أحد شوارع العاصمة العراقية بغداد
أحد شوارع العاصمة العراقية بغداد

في حانات وفنادق ونوادي "الدرجة الأولى" في العاصمة العراقية بغداد، يصادف المرء مئات الشُبان العراقيين الذين تتراوح أعمارهم بين 20-40 عاما، حيث تظهر عليهم كل علامات الثراء المالي والبذخ السلوكي.

الغريب في بلد مثل العراق، يعيش أنماطا من الحروب الأهلية، الدائمة والدامية، فإن هؤلاء المتفاعلين/المتصادقين/المرفهين يبدون الكتلة التفاعلية الوحيدة المنحدرة من خلفيات طائفية وقومية ومناطقية مختلفة، من الذين لا يبالون ولا يأخذون تلك الاختلافات الهوياتية في هذا البلد بأية جدية. 

فوق ذلك، فإنهم يُظهرون تطابقا تاما في مسألتين رئيسيتين: نوعية أحاديثهم ومداولاتهم وأسباب اجتماعهم، التي هي أشياء مرتبطة بعالم الصفقات والأعمال والتجارة على الدوام، حيث يعمل هؤلاء كشبكة من الحلفاء الموضوعيين، ييسرون الأعمال لبعضهم البعض، بطريقة يكون الجميع مستفيدا في المحصلة. كذلك فإنهم جمعيا من أفراد من الجيل الثاني والثالث من أبناء أعضاء الطبقة السياسية والدينية والبيروقراطية العراقية العليا الحاكمة. إذ يستحيل تقريبا أن تجد أي منهم دون روابط عائلية واضحة مع أعضاء تلك الطبقة العراقية. 

طبقة الشبان العراقيين هؤلاء، تكشف الكثير من حقائق عوالم الاجتماع والسياسة والاقتصاد في هذا البلد، حقائق تبدو صعبة الكشف دون اندراج "ميداني" في عوالم الظل هذه التي يعيشونها منفردين. 

فهؤلاء الشُبان مثلا يملكون عالما مشتركا باذخا، مليئا بالسهر والصخب وأنواع المُتع، التي ترتدي كل أشكال الأبهة، دون أي التفات إلى الاختلافات الطائفية والمناطقية والقومية والدينية فيما بينهم، يكشفون حقيقة "لعبة الهوية" في بلد غارق في "صراعات الهوية" مثل العراق. 

إذ، وحيث لا يبالي ولا يهتم هؤلاء بتلك الخطابات والفروقات الهوياتية، فإنهم، مع ذويهم من السياسيين، يبدون مسؤولين مباشرين عن الشروخ الطائفية والقومية والمناطقية في البلاد، يختلقون صراعات على ضفاف الاختلافات الأهلية، يروجونها في المجتمع ويزيدون من سعيرها، يُدخلون مئات الآلاف من الأبرياء في أتونها، من الذين يدفعون أثمانها كل يوم، من دمائهم ومستقبل أبنائهم، وحقهم المشروع في بناء أفق وأوضاع أكثر يُسراً وهناءة لعيشهم.

يكشف هؤلاء كيف أن "لعبة الهويات" بين أيديهم هي مجرد سلعة وأداة لضبط تبعية الطبقات الاجتماعية لهم، وآلية لحفظ مكانتهم ومواقعهم وسلطاتهم الامتيازية ضمن الحياة العامة. 

على نفس المنوال، فإن "قطط بغداد" هؤلاء يفضحون تلك العلاقة والخدمة المتبادلة بين عالمي السياسة والأعمال في هذا العراق، والذي يبدو نموذجا "مثاليا" عما صار واضحا وحتميا بينهما في مختلف بلدان المنطقة، على الأقل منذ عقدين على الأقل. 

فتقريبا لا سياسة بدون "جناح اقتصادي"، هذا الأخير الذي يبدو ضروريا وحاضرا وملحا مثل "الأجنحة المسلحة" التي للأحزاب العراقية. فلكل حزب وتيار سياسي مجموعة من "القادة الاقتصاديين"، هم بشكل حصري من أبناء وعوائل "قادة" هذا الحزب، من الذين ينفذون يملكون مهارتين متراكبتين: تحويل الرأسمال السياسي والسلطوي الذي للآباء إلى رأسمال وثروة مالية للأبناء والعائلات، وتحويلها بأغلبيتها للخارج. كذلك يجهدون لتشكيل مجموعة من المؤسسات الاقتصادية الاحتكارية، بالذات في القطاعات ذات الربحية العالية والمؤمنة، لخلق موارد دائمة التدفق، تخلق للحزب و"الآباء" قدرة على شراء مجموعة من الذمم، مع خلق روابط مع قواعد اجتماعية ما ضرورية للتنظيم السياسي/الحزبي، روابط من خلال المال فحسب. 

ذلك الارتباط بين المال والسياسة يبدو معكوسا تماما.

فحيث أن مختلف التجارب العالمية تأسست على سعي الأثرياء ورجال الأعمال الانخراط في عالم السياسة وباقي مؤسسات ومنصات الشأن العام، سواء الأحزاب أو الجمعيات أو المبادرات المدنية، لإشباع رغبة داخلية مستبطنة لدى الأغنياء، يسعون عبرها لنيل بعض القيم والحضور في المتن العام، وخلق نوع من الاعتراف العمومي بحضورهم ودورهم في حياة مجتمعاتهم، وباقي الأشياء التي لم تتمكن كل الثروات التي بحوزتهم أن تؤمنها، فتراهم يلجأون ويتلهفون إلى السياسة وفضاءاتها وغيرها من مؤسسات الشأن العام.

لكن في العراق الأمر معكوس تماما. إذ ثمة طبقة كبرى من مجموع المنخرطين في الشأن العام، من سياسيين ورجال دين وموظفين حكوميين من الدرجات العليا، وحتى الكثير من المثقفين والأفراد الرمزيين في المجتمع، يملكون جميعا نهما استثنائيا لاستخدام مكانتهم وسلطاتهم الاعتبارية في سبيل خلق ثروات مادية هائلة، يعتبرون أنفسهم جديرين بها، أيا كانت الطرق المؤدية إليها، دون أية اعتبارات أخلاقية أو عُرفية، تفترض أن ما حاذوه من مكانة عمومية في مختلف مجالاتهم ونشاطاتهم وأدوارهم العمومية، هي أكثر رِفعة وقيمة من أية ثروات مادية كانت.

على أن الجانب الأكثر "وحشية" لما يكشفه "قطط بغداد" هو شكل علاقة "جيل الأبناء" مع الفضاء العام والمجتمع والثقافات المحلية. 

فغير النهم الشديد لمراكمة الثروة وتهريبها بشكل خام إلى خارج البلاد، فإن طبيعة شخصياتهم وسلوكهم الفردي ونوعية أفكارهم مُشيدة على مجموع القطيعة والفوقية تجاه البنى الاجتماعية المحيطة بها. يتحدثون لغات أجنبية أكثر من لغاتهم المحلية، يملكون روابط روحية وثقافية مع الخارج أكثر مما يملكون مع محيطهم، ويحافظون على مسافة فاصلة بينهم وبين باقي الطبقات، مسافة مادية واجتماعية في الآن نفسه.

على نفس السوية، فإن جيل الأبناء هؤلاء يملكون فكرة رئيسية ترى أن مكانة وأدوار ذويهم هي ورثة كاملة لهم، يستطيعون عبرها حيازة فوقية نفسية واجتماعية على باقي أفراد المتن العمومي. كذلك يملكون حسا دفينا بأن ما يراكمونه من أموال وثروات بفضل مكانة وأدوار ذويهم، إنما هي "المقابل العادل" لما بذله هؤلاء الأهل في فترات سابقة، وكان هؤلاء الأبناء من ضحايا ودافعي أثمان أعمال الأهل بشكل ما، لذا فإن الثروات الراهنة هي بمثابة تعويض لما عانوه. 

"قطط بغداد" هم التمثيل الأكثر وضوحا لشكل الحياة في بلد مثل العراق. حيث مهما يجهدون لتغييب عوالمهم في فضاءات من الظلام الدامس، في الفنادق والنوادي المغلقة عليهم، فإنهم بمستويات من الوضوح الباهر، تفوق حتى وضوح أحوال فقراء البلاد وهوان مستضعفيها.  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.