ما زالت بعض القوانين تميّز بين الرجل والمرأة، لدرجة وضعت عقوبتين منفصلتين للواحد منهما عن ذات الواقعة.

لا يوجد خطاب مجتمعي أو نضال حقوقي أو سياسي منزه عن النقد والتفكيك وإعادة التقييم، لا توجد قضية تذهب فيها استحقاقات أصحابها مذاهب لانهائية، فيصبحون مخولين لقول ما يريدون أو لفعل ما يختارون أو للذهاب أي مذهب يرومون في العمل والمقاومة دون أن يكونوا عرضة للنقد وإعادة التقييم. لا يوجد عمل بلا أخطاء ولا يوجد نضال بلا سقطات، فإذا ما تعالينا على عملية التقييم ونزهنا أنفسنا عن التوقف عند محطات مهمة في عملنا مراجعة وتفكيكاً، فلن تكتمل المسيرة، ولن يتحقق الهدف المنشود.

ومن الملاحظ أن الكثير من النسويات الشابات الفاعلات على الساحة العربية الإلكترونية، خصوصاً من خلال وسائل التواصل، ينفعلن جداً أمام أي محاولة نقد أو إعادة تقييم لجهودهن، مذكرات ومشيرات دوماً لمعاناتهن، وكأنهن يضمِّن فكرة أن المعاناة والعذاب والفقد هي مسوغات كافية للانطلاق بأي صورة وبأي شكل وبأي درجة من العنف في النضال، وأن أي نقد للأسلوب والتوجه هو تعدي على حرياتهن أو محاولة لسلبهن الحق في النضال الذي يعتقدن أنهن يستحققن الذهاب فيه لكل ولأبعد مذهب. 

وفي حين أنني أعتقد أن هذه الناشطات، أي ناشطات في الواقع، حرات في الذهاب بنضالهن لأي وكل مذهب يخترن حتى ذاك الذي قد يثير غضاضة ونفور البعض، ذلك أن أساليب العمل تختلف بيننا كبشر عموماً وهو اختلاف طبيعي ومستحق، إلا أن حرية اختيار أسلوب العمل لا تنفي في المقابل حرية نقد هذا الأسلوب وإعادة تقييمه. لا يمكن استخدام التاريخ القمعي الذي عانته النساء أو الواقع الحالي الأليم لحيواتهن لإسكات الأصوات المقيِّمة لعملهن والمختلفة مع أسلوبه، فمحاولة إسكات الصوت الآخر بأي طريقة نفسية أو لفظية عنيفة، أنا أدعي، هو مذهب ذكوري أبوي، وهو ما أشرت له سابقاً على تويتر، والذي أثار غضاضة الكثير من الشابات العاملات في المجال. 

نحتاج أن نناضل بأسلوب مختلف، ذلك أن قضيتنا مختلفة، حيث أن أبعادها، أنماط المعنيات بها، وأنوع معاناتهن وقضاياهن تحتم نوع مختلف وخاص من النضال. هنا لابد من الإشارة لطريقة التعامل النسوي النسوي، أي طريقة تعامل الشابات النسويات مع بعضهن البعض وكذلك طريقة تفاعلهن مع اختلافاتهن في درجة المصارحة والمطارحة الفكرية والعملية، ذلك أن ليس كل امرأة في العالم العربي قادرة على، أو راغبة في، التعامل براديكالية قولاً وفعلاً مع الواقع، ليست كل النساء على ذات الدرجة من الشعور بالقمع أو الرغبة في التحرر الديني أو العائلي أو القبلي، ليست كل النساء لها ذات الرأي في موضوع تحرير الجسد والخيارات الحياتية. هناك العديد من النساء في عالمنا الشرق أوسطي المحافظ يعتقدن بوصاية الرجل ويعتمدن الرأي الديني المحافظ من حيث منظوره للعلاقة الرجالية النسائية والعلاقة المجتمعية النسائية ويعتززن بالتراث القبلي بكل أبويته وبكل ما له وما عليه، فما مصير هؤلاء؟ هل يخرجن من الحوار والنضال والحراك لأنهن غير متحررات أو راديكاليات بما في الكفاية؟

لقد كتبت سابقاً أؤكد على ضرورة الخروج من المنظومة الذكورية الشوفينية في الفعل النضالي، في ذلك أعني ضرورة التهدئة بين النساء بحد ذاتهن من حيث التقليل من القسوة الخطابية والاتهامات المتبادلة، ومحاولة تخطي الاختلاف وقسر النفس على العثور على جوانب اتفاق وتفاهم. إلى جانب ذلك، لابد من التأكيد على أهمية المنحى المنطقي العقلاني في التعامل مع المجتمع ككل كذلك وليس بين النساء الناشطات فقط. بالطبع الصوت العالي الغاضب وأحياناً حتى المتهور والشتام فاعل في جذب الانتباه وتحريك مياه القمع الراكدة على أكباد النساء، لكنه غير فاعل في تحقيق التغيير، التغيير يحتاج فعلياً إلى منطق وحجة ونضال مكتوب ومرئي ومسموع، جسدي ونفسي، هو يتطلب عقلانية ومناورة ومحاورة وتضحية ومعاناة وألم وكمية ضخمة و"كريهة" من ضبط النفس. فالبذاءة الكاملة، وعذراً على اختيار هذه الكلمة والتي أذكرها لورودها على لسان إحدى النسويات المغردات، هي كما التهذيب "الفكيتوري" الكامل، كلاهما غير ناجع وغير ذي نتائج حقيقية على أرض الواقع. 

لا يستشكل العنف اللفظي حين استخدامه للتعبير عن الوضع الراهن، ذلك أنه، مستخدماً للتعبير عن الآلام والأوجاع، مفهوم ومبرر، إلا أنه يصبح مشكلة وعائق حين يُستخدم في تفعيل النضال وإيجاد الحلول، ذلك أنه يمكن التعبير عن ألم الجرح بآه عنيفة، إلا أنه لا يمكن مداواته بالصراخ مهما بلغت قوة هذا الصراخ أو عنفه. الدواء والحلول تحتاج كلها لعقل ومنطق والكثير من الهدوء، والنضال النسوي في واقعه، وتشابهاً مع معظم النضالات الحقوقية، عملية مناورة ومداورة، تنازلات ومقايضة، معاناة كثيرة وراحة قليلة، وصولاً إلى الانتصارات الأخيرة الباهرة، حيث هذا كان هو مشوار النضال النسوي الغربي.

لَكُنّ الحق يا شاباتي الصغيرات في العنف والقسوة تجاه المجتمع، بل وكذلك في البذاءة كما عبرت إحداكن، تعبيراً عن الألم وصراخاً بالأوجاع، لكن لا حق "مفيد" لكنّ في ذلك تجاه المختلفات، اللواتي يقفن في منتصف الطريق أو غير القادرات على المشاركة أو المختلفات معكن في الأسلوب أو من يعتقدن بخطأ طريقكن أو استشكالية البعد الذي تذهبن إليه. بالتأكيد حق التعبير مكفول بشكل مطلق وكحالة أصلية، إلا أنني أتكلم عن الحق المؤثر ولربما "الأخلاقي" تجاه بعضكن البعض، هذا الحق "أخلاقياً" سينعدم حين يقع الضرر النفسي والجسدي بنا كنساء جراء عدم تفهمنا لاختلاف ظروف وقدرات بعضنا البعض. ويبقى السؤال، إن أقررنا بحقكن في العنف والهجوم تجاه المجتمع، وهذا نتفق عليه، وتجاه بعضكن البعض، وهذا نستشكل حوله، ما مدى نجاعة الأسلوب وأي انتصارات يحقق هذا العنف لنا كنساء؟

أتصور أن هذا هو السؤال الذي يفترض أن يحدد "أخلاقية" العمل، والذي يجب أن يدور حول مدى تحقيقه للأهداف، بالتأكيد دون التعدي على الغير ودون ممارسة كراهية وعنصرية تجاه المختلف وإن كانت الكراهية "مُفسرة" بطول المعاناة. التفسير ليس تبرير، والكراهية، وإن كانت تنفيساً، ليست أداة تغيير. نحن بحاجة لأن نحتوي بعضنا البعض كنساء وأن نلاعب بذكاء ولؤم المجتمع الأبوي الذي يحاصرنا من كل صوب. اغضبن واصرخن وقاومن واعتمدن القسوة والمباشرة في الحوار، لكن يا حبذا لو بقيت الرحمة هي الأداة الداخلية لتعاملنا مع بعضنا البعض، ويا حبذا لو تطور الأسلوب هذا خارجياً مع المجتمع ولو بعد حين وصولاً إلى التخطيط العقلاني المنطقي القادر على تحقيق الانتصارات المرجوة.

لا يوجد صورة أشد "عنفاً منطقياً" من قص نساء إيران لشعورهن على الملأ في صورة احتجاجية سيخلدها التاريخ. في هذه الصورة يجتمع العنف المرغوب المدروس والمنطق الفكري والعاطفي والعملي الذي يحقق النتائج المرجوة.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.