يحتفل أغلب المسلمين في شتى أنحاء العالم، يوم السبت، الأول من شهر محرم، برأس السنة الهجرية 1444. تُثار العديد من الأسئلة حول توقيت حادثة الهجرة والتقويم الهجري وبداية العمل به. نلقي الضوء في هذا المقال على تلك الحادثة المحورية في تاريخ الإسلام، لنوضح أسباب الخلاف حول هذا التقويم بين السنة والشيعة من جهة، ولنبيّن وجهات النظر المتعددة حول الاحتفال به وما ارتبط به من أدعية وروايات مأثورة من جهة أخرى.
متى وقعت الهجرة؟
تذكر المصادر التاريخية أن النبي محمد خرج من مكة في أواخر شهر صفر من السنة الثالثة عشر من البعثة، وأنه مكث ثلاثة أيام في غار ثور متخفيًا عن أعين كفار قريش الذين حاولوا اللحاق به. خرج النبي من الغار في أول أيام شهر ربيع الأول على الأرجح. ووصل إلى المدينة في يوم الثامن أو الثاني عشر من ربيع الأول. ورد في سيرة ابن هشام أن دليل الرحلة عبد الله بن أريقط "سلك بهما -أي النبي وأبي بكر- أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل… ثم قدم بهما قباء، على بني عمرو بن عوف، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل...".
من صاحب فكرة هذا التقويم؟
تختلف الأقوال في تحديد هوية صاحب فكرة التقويم الهجري. يمكن القول إن هناك رأيين معتبرين في تلك المسألة. يذهب أصحاب الرأي الأول –وهم أغلب السنة- إلى أن عمر بن الخطاب كان صاحب الفكرة وذلك في فترة خلافته. أما أصحاب الرأي الآخر، ومعظمهم من الشيعة الإمامية، فيرون أن النبي كان أول من اتخذ التقويم الهجري.
يستدل أصحاب الرأي الأول بمجموعة من الروايات التاريخية. منها على سبيل المثال ما ورد في تاريخ اليعقوبي في أحداث السنة السادسة عشر من الهجرة "... وفيها أرخ عمر الكتب، وأراد أن يكتب التأريخ منذ مولد رسول الله، ثم قال: من المبعث، فأشار عليه علي بن أبي طالب أن يكتبه من الهجرة، فكتبه من الهجرة". وذكر ابن كثير أيضا في كتابه "البداية والنهاية" أن "الصحابة اتفقوا في سنة ست عشرة –وقيل: سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة- في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة…".
تفسر تلك الروايات إقدام عمر بن الخطاب على وضع التقويم الهجري بكونه استجابة لمقتضيات الأمر الواقع. كانت الرسائل تؤرخ بالشهور وحدها، وكان من الوارد أن تتأخر الرسالة لشهور عديدة حتى تصل إلى الخليفة. فكان يحدث الاضطراب في معرفة توقيت الرسالة وإذا ما كانت أُرسلت في شعبان -مثلًا- من هذا العام أو في شعبان من العام السابق. ولذلك احتاج المسلمون إلى أداة لضبط السنين وتأريخها.
على الجهة المقابلة، يذهب الشيعة إلى أن النبي كان أول من أرخ بالهجرة. ويستدلون على ذلك بمجموعة من الآثار. من ذلك ما نقله الحاكم النيسابوري المتوفى في كتابه "المُستدرك على الصحيحين" عن عبد الله بن العباس من قوله: "كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله المدينة، وفيها ولد عبد الله بن الزبير"، وما نقله ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" عن ابن شهاب الزهري "أن النبي لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول".
يحتج أصحاب هذا الرأي أيضًا ببعض الرسائل والمعاهدات التي كُتبت في عهد النبي. والتي تم تأريخها بالتقويم الهجري. من أشهر تلك الرسائل تلك التي نقلها أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "ذكر أخبار أصبهان" والتي جاء في آخرها "كتب علي بن أبي طالب بأمر رسول الله في رجب سنة تسع من الهجرة، وحضره أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وسلمان وأبو ذر وعمار وعيينة وصهيب وبلال والمقداد وجماعة آخرون من المؤمنين".
حاول بعض العلماء أن يفهموا وضع الصحابة للتقويم الهجري في سياق تفسير الآيات القرآنية. على سبيل المثال، نقل شهاب الدين الألوسي في كتابه "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" عن أبي القاسم السهيلي تفسيره للآية رقم 108 من سورة التوبة "...لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه. فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين". قوله: "...ويُستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي وبنيت المساجد، وعُبد الله تعالى كما يجب، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى: من أول يوم أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن. فإن كان الصحابة عنهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما فيه من الإشارات، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد فقد علمه تعالى وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك وليس ههنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه معتبر لمن ادكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر".
لماذا تم اختيار محرم لبداية العام؟
من الأسئلة المهمة التي تُثار حول موضوع التقويم الهجري. لماذا يبدأ العام الهجري في شهر محرم رغم أن النبي وصل إلى يثرب -التي ستُعرف بالمدينة المنورة فيما بعد- في شهر ربيع الأول؟
في الحقيقة لا توجد إجابة شافية على هذا السؤال. حاول العديد من العلماء أن يحلوا تلك الإشكالية فخرجوا بمجموعة من الآراء. على سبيل المثال، نقل ابن كثير بعض العبارات التي يُفهم منها أن عمر بن الخطاب اختار أن يبدأ العام في محرم حتى يكون الناس قد رجعوا من الحج، وحتى تكون الأشهر الُحرم الأربعة -محرم ورجب وذي القعدة وذي الحجة- جُمعت في عام واحد. بحيث يبدأ هذا العام بشهر محرم وينتهي بشهر ذي الحجة.
من جهة أخرى، فسر ابن حجر العسقلاني بداية السنة بشهر محرم من خلال ربطه بوقوع بيعة العقبة الثانية في شهر ذي الحجة. يقول ابن حجر موضحًا ذلك الربط: "...لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ. وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء من محرم…".
لماذا ارتبط التقويم الهجري بالقمر؟
عرفت العرب التقويم القمري قبل الإسلام. كانت التقاويم القمرية هي الأكثر مناسبةً للشعوب البدوية التي تعيش في الصحراء. أما التقاويم الشمسية فقد شاعت وسط المجتمعات الحضارية المستقرة التي يعتمد اقتصادها على الزراعة. يُعرف التقويم القمري بكونه التقويم الذي يعتمد على دورات القمر الكاملة كأساس لحساب الأشهر، بحيث تكون كل اثني عشر دورة سنة قمرية واحدة. يبلغ عدد أيام السنة القمرية 354 يومًا وجزءًا من اليوم. بما يعني إن السنة القمرية أقصر بـأحد عشر يومًا من السنة الشمسية.
أرجع ابن تيمية ارتباط السنة الهجرية بالتقويم القمري لأسباب دينية تشريعية بحتة. يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى "...لَمْ يُعَلَّقْ لَنَا بِهَا -أي الشمس- حِسَابُ شَهْرٍ وَلَا سَنَةٍ وَإِنَّمَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالْهِلَالِ. كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَةُ وَلِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الشُّهُورَ مَعْدُودَةٌ اثْنَا عَشَرَ وَالشَّهْرُ هِلَالِيٌّ بِالِاضْطِرَارِ... وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا أَيْضًا إنَّمَا عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْأَهِلَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ...وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ وَأَحْسَنُهَا وَأَبْيَنُهَا وَأَصَحُّهَا وَأَبْعَدُهَا مِنْ الِاضْطِرَابِ".
تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات الإسلامية عرفت التقويم الهجري الشمسي للمرة الأولى في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري. عُرف هذا التقويم باسم التقويم الجلالي نسبةً للسلطان السلجوقي جلال الدولة ملك شاه. ويٌقال إنه -أي التقويم- من وضع الشاعر والفلكي الفارسي الشهير عمر الخيام.
تُستخدم السنة الهجرية الشمسية في ثلاث دول إسلامية في عالمنا المعاصر، وهي إيران وأفغانستان والسعودية. تبدأ السنة الهجرية الشمسية في السعودية في اليوم الثالث والعشرين من شهر سبتمبر وهو اليوم الذي يوافق وصول النبي للمدينة المنورة. أما في إيران، فتبدأ السنة الهجرية الشمسية في الحادي والعشرين من شهر مارس مع حلول عيد النوروز في بداية فصل الربيع من كل عام.
كيف بدأ الاحتفال برأس السنة الهجرية؟
لم يحتفل المسلمون برأس العام الهجري في القرون الثلاثة الأولى. يرجع الاحتفال الأول بهذا اليوم إلى زمن الدولة الفاطمية في القرن الرابع الهجري. يذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" العديد من مظاهر الاحتفال بهذا اليوم، فيقول: "وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أوّل المحرّم في كل عام لأنها أوّل ليالي السنة وابتداء أوقاتها…". يذكر المقريزي أنه كان من الشائع أن تُطهى الخراف وتُعدّ الألبان والحلوى ومختلف أنواع الخبز وأن توزع تلك الأطعمة على الخاصة والعامة في جميع أنحاء القاهرة. ينزل الخليفة الفاطمي بعدها في موكب مهيب ليتجول في شوارع القاهرة ويفرق القطع المعدنية على الفقراء والمساكين.
شهد الاحتفال بهذا اليوم رواجًا لعدد كبير من الأحاديث الموضوعة والتي نسبها أصحابها للنبي. من أشهر تلك الأحاديث "من صام آخِر يوم من ذي الحجَّة، وأول يوم من المحرَّم، فقد ختم السَّنة الماضية، وافتتح السنة المستقبلة بصوم جعله الله كفَّارة خمسين سنة". في السياق ذاته راجت بعض الأدعية المخصوصة في هذا اليوم، ومنها "اللهم أنت الأبدي القديم وهذه سنة جديدة أسألك العصمة فيها من الشيطان الرجيم وأوليائه والامن من الشيطان ومن شر كل ذي شر ومن البلايا والآفات وأسألك العون على هذه النفس الامارة بالسوء والاشتغال بما يقربني إليك يا رءوف يا رحيم يا ذا الجلال والاكرام".
اختلفت آراء العلماء في شرعية الاحتفال بهذا اليوم. ذهب العديد من علماء السلفية إلى تحريم الاحتفال به. في ذلك المعنى ورد في فتوى العالم السعودي عبد العزيز ابن باز "...فالتهنئة بالعام الجديد لا أعلم لها أصلاً عن السلف الصالح، ولا أعلم شيئاً من السنة أو من الكتاب العزيز يدل على شرعيتها…". فيما أجاز بعض العلماء الاحتفال به. ومن ذلك ما ذكره مفتي مصر شوقي علام "إن التهنئة بقدوم العام الهجري مستحبة شرعًا؛ لما فيها من إحياء ذكرى هجرة النبي وصحابته، وما فيها من معان سامية وعبر نافعة، وقد حث الشرع على تذكر أيام الله وما فيها من عبر ونعم، كما أنه بداية لعام جديد، وتجدد الأعوام على الناس من نعم الله عليهم التي تستحب التهنئة عليها".