أحد أفراد القوات الموالية لموسكو خارج دونيتسك بأوكرانيا في 7 سبتمبر 2022
خلفت الحرب في أوكرانيا دمارا كبيرا

يفتح "الخراب الأوكراني" سؤالاً كبيراً: هل كان هذا الأمر حتمياً بالضرورة! ألم يكن من سبيل ما للنجاة؟ طروحات ومنافذ وسلوكيات ومساومات وأدوات تفكير قادرة على تجاوز عتبتي الاستقطاب في الآن عينه: وقف الجنوح الإمبراطوري الروسي البوتيني من طرف، ومنع خراب أوكرانيا من طرف آخر!؟. 

ماذا مثلاً لو تم إغلاق الأحجية البوتينة المركزية، والاستجابة لها منذ البداية. وذلك عبر إقرار القوى الغربية المخالفة/المتصارعة مع روسيا بوجود شروخ هوياتية عميقة في أوكرانيا، والتسليم بواقعية وجود نسبة ما مُعتبرة من سكان أوكرانيا، ذوي روابط وجدانية وثقافية وسياسية مع روسيا أكثر مما يملكون مع ما هو من المفترض "بلادهم"، والقبول بأن هؤلاء السكان إنما يمتدون على مساحة جغرافية ما، يشكلون فيها أغلبية شبه مطلقة، وتالياً يملكون حقاً طبيعياً وعادياً في تقرير مصيرهم، بما في ذلك حقها بتغيير شكل صلتهم وعلاقة جغرافيتهم مع الكيان الذي هم جزء منه حتى الآن "أوكرانيا"، أما بالبقاء داخله عبر ترتيبات ما، أو الاستقلال عنه، أو بالانضمام إلى كيان آخر، هو روسيا الاتحادية. 

هل لنا أن نتخيل إجماعاً من هذه الدول الغربية وما "يأتمر بها" من مؤسسات دولية، بالذات الأمم المتحدة، على القبول إجراء استفتاء رسمي وشرعي ومعترف به دولياً ضمن تلك المناطق الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم نفسها، ومنذ العام 2014، تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحديداً عبر الاتفاق المسبق مع روسيا على قبول النتائج المترتبة عنه، والتفاوض مستقبلاً على تفاصيل الحدود، فيما لو قرر هؤلاء الانفصال!.

ألم يكن ذلك بمثابة "حل ما"، متجاوز لقطبي المعادلة الصفرية في المسألة الأوكرانية، وتجاوز هذا الخراب العميم، الذي هو أسوء من كل شيء آخر دون شك. 

ربما لم تكن روسيا البوتينية نفسها لتوافق على مثل ذلك المخرج. لكن، ودون شك، ليست روسيا وحدها من كانت ترفض مثل ذلك الشيء، وليست روسيا هي أكثر من كان من وما يزال يرفضها.

إذ ثمة عقيدة غربية راسخة، تعتبر الخيارات "الانفصالية" تجاوزاً لمساحة خطرة، تحطيماً لموقع هذه القوى الغربية الاستثنائي، المتفوق على باقي العالم، ومساً بمصالحها القومية العليا، وزعزعة لنوعية وآلية تفكيرها في العلاقات الدولية. وإن كان لا بُد من انفصالية ما، في منطقة وظرف ما شديد الخصوصية والإلحاح، فأن هذا "الغرب" هو الذي من المفترض أن يطرحه ويشرف عليه ويبني نتائجه، وبناء على حساباته هو، ودون ضغط من أي طرف، وفقط حينما يكون خياراً لا مفر منه.

تعود هذه العقيدة "الغربية" إلى عصور المراحل الأولى من عصر الاستعمار، منذ أواخر القرن الثامن عشر. حينما كان هذا "الغرب" يجهد في سبيل تشييد كيانات كبرى، يخلق ضمنها منظومات حُكم عمومية غير صغيرة، لتكون آلية كبرى لصالحه، يكرس عبرها آلية حكمه لهذه الكيانات/الدول التي أختلقها. 

تعمقت هذه العقيدة عقب الحربين العالميتين. فهذه القوى الغربية التي انتصرت في هاتين الحربين، شكلت وأعادت ترتيب العالم حسب تقسيمات وخرائط هي الأكثر منفعة واستجابة لموقعها الامتيازي وقدرتها المتناهية في مسك خيوط وأدوات اللعبة الدولية والإقليمية، بالذات نوعية العلاقة والمصالح والحساسيات بين هذه الكيانات، وفيما بينها وبين تلك القوى الدولية. لذا صارت هذه الكيانات وخرائطها بموقع ما لا يُقبل تغييره بأي شرط. 

ثمة منابع أخرى لتلك العقيدة الغربية. فمن طرف تستشعر هذه القوى الغربية بأنه في نزعات الانفصال/الاستقلال على مستوى العالم ما قد يمسها داخلياً، فيما لو شرعنت نزعات "حق تقرير المصير" للجماعات الأهلية والسياسية في الدول الأخرى. فحتى هذه الدول الغربية، وبكل ديمقراطيتها وبنيان اقتصادها المتين، ليست محمية من نزعات الهوية وصراعات الجماعات السرية داخل كياناتها، وتالياً عن إمكانية التفكك. قضية الكتلان في إسبانيا شاهد حاضر راهناً، ومعها المسألة الاسكتلندية داخل المملكة المتحدة، كذلك حالة إيرلندا الشمالية، والصراع البلجيكي الداخل، وهكذا داخل أي كيان من المفترض أنه أكثر رصانة واعتداداً بنفسه ووحدته الداخلية. 

كذلك فإن هذه القوى الغربية تفضل التعامل مع نوعية من المؤسسات والنُخب الحاكمة للكيانات القوية والمستقرة والدائمة والكبيرة، فهذه النوعية أكثر قدرة على ضبط مجتمعاتها أولاً، وخلق علاقة مرنة مع القوى الغربية دائماً، لأنها كيانات يملك الغرب تاريخاً ونوعية من الضوابط المتعارف عليها معها منذ عقود. تفضل القوى الغربية ذلك على أية بعثرة وإعادة تشكيل لمؤسسات ونُخب حكم هذه الكيانات، تلك البعثرة التي قد تحطم نوعية الروابط الاقتصادية والأمنية والسياسية والثقافية وديناميكيات الإخضاع التي نسجتها القوى الغربية منذ عقود، وتحتاج لعقود كثيرة لتعيد تشييدها مع الكيانات الحديثة. 

لكن، ثمة ما لا يمكن لهذه القوى الغربية أن تعانده بهذه الصرامة إلى الأبد. فعالم اليوم، يشهد صعوداً لنوعية من الصراعات القائمة على النزوع الجمعي لعدد كبير من المجتمعات التي تقول بصراحة "كفى للعيش سوية". 

ثمة دول كانت مملوكة ومحكومة من جماعة أهلية بذاتها، لكنها راهناً صارت دولاً فاشلة تماماً، وتالياً ما عادت قادرة بسبب ذلك حُكم وضبط الجماعات الأخرى، الأكثر وضوحاً وميلاً وشجاعة للقول "وداعاً". وثمة نزعات شعبوية متزايدة من كل حدة، تنزع لأن تعتبر الهوية الأهلية مصدراً للسياسة والجغرافيا، وتالياً الكيان. وثمة إرهاق في كل مكان من الدول الكبرى والحدود المفتوحة. وقبل كل شيء، ثمة "الخراب العمومي" الذي يحضر بقوة فيما لو لم تحضر حلول أكثر حيوية وواقعية من الخطابات الرنانة الجوفاء، حول المواطنة والمساواة المدنية وما شابه.

رئيسة وزراء اسكتلندا الراهنة تهدد بإعادة استفتاء الاستقلال عن المملكة المتحدة، ولا يبدو البرلمان ونخبة الحُكم الكتلانية "الإسبانية" قد تراجعت عن مطالباتها بالاستقلال. فشل العراق تماماً في فعل أي شيء بعد تحطيم استفتاء كردستان الاستقلالي، وهكذا تسير الأمور في أكثر من بقعة من العالم. 

ليس في هذا الأمر أي دفاع عن سلوك روسيا البوتينية في ضمن المناطق الأوكرانية. لكن الحدث مناسبة للقول إن المجتمعات أكثر قداسة من الكيانات، وإن الخراب العمومي هو الشيء الوحيد الذي ليس حلاً، وإن الحق في المتاركة المتراضية يجب أن يعود ويحضر كفعل عادي. فعالم اليوم قائم على قرابة 200 دولة، لكنه عالم متخم بالحروب والعنف والكراهية، ماذا لو قبلنا أن يكون عالماً قائماً على 2000 دولة مثلاً!!. 

غالباً سيكون عالماً أفضل وأكثر رأفة وأقل عدوانية وكراهية، لأنه ليس من شيء أسوء مما هو حاضر الآن، في كل شيء وحسب مختلف المعايير تقريباً. 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.