدو أنها كانت البداية، ولن تكون نهاية احتجاجات الصدريين تحت قبة البرلمان العراقي.
في أقل من أسبوع، اقتحم الصدريون المنطقة الخضراء ودخلوا البرلمان، وحتى كتابة هذا المقال لا تزال القنوات الفضائية تنقل أخبار دخول متظاهري التيار الصدري إلى البرلمان، وإعلان الاعتصام المفتوح داخل مقر مجلس النواب، وإقامة مجلس العزاء داخل بناية البرلمان بمناسبة عاشوراء. وبالمقابل، قوى الإطار التنسيقي اكتفت بالدعوة إلى تظاهرات تقابل تظاهرات الصدريين. وبالنتيجة أصبحت المنطقة الخضراء ساحة التظاهر بدلاً من ساحة التحرير وسط بغداد.
الصراع على السلطة والنفوذ بين الفرقاء السياسيين الشيعة لم يعد يدور في حلبة السياسة، وإنما بات يتمظهر بمعركة الاستحواذ على السلطة والتفرد بها. إذ بعد أن نجحت قوى الإطار التنسيقي بعرقلة مشروع حكومة الأغلبية التي دعا إليها مقتدى الصدر مع شركائه في تحالف إنقاذ وطن، والتي عدت من قبل زعامات قوى الإطار محاولة الانفراد بتشكيل الحكومة وإبعادهم عن معادلة السلطة. أما بعد استقالة نواب التيار الصدري من البرلمان، فإن المعادلة انقلبت رأساً على عقب، لتكون المبادرة بيد مقتدى الصدر في عرقلة حكومة الإطار التنسيقي التي يريد تشكيلها، وجاءت هذه المرة من خلال التحشيد للتظاهرات وتعطيل جلسات البرلمان.
ولكن السؤال الذي يبحث الجميع عن إجابته، ماذا بعد اقتحام الخضراء؟ وهل الصراع على السلطة والنفوذ بين التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي انتقل من الثلث المعطل إلى التظاهر وتعطيل جلسات البرلمان؟
الحرب الشيعية- الشيعية، التي تحذر منها زعامات سياسية شيعية، باعتبارها مؤامرة خارجية، صحيح أنها لم تصل إلى مرحلة الصدام المسلح، لكنها قد تكون أكثر خطورة وضرراً في مرحلتها الحالية التي يمكن وصفها بالحرب الباردة. حتى الآن لا تريد القوى السياسية الشيعية الانتقال إلى مرحلة خسارة طرف كل مكامن السلطة والنفوذ، وربحها من قبل طرف آخر. ولا تريد أن تدخل في تسويات سياسية قادرة على مغادرة ملامح من الفوضى الصراع وشلل الدولة.
فقد انتقلت ساحة المعركة بين الفرقاء السياسيين من حلبة التنافس السياسي إلى تحشيد الشارع، وهو مؤشر على أن كل الأعراف التي تأسست عليها العملية السياسية لم تعد قادرة على احتواء الخصومة السياسية داخل تحالف سياسي يتشكل على أساس عنوان مكوناتي طائفي. الصراع السياسي الشيعي-الشيعي بات يتطور من تقاسم السلطة إلى شخصنة الصراع بين الزعامات السياسية، والصراع بين الأقطاب الكردية لم يعد تقاسم المناصب قادرا على احتوائه، والتنافس على الزعامة السياسية السنية سيضعف جميع الأطراف ما دامت تفكر بمكاسب مرحلية.
المعركة الأشرس هي أن معركة تشكيل الحكومة بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري تشبه جولات حلبة الملاكمة؛ إما تحسم بالضربة القاضية، أو التعادل أو فوز طرف على آخر بالنقاط الذي يسمى لدينا بالتوافق السياسي على تقاسم كعكعة السلطة وموارد الدولة. لكن الصدريين، لحد الآن، يديرون لعبة تعطيل تشكيل الحكومة بقدرتهم على التحشيد والتظاهر. والإطاريون لا يزالون مشتتين وإن ملامح عدم الاتفاق بينهم تتوضح أكثر كلما واجهوا أزمة، ولعل موقفهم من اعتصام الصدريين داخل البرلمان أكثر دلالة على تشظي المواقف، إذ في الصباح يدعون أنصارهم ومريديهم إلى الاستعداد للتظاهر، وفي المساء ينشرون بيانات متفرقة ومذيله باسم كل زعيم سياسي داخل الإطار، يدعون فيها إلى الحوار والتهدئة!
أكثر ما يثير السخرية أن الأطراف التي تتصارع على تشكيل الحكومة منذ تسعة أشهر على إجراء الانتخابات، تدعو اليوم إلى الحوار السياسي وإلى احترام الدولة ومؤسساتها والقانون! ويبدو أنها تتجاهل خرق التوقيتات الدستورية، والتجاوز على الغاية الرئيسة للانتخابات بمنح الفائز فرصة تشكيل الحكومة بعيداً عن سجالات حق المكون في منصب رئيس الوزراء!
لعبة شد الحبل بين الإطار التنسيقي والصدريين، لن تكون نتيجتها إلا استمرار حكومة بلا صلاحيات لتصريف الأعمال اليومية، وهذا يعني تعطيل الكثير من الاستحقاقات التي ينتظرها المواطن في ظل وفرة مالية تراكمت بسبب تصاعد أسعار النفط، ويعني أيضاً تقاسم المناصب العليا في الدولة وفقاً للمجاملات الشخصية، وبالنتيجة بقاء دوامة الفساد والفوضى.
دوغمائية خطاب قوى الإطار التنسيقي، تزيد الأوضاع السياسية سوءاً، لا سيما في ظل تناقض التصريحات والمواقف التي كانت واضحة في تأخر حسم مرشحهم لرئاسة الحكومة، فهم بحاجة للتركيز على خارطة الطريق التي تحكم برنامجهم الحكومي للفترة القادمة، عسى أن تكون قادرة على استقطاب قناعة الجمهور. وعلى زعامات الإطار الدخول بمرحلة الصمت الإعلامي بدلاً من المهاترات السياسية التي تضعف مواقفهم أمام الشارع والخصوم.
أما الصدريون، فهم مطالَبون بتحديد الخطوات القادمة بدلاً عن ردود فعل انفعالية وعاطفية، فهم بحاجة إلى الاحتفاظ بورقة الاحتجاجات والتظاهر، وانتظار التوقيت المناسب، بدلاً من تحويل التظاهرات إلى روتين يفقد قدرته على الضغط السياسي وفرض الاستجابة.
لذلك نعيش الآن في تيه سياسي بعد فشل النظام السياسي على احتواء صراعات الطبقة السياسية، رغم أن الطبقة السياسية في العراق تريد من المواطن التعايش مع الفوضى التي أسستها، وتريد تطبيعه مع هذا الواقع السياسي؛ لكن روح التمرد ورغبة الانتقام من قوى السلطة ومافياتها لا تزال قوية داخل نفوس الكثير من العراقيين، وربما تنتظر الشرارة التي تمنحها فرصة الاحتجاجات أيًا كانت الجهة التي تدعو إليها أو تقودها.