عرفت الشعوب القديمة الرق، وكان أمرًا شائعًا في أغلب المجتمعات. وردت في "الكتاب المقدس" -بعهديه القديم والجديد- الكثير من النصوص التي تؤكد على أن الرق وملك اليمين كانا أمرين معروفين بين اليهود والمسيحيين. جاء في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين أن النبي إبراهيم قد اتخذ عددًا من السراري، وأنهن قد ولدن له مجموعة من الأبناء. "وَأَمَّا بَنُو السَّرَارِيِّ اللَّوَاتِي كَانَتْ لإِبْرَاهِيمَ فَأَعْطَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَطَايَا، وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِهِ شَرْقًا إِلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ بَعْدُ حَيٌّ".
أما الإصحاح العشرون من سفر التثنية، فرسَّم الاسترقاق كأحد الممارسات المشروعة لبني إسرائيل عند دخولهم الحرب ضد أعدائهم. "حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ... وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ".
كانت كثرة الجواري والسراري في عصر الملك داود وابنه سليمان أحد أهم الدلائل على قوة ملكهما وعظمة دولتهما. يذكر العهد القديم في هذا السياق أن الملكين قد اتخذا المئات من السراري اللاتي قدمن من مناطق وأقاليم مختلفة.
لاحقا، عرف الإسلام بدوره الإماء والسراري وملك اليمين. ووردت بعض الأحكام الخاصة بها في القرآن ومدونات الحديث. نسلط الضوء في هذا المقال على قضية ملك اليمين في الإسلام، لنرى كيف تأثرت أحكامها الفقهية بالسياق الاجتماعي. وكيف تباينت مكانة ملكات اليمين والجواري في الحقب المختلفة في التاريخ الإسلامي.
معنى ملك اليمين
يُقصد بمصطلح ملك اليمين الأرقاء المملوكين لغيرهم، سواء كان هؤلاء الأرقاء من الذكور أو الإناث. ورد مصطلح ملك اليمين في القرآن كثيرًا. وكان يُقصد به -في الغالب- الجواري أو الإماء. وقد قدمت مدونات الفقه الإسلامي مصطلحا وثيقا الصلة بملك اليمين، وهو السراري، باعتبارهن الإماء اللاتي يعاشرهن سيدهن جنسيًا. وقد اُعتبِر ما ورد في سورة المؤمنون "...وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ"، دليلًا شرعيًا على جواز تلك الممارسة.
أوضح عالم الدين السعودي المعاصر عبد العزيز بن باز الطريقة التي ظهرت بها الجواري والسراي في المجتمعات الإسلامية، فقال: "أصله السَّبْي، ثم التوالد بعد ذلك والإرث والبيع والشراء، ولكن أصله السَّبْي من الكفار".
وأكدت المصادر التاريخية الإسلامية على أن النبي اتخذ مجموعة من السراري، منهن كل من ريحانة بنت زيد بن عمرو، ومارية القبطية. وكذلك، تحدثت تلك المصادر عن أن عادة اتخاذ السراري كانت شائعة في عصر الصحابة والتابعين، لا سيما بعد نجاح حركة التوسعات العربية في بلاد الشام وفارس ومصر والغرب الإسلامي.
أحكام ملك اليمين في الفقه الإسلامي
عملت المدونات الفقهية على إثبات التمايز الطبقي بين الأحرار والأرقاء من خلال مجموعة واسعة من التشريعات والأحكام. نسب الفقهاء ورجال الدين أفكارهم واجتهاداتهم في تلك المسائل للنص القرآني وللحديث. ولكن، في حقيقة الأمر كانت تلك الأفكار أكثر اتساقًا مع السياق التاريخي الذي عايشته المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى.
من تلك الأحكام الفقهية، الاختلاف حول تحديد عورة الأمة. مال أغلبية الفقهاء للقول بأن عورة الأمة إنما تقع ما بين السرة والركبة، واعتمدوا في ذلك على بعض الآثار المروية عن بعض الصحابة. من ذلك ما نقله أبو بكر البيهقي المتوفى 458ه في "السنن الكبرى" عن أنس بن مالك "كُنَّ إِمَاءُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْدِمْنَنَا كَاشِفَاتٍ عَنْ شُعُورِهِنَّ تَضْرِبُ ثُدِيّهُنَّ". وما نقله عن بعض التابعين الذين رووا أن عبد الله بن عمر بن الخطاب "كان إذا اشترى جارية كشف عن ساقها ووضع يده بين ثدييها، وعلى عجزها وكأنه كان يضعها عليها من وراء الثوب".
![نساء أيزيديات نساء أيزيديات](https://media.voltron.alhurra.com/Drupal/01live-126/2019-12/5F7090BB-74E0-43D9-828C-6713A33717E0.jpg)
بنى الفقهاء على تلك النقولات، حكمهم في أن الحجاب المفروض على النساء قد فُرض على الحرائر خاصةً دون ملك اليمين. في ذلك المعنى يقول ابن تيمية المتوفى 728ه، في مجموع الفتاوى: "وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ، كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ: أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ، وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ: "أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لَكَاع؟"".
ومال بعض الفقهاء للتشدد فيما يخص تحديد عورة الأمة، ومنهم مالك بن أنس الذي نقل عنه ابن رشد الجد المتوفى 520ه في كتاب "البيان والتحصيل" أنه "سُئل عن الرجل يشتري الجارية، أترى أن ينظر إلى كفيها؟ قال: أرجو ألا يكون به بأس؛ فقيل له: فمعصميها وساقيها؛ قال: لا أرى ذلك له، ولا يعجبني ذلك، ولكن أرى أن يُخبر عنها كما يخبر عن المرأة التي يتزوجها".
على الجانب الآخر، انتصر القليل من الفقهاء للنزعة الإنسانية المحضة، والتي يتساوى فيها الحر مع العبد. من هؤلاء ابن حزم الأندلسي المتوفى 456ه، والذي ذكر في كتابه "المُحلى بالآثار" "... وأما الفرق بين الحرة والأمة: فدين الله واحد، والخلقة والطبيعة واحدة؛ كل ذلك في الحرائر والإماء سواء، حتى يأتي نص في الفرق بينهم في شيء، فيوقف عنده".
ظهرت التفرقة الفقهية بين الأمة والحرة أيضًا في مسألة عقوبة القذف. ففي الوقت الذي يجمع فيه الفقهاء على حتمية تطبيق عقوبة الجلد على كل من يقذف المرأة الحرة العفيفة، امتثالًا لما ورد في سورة النور "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا...". فإنهم -أي الفقهاء- قد رفضوا تطبيق العقوبة على قاذف الأمة. واستدلوا على ذلك بما ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة، من قول الرسول: "من قَذَفَ مَمْلُوكَهُ، وهو بَرِيءٌ مما قال جُلِد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال".
ينقل ابن حجر العسقلاني المتوفى 852ه في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" عن بعض العلماء قولهم الذي أوضحوا فيه موقفهم من تلك المسألة: "أجمعوا على أن الحر إذا قذف عبدًا لم يجب عليه الحد. ودل هذا الحديث على ذلك، لأنه لو وجب على السيد أن يجلد في قذف عبده في الدنيا لذكره كما ذكره في الآخرة، وإنما خص ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين. فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى".
ملكات اليمين بين الخضوع والتسلط
تباينت مكانة ملكات اليمين والجواري والسراري في المجتمعات الإسلامية، من عصر إلى آخر، ومن طبقة إلى أخرى. كان الخضوع المطلق هو الطابع الذي وسمت به الجواري في العهد الأول من الإسلام. وقع ذلك بالتزامن مع نجاح الموجات الأولى من التوسعات العسكرية في منطقة الشرق الأدنى. يحدثنا ابن الأثير المتوفى 630ه في كتابه "الكامل في التاريخ" عن كثرة ملكات اليمين اللاتي وقعن في أيدي المسلمين "الفاتحين" في تلك المرحلة. على سبيل المثال، جاء في حديثه عن موسى بن نصير وأخبار غزواته في بلاد الغرب الإسلامي ما يلي: "فبلغ الخُمس -نصيب الدولة من الغنيمة- ستين ألف رأس من السبي! ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا".
في تلك الفترة، اعتاد الخلفاء الأمويون على كثرة أعداد الجواري والسراري القادمين من بلاد المغرب. مما يعبر عن ذلك، ما أورده محمد بن أحمد التجاني في كتابه "تحفة العروس ومتعة النفوس" من أن الخليفة هشام بن عبد الملك أرسل إلى والي إفريقية يعاتبه على تقصيره في إرسال السراري الجميلات، فقال له: "أما بعد، فإن أمير المؤمنين لما رأى ما كان يبعث به موسى بن نصير إلى عبد الملك بن مروان، أراد مثله منك وعندك من الجواري البربريات الماليات للأعين الآخذات للقلوب ما هو معوز لنا بالشام وما والاه. فتلطف في الانتقاء وتوخ أنيق الجمال وعظم الأكفال وسعة الصدور ولين الأجساد ورقة الأنامل وسبوطة العصب وجدًالة الأسوق وجثول الفروع ونجالة الأعين وسهولة الخدود وصغر الأفواه وحسن الثغور وشطاط الأجسام واعتدال القوام ورخام الكلام. ومع ذلك، فاقصد رشدة وطهارة المنشأ فإنهن يُتخذن أمهات أولاد والسلام".
وكان المجتمع الإسلامي في فترته الأولى لا يرى قيمة حقيقية للجواري، إذ كان السواد الأعظم من المسلمين لا يرون لهن فائدة تّذكر إلا فيما يخص الخدمة المنزلية والمعاشرة الجنسية. يذكر شمس الدين الذهبي المتوفى 748ه في كتابه "سيّر أعلام النبلاء"، كيف تغير هذا الاعتقاد -شيئًا فشيئًا- فينقل على لسان ابن أبي الزناد -واحد من كبار التابعين- قوله: "كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغر السادة: علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علمًا وتقى وعبادة وورعًا، فرغب الناس حينئذ في السراري".
تغيرُ نظرة المجتمع في السراري/أمهات الأولاد ستتفق مع حادثة مشهورة في السردية الشيعية. يحكي محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329ه في كتابه "الكافي" أن الإمام الرابع علي زين العابدين بن الحسين قد أعتق إحدى إمائه وتزوجها. كان هذا الأمر غريبًا إلى حد بعيد عن ثقافة المجتمع المسلم حينذاك. الفرصة التي انتهزها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عندما أرسل لزين العابدين معاتبًا: "أما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر وتستنجبه في الولد فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت، والسلام". يذكر الكليني أن زين العابدين قد رد بكتاب جاء فيه "أما بعد، فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر وأستنجبه في الولد وأنه ليس فوق رسول الله مرتقًى في مجد ولا مستزادا في كرم. وإنما كانت ملك يميني خرجت متى أراد الله عز وجل مني بأمر ألتمس به ثوابه ثم ارتجعتها على سنة. ومن كان زكيا في دين الله، فليس يخل به شيء من أمره وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة وتمم به النقيصة وأذهب اللؤم فلا لؤم على أمرؤ مسلم إنما اللؤم لؤم الجاهلية والسلام".
رضخ الفقهاء لتغير الثقافة المجتمعية السائدة، فأكدوا على حرمة بيع أمهات الأولاد، كما قالوا: بوجوب عتقها بعد وفاة سيدها. سيتزايد الاعتراف المجتمعي بالجواري والسراري أيضًا بعد فترة. ويتضح ذلك عند مراجعة سيّر أمهات خلفاء بني العباس، واللاتي كن -في أغلب الحالات- من الجواري. الظاهرة التي لم تعرفها الدولة الأموية.
ومع توسع الدولة الإسلامية، تمكنت لاحقا الكثير من الجواري من الوصول للسلطة، ولعبت بعضهن أدوارًا مؤثرة في حركة التاريخ الإسلامي، شرقًا وغربًا. على سبيل المثال، اشتهرت كل من شغب، زوجة الخليفة العباسي المعتضد بالله، وصبح البشكنشية التي شاركت في الوصاية على ابنها هشام المؤيد بالله خليفة الأندلس، وشجر الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب، فضلًا عن السلطانة خُرم زوجة سليمان القانوني، والسلطانة كوسم زوجة أحمد الأول وغيرهن.