تسبب الحريق الذي نشب في كنيسة "أبو سيفين" في القاهرة، يوم الأحد الماضي، في مقتل 41 شخصًا بينهم 15 طفلًا. تعاطف الجميع مع الضحايا، وانتشرت التعازي والدعوات بالرحمة والمغفرة لتغزو مواقع التواصل الاجتماعي في مصر والدول العربية. رغم حملة التعاطف الكبيرة، أعلن البعض غضبهم من الترحم على ضحايا الكنيسة بحجة أنهم غير مسلمين!
يتكرر هذا في الواقع مع كل حادثة، أو وفاة شخصية غير مسلمة. كان آخرها صحافية قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة التي قتلت في مايو الماضي أثناء أداء عملها قرب مخيم جنين في الضفة الغربية. حينها، لم تتردد شخصيات، وجمعيات، ومنظمات إسلامية في إصدار بيانات ترفض الترحم عليها.
بيان بخصوص مقتل الصحفية شيرين و تداعياته
Posted by رابطة علماء المغرب العربي on Monday, May 16, 2022
ويستمد رافضو الترحم على غير المسلم تبريراتهم من الرأي الفقهي التقليدي الرافض مطلقا لهذه المسألة، وهو الرأي الذي ما يزال سائدا في الأوساط الفقهية وحتى داخل الكثير من المؤسسات الدينية الرسمية.
وكان ملفتا تفادي جامع الأزهر ودار الإفتاء المصرية معا الترحم على ضحايا كنيسة "أبو سيفين"، والاكتفاء بالتعزية والدعاء بالشفاء للمصابين.
قلوبنا مع إخواننا في الوطن؛ أهالي ضحايا ومصابي كنيسة أبي سيفين بمنطقة إمبابة بالجيزة... أتوجه إلى الله بالدعاء أن يربط على قلوب أهالي من رحلوا بالصبر الجميل، كما أسأله سبحانه وتعالى الشفاء العاجل للمصابين.
— دار الإفتاء المصرية 🇪🇬 (@EgyptDarAlIfta) August 14, 2022
في المقابل، كان ترحم الأزهر، بعد يومين فقط من حريق الكنيسة، على ضحايا فيضانات السودان واضحا.
..يعرب الأزهر عن خالص تضامنه مع دولة السودان الشقيق في تجاوز هذه المحنة داعيًا المولى -عزَّ وجلَّ- أن يتغمد الضحايا بواسع رحمته وأن يُلهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان وأن يمن على المصابين بالشفاء العاجل وأن يوفِّق هذا البلد العزيز على تجاوز محنه وأن يرزقه السلام والأمان والاستقرار
— الأزهر الشريف (@AlAzhar) August 16, 2022
لكن بالرغم من الهيمنة شبه المطلقة للرأي الرافض للترحم، بدأت تظهر الكثير من الآراء الفقهية المخالفة، خاصة في العقود الأخيرة، مشكلة تيارا فقهيا متصاعدا يحاول تقديم قراءة بديلة للنصوص الدينية.
نعم يجوز الترحم!
مال العديد من رجال الدين المعاصرين للقول بإباحة الدعاء والترحم على الموتى من غير المسلمين. من بين هؤلاء، الشيخ المثير للجدل يوسف القرضاوي، الأمين العام السابق لاتحاد علماء المسلمين. في سنة 2005، نعى القرضاوي البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية. وقال حينها: "لا نستطيع إلا أن ندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه بقدر ما قدَّم من خير للإنسانية وما خلف من عمل صالح أو أثر طيب".
طبعا، لم يمر ترحم القرضاوى على البابا يوحنا بولس الثاني مرور الكرام، فقد انهالت عليه الردود والإدانات.
يؤيد الباحث الفلسطيني عدنان إبراهيم هو الآخر جواز الترحم على غير المسلم. في مارس 2018م، قدم إبراهيم محاضرة بعنوان "حوار افتراضي بين ستيفن هوكينغ والله"، دافع فيها عن عالم الفيزياء الإنجليزي الملحد الذي أُصيب بإعاقة جسدية منذ صغره. تعاطف إبراهيم مع هوكينج، وقدم مجموعة من الالتماسات التي تبرر الدفاع عنه والترحم عليه.
ومع تفجر الجدل، قبل أشهر، عقب مقتل شيرين أبو عاقلة، ترحم الكثير من علماء المسلمين على الصحافية الفلسطينية، مسيحية الديانة. من أشهر هؤلاء، علي القره داغي، الأمين العام الحالي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. قال داغي في بيان أصدره بالمناسبة: "... في القرآن نجد أن الرحمة ومشتقاتها وردت فيها مئات المرات، وأن هذه الرحمة شاملة في الدنيا للمسلم والكافر، وبخاصة من مات مؤمنًا، وأنها شاملة لغير المؤمنين في بعض الأمور، فمثلاً إن دعاء سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم القيامة، واستجابة الله له يشملان جميع الناس في المحشر، وهذا محل اتفاق بين العلماء وأن هذا بلا شك جزء من الرحمة الإلهية…".
بسم الله الرحمن الرحيم فتوى حول استعمال لفظ الشهيد ،والدعاء بالرحمة لغير المسلمين بقلم أ. د علي القره داغي الأمين العام...
Posted by Dr. Ali Al Qaradaghi (د. علي القره داغي) on Friday, May 13, 2022
الشيخ المصري عصام تليمة كان أيضًا ممن دافع عن الترحم على شيرين أبو عاقلة. برر تليمة موقفه بقوله إن: "قضية الترحم على غير المسلم، قضية جرى فيها الخلاف، أقر بذلك من أقر أو أنكر، ولا يُنكِر الخلافَ إلا من لم يطلع على دقائق العلم والخلاف الفقهي... فمن الفقهاء من أجاز الترحم، وأجاز الدعاء له بالمغفرة غير ما يتعلق بالشرك بالله تعالى، وهو ما يدخل في دائرة عفو الله تعالى ورحمته، كما في قوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)".
في السياق نفسه، أكدت بعض القيادات الأزهرية في مصر إباحة الترحم على الميت غير المسلم، ورهنت ذلك بسلوكه الطيب في حياته. يقول أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية: "إن الترحم على غير المسلم الذي عُرف عنه الطيبة والأخلاق الكريمة، فإذا المسلم أراد أن يدعو له بالرحمة بالمعنى العام فهذا جائز. إن الرحمة أوسع من المغفرة، ونص العلماء على أن رحمة النبي تنال كل الخلائق في الدنيا والآخرة، وفى الآخرة تفزع الأمة للنبي لطلب الشفاعة مؤمنهم وكافرهم، فيشفع في الأمم للتخفيف عنها، وبالتالي المُنهى عنه الاستغفار، لكن الرحمة بالمعنى الأوسع والأعم ليست كذلك".
جذور قديمة
الرأي الفقهي القائل بجواز الترحم على غير المسلم ليس حديثا بالكلية في الحقيقة. بل، يجد جذوره في بعض التفسيرات الفقهية القديمة.
على سبيل المثال، يقول الطبري في تفسير الآية 156 من سورة الأعراف "...قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ…" إن الرحمة عمت جميع الخلق من غير تفرقة بين مسلم وكافر.
ويضم القرآن الكثير من الآيات التي يمكن أن يفهم منها الله من الممكن أن يغفر "للمشركين" عوضًا عن تعذيبهم. من ذلك الآية رقم 118 من سورة المائدة "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم". في السياق نفسه، ورد ما يفيد جواز الترحم على الأبوين غير المسلمين، كما في الآية رقم 41 من سورة إبراهيم على لسان النبي إبراهيم "رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ".
ووردت الدعوة بالمغفرة لغير المسلم في بعض الأحاديث المنسوبة للنبي أيضًا. من ذلك ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود "كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النَّبيِّ يحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ ويقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ".
بناءً على تلك الإشارات المتواترة، حاول بعض العلماء أن يجدوا سبيلًا للتوفيق بين الآيات الناهية عن الترحم على غير المسلم من جهة، والآيات التي أجازت هذا الأمر من جهة أخرى. فعمل هؤلاء على التفرقة بين الرحمة والمغفرة، فأثبتوا الرحمة للجميع -مسلمين وغير مسلمين- بينما خصوا المسلمين وحدهم بالمغفرة. وكان أبو بكر البيهقي، المتوفى 458هـ، من أشهر هؤلاء العلماء. ينقل عنه النووي قوله إنه: "من الممكن ألا يكون طلب الرحمة لغير المسلم بقادر على تخليصه من النار وإدخاله الجنة ولكن يخفف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها سوى الكفر بما فعل من الخيرات".
بل إن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أن غير المسلم الذي يجهل حقيقة الدين الإسلامي "يُعذر بجهله"، وتُرجى له الرحمة، وبأن الله من الممكن أن يصفح عنه.
من أول هؤلاء، الجاحظ، الأديب والمتكلم المعتزلي المشهور، والذي نُقل عنه قوله: "إن الله لا يعاقب الكفار، إلا أولئك المعاندين الذين يدركون الحق ويحيدون عنه حرصًا على جاه أو رئاسة، أما الباقون منهم-وهم الذين يمثلون سواد الناس وأكثريتهم- فإن من الظلم عقابهم لأنهم لا يفهمون الحق إلا من خلال العادات والتقاليد التي نشأوا عليها والله ليس بظلام للعبيد".
العالم الأندلسي المعروف ابن حزم قال بدوره في كتابه الموسوعي "الفصل في الأهواء والملل" إنه "لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم".

لاحقا، سيفتح باب "العذر بالجهل" على مصراعيه على أبي حامد الغزالي، إذ نجده في كتاب "فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة" -وهو أحد كتبه الأخيرة- يقول: "إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والفرس ولم تبلغهم الدعوة".
والملفت أن هذه الأقوال لم تُعرف فقط عند المعتزلة أو السنة، بل نجدها أيضًا في كتابات العديد من الفقهاء والمتكلمين الشيعة. ومن أشهرهم بهاء الدين العاملي، والمعروف بالشيخ البهائي المتوفى 1030هـ، إذ نُقل عنه قوله: "إن المكلف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء وإن كان مخطئًا في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف أهل الحق"، وذلك بحسب ما يذكر محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة.
التقليديون: لا يجوز الترحم!
أمام كل الآراء السابقة، ينتصب الرأي الفقهي التقليدي الذي يعتبر أن الإنسان واقع بين خيارين لا ثالث لهما. فإما أن يكون مؤمنًا مسلمًا، وإما أن يكون غير ذلك. وبالرغم من أن مؤيدي هذا الطرح وضعوا هامشًا واسعًا لتوصيف غير المسلم، فوصفوه بـ"الذمي" تارةً، وبـ"المشرك" تارةً أخرى، إلا أنهم في كافة الأحوال نظروا إليه على كونه عاصيًا، شقيًا، ضل طريق الحق والاستقامة!
من أهم الآيات القرآنية التي استند إليها أصحاب هذا الرأي، الآية التاسعة عشر من سورة آل عمران "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ". يشرح ابن كثير هذه الآية في تفسيره، فيقول: إن فيها "إخبارا من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام". ورد المعنى نفسه في بعض الأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد، ومن أشهرها الحديث الوارد في صحيح مسلم، والذي جاء فيه "والذي نفْسُ محمدٍ بيدِهِ، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ، لا يهودِيٌّ، ولا نصرانِيٌّ، ثُمَّ يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كان من أصحابِ النارِ".
صادفت تلك الأدلة مجموعة من الشواهد الأخرى التي تنهى -بشكل قاطع- عن الاستغفار لغير المسلمين. من ذلك ما ورد في الآية رقم 113 من سورة التوبة "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ".
وقد بنت جماهير الفقهاء أطروحتها على كل ما سبق، فرفضت إباحة الاستغفار للميت غير المسلم. على سبيل المثال، يقول النووي في شرحه لصحيح مسلم "...وَأَمَّا الصَّلاةُ عَلَى الْكَافِرِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ فَحَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالإِجْمَاعِ". الحكم ذاته ذكرته الموسوعة الفقهية الكويتية المعاصرة. جاء فيها "اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ مَحْظُورٌ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّ الاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ يَقْتَضِي كُفْرَ مَنْ فَعَلَهُ؛ لأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبًا لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تعالى لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ".